القداسَة؛ بين مطرقة الدّين وسندان التطرّف. بحث من مركز فيريل للدراسات ـ برلين. الكاتبة والباحثة سارة عيسى.
تتخذ مسألة القداسَة لدى الإنسان مقاييس مختلفة، ولها تأثير كبير على الوجود والتفكير الإنساني، يمكن وصفهُ بدمغـة القداسة. ولقد استحوذ الدَينُ بشكل شبه مطلق على موضـوع القداسَـة، بشقيه؛ الحسّـي الملموس والغيبي الروحاني. وقام الإنسان بتنظيم الدّين وتوسيعهِ ليشمل كافة مجالات الحياة المعيشية. يقول مؤرخ العصور الوسطى آرون جورفيتش أنّ:
“تميّزت هذه الفترة في الثقافة الشعبية اليومية بالقداسة، وذلك من منطلق الاقتراب من الله في الحياة اليومية للبشر.”
بينما يقول لويس دومون:
“جُزّأتْ هذه النزعة التقديسية لمراحل هي التنوير، والإصلاح الديني ومن ثم بروز النزعة الفردية، ابتداءً من مرحلة انهيار النظام الديني، وظهور فئات متمايزة عن بعضها في مجالات الحياة كـ “الاقتصاد” و “السياسة” و “الأسرة” و”الثقافة” و “تقاليد المجتمع”، لكنها تسير جنباً إلى جنب مع “الدين”.
تُتيـحُ هذه الدمغة الواسعة للقداسة البحث عن وجودها في مجموعة متنوعة من المظاهر، لاسيما السياسية والمدنية، فقد تم تسميتها بالدين من قبل علماء السياسة، فالنزوع نحوها يستحيل اختفاؤه على مر العصور. ونظراً للعلاقة الوثيقة بين القداسة والدين يمكن للمرء القول وبشكل قاطع وكقاعدة عامة: عند توفر قيم القداسة بشكل خصب، فإن الدين حتى وإن كان غيبياً سيلتصق بها، وعندما يتم إيجاد نظام سياسي يدعى بـ “الدين” فإنه سيؤكد على أهمية قيمة القداسة، لهذا تنتعشُ قيم القداسة بسهولة في مختلف النظم السياسية بما في ذلك العلمانية، من خلال القوميات أو الأديان الوافدة عن طريق الهجرات.
القومية هي دين الدولة الحديثة
سعى العقل الغربي، الذي تتلمذ على الأخلاقيات الليبرالية والديمقراطية، لممارسة الحياة السياسية بينما رُكِنَ الدين على الهامش، مما أثار استياء ورثة التنوير وبعض القادة السياسيين الذين تتلمذوا على أيديولوجيات شعبية وقومية تتسـمُ بسِمات القداسة.
كي نفهم وتتوضـحَ لنا العلاقة بين مفهوم القداسة وباقي المفاهيم، علينا أن نبحثَ في سرّ هذا التقارب إلى حـدّ التـلازم بين القداســة وكلّ مِن الدّين والقومية والسياسة، فالدول التي نشأت في الفترة الأخيرة من العصر الحديث، أكـدت أن قوميتهـا في كثير من الأحيان بمرتبـة القداسـة. لهذا استعر الجدل بين السياسة والقومية والدين ليصل إلى الخلاف والصدام، لهذا حسم البعض هذا الجدال بالقول: القومية هي دين الدولة الحديثة.
بغضّ النظر عن كون الدين “تقليدٌ مُختَرَع” أم لا، فهو ظاهرة حديثة ذات عمق تاريخي قليل، وما يهمنـا هنا هو قيم القداسة التي نُظِمت ومورست في الأنظمة الاجتماعية. في هذا الصدد يجب ألا نتغاضى عن أن للأديان العالمية وخاصة التوحيدية، أهمية كبيرة ودور رئيسي في الدول وسياساتها الداخلية والخارجية. إذاً، الارتباط وثيق بين الدين والقومية الحديثة، كما قال الفيلسوف السياسي جون غراي: “التفكير العلماني هو إرث المسيحية وليس له معنى إلا في إطار التوحيـد”. لقد نمت القومية العلمانية الحديثة من فرضية التوحيد، من خلال الفكر التطويري للإنسان، وكانت فرضية التوحيد هذه هي الهويـة التي تحملها الدول ذات القومية الحديثة في العالم.
