خارطة سوريا 2025. الجزء الثاني

من المضحك أن نرى فيديوهات تزيدُ من غباءِ متابعيها من السذّج، عن تهافت زعماء العالم لكسب ودّ “الطُغمة” الحاكمة في دمشق، أو تتحدث عن بطولات ورقية لعصابات الإرهاب الحاكمة، وكأنّ لدى هؤلاء الإرهابيين أدنى درجات المعرفة أو العِلم أو التميّز، منها فيديوهات تروي “إنجازات” خيالية لزعامات مطلوبة دولياً بسبب جرائمها الموثّقة! أو فيديوهات مُضحكة، مثلاً عن وزيرة خارجية ألمانيا السابقة Annalena Charlotte Alma Baerbock تلكَ “العاشقة الولهانة”، ويتناسى أو يجهلَ السُذّجُ هؤلاء ماضيها “السيء” بالمعنى الألماني.

لكلّ دولة وكيان ودويلة هدفها من التواصل بالإرهابيين في سوريا؛ بعضها لحجز كرسي على طاولة تقاسم النفوذ. آخرون لحل مشاكلهم السابقة مع دمشق بالسرعة القصوى، والتنافس على بعض المكتسبات. هناك مَنْ يُريد إعادة “لاجئي الكفاءات” وإزاحتهم عن كاهل الاقتصاد الضعيف بسبب المساعدات الإجتماعية، أو بشكل أوضح؛ “تخفيف ضريبة الشحاذة”.

دولٌ ودويلات تحاول إشغال فراغ إيران في سوريا، ومنع التغوّل التركي. تغوّل وليس توغل. مثل السعودية والإمارات، اللتان لم تدعما الجولاني بريال واحد، لأنه لم يحقق لهما شروطهما وأوامرهما، لكنهما تسيران على سياسة “انفشو”. سنتطرق لدور محمد بن سلمان لاحقاً فلا تملوا من القراءة لأنه بحث.

لاشك أن إيران تراجعت لتُعيد ترتيب أوراقها بعد هزيمتها في سوريا بسقوط الأسد، وما سبقه من حروب في فلسطين وغزة وحالياً البحر الأحمر، لكنها لم تتراجع أو تتقوقع كما يظنُّ البعض، ها هي تضربُ من اليمن وبقوة وتُهدد في العراق، حتى في سوريا مازالت أياديها طويلة، وتهديد دونالد ترامب وقرعه لطبول الحرب، ربما يجعلها تُفكر أكثر، وعليها أن تحسب خطواتها، لكن حتى الآن لن يثنيها “الحشد العسكري الأميركي” عن توسعها لأنها ترى ترامب طبلاً فارغاً، يُهدد أضعاف ما يفعل، ولاعتمادها أيضاً على أصدقائها ضمن الرباعي الخطير. الحشد الأميركي وصل اليوم إلى 300 ألف جندي، بينما وللمقارنة كان ضد العراق 130 ألفاً، فهل هذا كلّهُ للترهيب فقط؟!

الروسي يُريدُ تقاسم الكعكة وبحصة كبيرة، ويريد المشاركة في العملية السياسية كلاعبٍ رئيسي. اللاذقية وطرطوس تحت نفوذه المباشر، وتركيا ممنوعة من التدخل في الساحل السوري اقتصادياً على الأقل. قوة روسيا على الساحة العالمية تضاعفت مع وصول ترامب وانتصارها في أوكرانيا، وتحويل اقتصادها إلى اقتصاد حرب بعد نجاحها في تخطي العقوبات الأوروبية والأميركية. هذا موضوع آخر  سنعود لبحثه مع التخفيف من مواضيع سوريا التي تشغل مساحةً رئيسية في أبحاثنا.

الموقف التركي والأطماع العثمانية كانت صريحة مُذ طُرِد المحتل العثماني في أيلول 1918، منذ ذاك التاريخ وحُكّامُ أنقرة على اختلاف مشاربهم، يُحاولون العودة بأية طريقة.

تسرّعَ رجب طيّب أردوغان في 8 كانون الأول 2024، عندما اعتبر نفسه منتصراً بتنصيب تابعهِ أبي محمد الجولاني، ممثلاً للسلطان العثماني في الديار الشامية. غير دارٍ بأنّ تجاوزه للدور المنوط بتركيا لا يعني نهايته بل نهاية حزبه ومعه الإسلام السياسي أيضاً. رمَوا الحبل على غاربه عن قصد لأردوغان وتركوه يحلم ويحلم قبل أن يصطدم بالواقع، وهذا ما فعلوهُ ويفعلونه مع الوالي الجديد “الكيوت”

أوروبا تريدُ تركيا كلب حراسة وخطّ دفاع أول ضد الروس. الأميركي وضعَ أنقرة على الرفّ لحين الحاجة. لكنّ التركي ومعه صبيّه الجولاني حلّوا الجيش السوري، وراحوا “بغباء” يُلاحقون “الفلول” المزعومة. وهذا تكرارٌ لخطأ الاحتلال الأميركي للعراق، بل خطأ أعظم. في العراق كانوا أكثر عقلانية وإنسانية؛ أحالوا ضباط وعناصر “جيش صدام حسين” كما أسموه إلى التقاعد. ولم يرتكبوا المجازر أو يُلقوا بعشرات الآلاف في السجون، أو في مقابر جماعية لمَنْ ألقى سلاحهُ. في العراق حُوسبت القيادات البعثية فقط بقانون المساءلة والعدالة، ورغم هذا تشكلت مقاومة عنيفة.

