بقدر ما تحملُ زيارة لبنان من إزعاج لأسباب عديدة، فإنك تغادر مطار بيروت لتصل وجهتك ضاحكاً مما تراه، والضحكة هنا هي من شرّ البلية. وكي لا أظلم أحداً، ففي حاجز الجبل جندي لبناني، أصفهُ بكلمة واحدة: رائع.
عند الحدود اللبنانية مع سوريا، يستقبلكَ موظف الهجرة والجوازات اللبناني “ببرمة بوز” ونظرة سبع، إن كنتَ تحمل جوازك السوري، ويسألُ إلى أين، ولماذا، والحجز الفندقي، والألف دولار؟ لكن إن رفعتَ “بخلقتهِ” جوازاً أجنبياً وتحدثت بلغة أوروبية، أصبح أرنباً وصاح بزميله: “مشّي الأستاز”، بل يملأ الاستمارة عنك.
نصلُ لمطار بيروت الدولي، فيسرقك سائق التاكسي الذي لا يتعامل إلا بالدولار، وهو يتحدّثُ عن الأخوّة العربية.
معظم المسافرين لبنانيّون أو سوريون… شاب في بداية العشرين، يبدو أنه يسافر للمرة الأولى مبتعداً عن حضن “الماما”، جاء لوداعه نصف الشعب اللبناني، قبلات وداع ودموع وتوصيات و “تغطى مليح، هاي ألمانيا باردة”، ترمي “الماما” على كتفيه سترة خريفية وتطلبُ منه ارتداءها، ينزعها عنه بعصبية وهو يمسح قطرات العرق عن جبينه. أمام الحجز يبدأ الصراع على الدور، لكن وجود سلاسل قماشية، تمنعُ “الطحش”، ليأتيكَ الميزان، فإن كان معك وزن عادي، جاءكَ الشاب العشريني الذي يقف خلفكَ متجسساً على وزن حقائبك ليقول: “خيي، معي كم كيلو زيادة، معليش تحمل عني هل الشنتة الصغيرة؟” الشنتة الصغيرة تعني 7 كيلوغرام. تسألهُ ماذا تحوي؟ يجيب ببساطة: “شغلات بسيطة حطتها الست الوالدة.” لكنّ رائحة المكدوس تفوح من الشنتة. مكدوس إلى ألمانيا يا تؤبر الماما!
ثم تسمع الشاب أبو المكدوس يتحدث مع أحدهم، أنّه أتمّ دراسة اللغة الألمانية بنجاح، وهو الآن بلبل وعلى أتم الاستعداد لدخول الجامعة، لكن عند الاختبار في الطائرة، ومحاولته التحدث بالألمانية مع المضيفة، يتبلكم ويعرف كلمة واحدة: “was”. ماذا؟
عند آخر موظف هجرة لبناني عبقري، ينظر إليكَ متفحصاً بدقة ثم إلى صورة جوازك، فيقول بذكاء المحقق كونان:
“هيدا الجواز إلك؟”.
“لا يا حبيبي، هيدا الجواز لأم سمير.”
المحقق كونان: “إنته دخلت لبنان من يومين، وين قعدت؟”
“كنت بقصر بعبدا، اسمو فاضي صرلو شهور، تسلملي عينك.” مع تمنياتي أن يجد اللبنانيون “مستأجراً” جديداً لقصر بعبدا…
عند الباب الذي يؤدي للطائرة جلسنا ننتظر موظف شركة الطيران، والأمور بخير. فجأة مرّ أحد الموظفين، فهبّ المسافرون زرافاتٍ ووحدانا وتكوّموا أمامه، الجميع يريد أن يجلس بجانب “الشوفير”، وهنا الطحش الحقيقي، كما في الصورة. الموظف أخذ مجموعة أوراق وغادر وهو يقول مجيباً على أسئلتهم: “والله العظيم، أنا لستُ من الشركة.”. فيأتيه فهلوي قائلاً: “أي دبرها خيي.”. يتأفف الموظف مغادراً. بقي “الملهوفون” متسمرين بأماكنهم أكثر من نصف ساعة، حتى فقدوا الأمل، فتراجع بعضهم وعاد للجلوس، بينما “تنّح” آخرون وبقوا واقفين. أخيراً جاء موظف شركة الطيران، فعادت الحشود للتجمهر أمامه، وكأنّ الطائرة ستطير وتتركهم. كنتُ آخر مَنْ صعد الطائرة ومعي أربعة ألمان، هم الوحيدون الأوروبيون بين الركاب، كانوا يتهامسون مبتسمين مما يروه، وربما ساخرين وهم يتحدثون عن الاندماج…
في الطائرة تشعرُ أنّك في حمّام قُطعت عنه المياه والكهرباء وأصابته قذيفة هاون وضاعت الصابونة؛ صراخ أطفال وبكاء رضيع، وصوت رجل ينهر زوجته: “سكتيه أحسن ما ألعن اللي…”.