ازدهرت القومية في القرنين التاسع عشر والعشرين خلال العديد من الصراعات والحروب الكبرى والصغيرة، وكانت قيم القداسة حاسمة لتفتيت أو تماسك الدول الغربية، حتى في تلك الدول التي صُنّفت علمانية.
في دراسة قام بها المنظّر القانوني والسياسي الألماني كارل شميت، خلال فترة جمهورية فايمر والحكم النازي. أبدى شميت قلقه على السيادة الوطنية بسبب قداسة الدولة الألمانية، وأعطى أهمية قليلة للمفهوم الألماني الأصلي للأمة، حيثُ عمّ تعبير (الفولك المقدس) أي الشعب المقدس. رفض شميت هذه النظرية غير القادرة على حفظ سيادة دولة في الأزمات، وجاء بنظرية أفضل من (الفولك المقدس) كأساس لمفهوم الوطنية الكلّي من خلال تبني تصور أكثر حداثة وجوهرية يليق بالقرن العشرين، وحافظ على مبدأ أن الألمان الحقيقيين المتماثلين بالتجانس الثقافي، يتقاسمون الصفات الأساسية للعرق مع باقي الشعوب.
بحلول القرن الحادي والعشرين برز السؤال: هل هناك تحول جذري في العلاقة بين قيم القداسة في الأنظمة السياسية والدينية؟
تثني كل الديانات التوحيدية على معتقداتها في القوة والتسلط بطرق مختلفة، كما قالها أوليفير روي: “نواجه ظهوراً مفاجئاً في جميع الأديان السماوية لأشكال جديدة من التدين.”. يأخذ الإسلام مساراتٍ متباينة بما في ذلك نشوء الحركات الدينية التي تتعلق قداستها بالتفسيرات المختلفة من الأمة الإسلامية. مسار آخر تحول نحو التمييز المتطرف، والذي ألغى أنماط التضامن الجماعي والعمل، ينقل هذا التمييز الكثير من المسؤولية الجماعية داخل هذه الهالة من القداسة وداخل الالتزامات الأخلاقية الشاملة، من المجتمع ليضعها على عاتق الفرد.
لعل دمج القيم وقولبتها في قالب مقدس واحد، هي واحدة من مآسي الحداثة، والتي سيكون لها لإرهاصات الدين الذي يتحدى الجغرافيا السياسية وقيم الليبرالية. حيث يؤدي السعي لتحقيق القداسة إلى أن الفرد بكليته هو ملك نفسه أولاً، وملك المجتمع ثانياً.
الخلاصة: ستبقى قيم القداسة خلال المستقبل المنظور، وليس هناك دليل على تراجعها، ومثلها سيكون مصيـر الدين، وسيكون القرن الحادي والعشرون قرن “الخوف من الله” أكثر منه الاهتمـام بالجغرافيا السياسية.
اتجاهات الدّين الثلاثة الحالية
-
الاتجاه الأول: العودة العالمية للدين، فقد أظهرت الدراسات الحديثة أن الدين يكتسب قوة في جميع أنحاء العالم، ومشاركة سياسية أوسع مما كان عليه في أي وقت مضى. فبفضل عمليات التحديث والعولمة والديمقراطية، شهدت أغلبية الأديان العالمية أهمية استثنائية في عالم اليوم.
-
الاتجاه الثاني: محاولات بعض الدول تقييد ممارسة الشعائر الدينية في مواجهة هذا الانبعاث. كشف تقرير عام 2011 نشره مركز بيو للأبحاث بين عامي 2006 و2009 أنّ ثلث العالم يعيش دون قيود دينية واضحة، بينما يعيش الثلثان في دول تمارس قيوداً دينية عالية جداً. المفاجئ أنّ 1% فقط من سكان العالم، يعيشون في بلدان تتسم بالحرية الدينية. في حين كشف تقرير آخر صدر 2014 أن الاضطهاد الديني قد وصل إلى أعلى نقطة له منذ ست سنوات.
-
الاتجاه الثالث: المقاومة، وهو اتجاه نشأ نتيجة تلاقي الاتجاهين المتناقضين السابقين، فالمتدينون الذين يعانون من الإجراءات الحكومية المقيدة لممارسة شعائرهم الدينية، يعارضون هذه الإجراءات باحتجاج غير عنيف، كما هو الحال في أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أو يكون الاحتجاج عنيفاً لدرجة تمزيق دول وتهديد استقرار جيرانها.