عن يميني جلست فتاة في مقتبل العمر، لكنها تشكو من السمنة، لم يدخل لسانها فمها وهي تتحدث مع صديقاتها عما فعلتهُ في اجازتها الصيفية ببيروت، مع ضحكات قوية تهتز معها الطائرة التي مازالت واقفة، وتهتز أيضاً كتل الشحم الاحتياطي الذي ادخرته لأيام المحل… ثم يسود صمت مطبق عندما تتحرك الطائرة وتبدأ بالإقلاع، فتبدأ معها الصلوات والتقرب من الله، أما الفتاة “السمينة” فتحوّلت إلى كتلة شحمية هامدة، وضعت رأسها بين يديها، بينما أمسكت صديقتها بكيس ورقي وضعته أسفل فمها.
بعد المطبات الهوائية الطبيعية على ارتفاع 3 آلاف متر، تستقر حالة الطائرة لكن الصلوات تستمر إلى أن نصل للارتفاع المطلوب، فيعود الضجيج والصراخ للطائرة، وتنتهي الصلوات، لتبدأ مطالب المسافرين الغوالي، والسؤال عن وجبة الطعام والشراب، والشكوى من بخل المضيفات، وليعود الازدحام أمام باب الحمام، وأول الواصلين إليه هي الفتاة السمينة طبعاً.
تسمعُ قصصاً وحكايا المسافرين.
الرجل1: “مرتي سبقتني لهونيك، وعملتلي لم شمل تبع الهجرة مو اللجوء، منشان هيك واصل عا ألمانيا حط إقامة وراجع… قلي شو بتكره؟ بقلك اترك بلدي.”
الرجل2: “صرلي ببرلين 27 سنة، ما حبيت ألمانيا… خيي بلادنا غير شكل.”
الرجل1: “أوف 27 سنة وما معك جنسية!.”
الرجل2: “ها… أي يضربوا هني وهل الجنسية، معي إقامة مفتوحة أحسن من الجنسية… خيي بسبوري اللبناني عندي ياه بالدنيي.”
ويستمر “الخرط”، فنصل لمعلومات جديدة: ألمانيا لديها قانون هجرة، والإقامة فيها سهلة جداً. أما الإقامة الدائمة فيها فهي أفضل من الجنسية! والرجلان لديهما فرط في الوطنية.
يبدأ هبوط الطائرة، فيعود الصمت ومعه الصلوات، والكيس أسفل فم الفتاة السمينة. ما أن تلمس عجلات الطائرات أرض المدرّج حتى ترتفع الرؤوس ويبدأ التصفيق الحاد وأولهم الفتاة التي عاد لسانها للعمل بقوة أكبر، وهي تخطط لرحلة الصيف القادم، أما الألمان الأربعة فقد استطاعوا تفسير كل سلوك غريب عنهم باستثناء التصفيق… لماذا يصفقون؟ ولم أستطع أن أصل معهم لجواب مقنع سوى أنّ المسافرين شعروا أنهم وصلوا بالسلامة.
الحشود التي تجمهرت عند الموظف في بيروت وكأنها على باب فرن في دمشق، وقفتْ ضمن خط منظم وبأناقة أمام موظف الهجرة والجوازات الألماني في مطار برلين، طبعاً لأنه أجنبي، ولسان حالهم يقول للألمان الأربعة: “استروا ما شفتوا منّا”. ويستمر الحديث عن الاندماج.
المهم أنّ “مكدوسات” الشاب العشريني وصلوا برلين بسلام.
إلى اللقاء في رحلة قادمة وتصفيق جديد. الكاتب د. جميل م. شاهين.