الكلام هنا من أهل السنّة الشرفاء. انتبهوا. سنّة سوريا التاريخيّون من الأحناف والشوافع أصحاب العقيدة الإسلامية الأشعرية الصوفية، وتوجهاتهم السياسية العروبية العلمانية، وفصل الدين عن الدولة، أين كلّ هذا من قرارات وإجراءات عصابة الجولاني الحاكمة؟

الاقتصاد السوري كان بحالة يُرثى لها لأسباب كثيرة، جاءت حكومة العصور الحجرية وزادت دمار الاقتصاد لأنها ببساطة لم تسمع بكلمة اقتصاد أصلاً. السوق السورية مستباحة للبضائع التركية “منهية الصلاحية” وعلى حساب الصناعة السورية. ارتفعت أعداد العاطلين عن العمل بشكل. النمو الاقتصادي تحت الصفر. كساد إقتصادي بكافة القطاعات حتى في مناقصات بيع النفط! الاتفاق مع قسد شكلي وقلنا عنه في مركز فيريل “هش”وفي مجال البترول أيضاً. وفوق هذا؛

سلّمت أنقرة حكومةً متخلّفةً مُصنفة إرهابياً، مؤسساتِ دولة منهارة متهالكة ووضعت في المناصب الأمنية القيادية إرهابيين أجانب مطلوبة رؤوسهم دولياً، معظمهم أعضاء في تنظيمات غير سورية. عشرات الآلاف من الإرهابيين الأجانب، هم القوة الحقيقية لزعيمهم أبي محمد الجولاني، وحتى حرسه الخاصّ الذي قد يقضي عليه عند اللزوم هو عثماني، هؤلاء كلّهم يجمعهم عدوٌّ مشترك هو الشعب السوري ثم فصائل معارضة أخرى وإيران، أما تل أبيب وواشنطن، فلم يسمعوا بها.

 قلنا هو تقاسم وليس تقسيم، فاسم “سوريا” يُزعجُ الدول والكيانات المحيطة، لأنّهُ يدحضُ أكاذيبها التاريخية، ولا نستثني هنا كاذباً. لهذا يعملون على مسح هذا الاسم من التاريخ، وغيرهم كان أشطر وفشل.

ظهر جلياً أنّ جيش الاحتلال تحضّر مُسبقاً لسيناريو سقوط نظام المافيا في سوريا، فخلال ساعات انطلقت طائراته لتدمير قدرات الحيش العربي السوري واحتلت مساحات واسعة من محافظتي القنيطرة ودرعا وصولاً لريف دمشق. استولت على جبل حرمون بقمته، وأنشأت 9 قواعد عسكرية على الأراضي التي احتلتها، كما قصفت وقتلت العشرات من المدنيين، وسطَ صمت العالم ومعهم المُطبّلون من الإرهابيين الذين زعموا يوماً وأولهم الجولاني هذا، أنهم لن يُصلّوا إلا في القدس. الجنوب السوري إذاً للنفوذ والاحتلال الإسرائيلي والشرق السوري للاحتلال الأميركي القسدي، والشمال والوسط للاحتلال العثماني، ماذا عن الساحل؟

طلبت الدول الفاعلة ظاهرياً من الجولاني الكثير؛ مشاركة الجميع بالعملية السياسية وصياغة دستور عصري واتخاذ خطوات ديموقراطية وتفكيك المنظمات الأجنبية الإرهابية، طرد الروس والإيرانيين نهائياً، إشراك المرأة بالحكم إلخ. ماذا نفّذَ من كلّ ما وردَ؟  بكلّ حيادية نقول لم يُنفّذ شيئاً مما ورد، فهل رفضَ ذلك لأنه قوي مثلاً، أم لأنّ الراعي التركي، وتحديداً سيدهُ المباشر هاكان فيدان الطامح لإزاحة أردوغان، لا يهابُ أحداً؟ بالطبع لا، فنظامهُ أضعفُ من نظام بشار الأسد بمرات وتبعيّتهُ للعثمانيين أكبر من تبعية بشار الأسد للروس والإيرانيين، أمّا هاكان فقد طُرِدَ من واشنطن طرداً في زيارته الأخيرة.

ارتكبوا المجازر في الساحل وكما حذرنا وغيرنا أنها لم تنتهِ بعد، ولن تنتهي بسبب الروح الطائفية المزروعة في رؤوس الملايين. قلنا ومازلنا؛ احذروا من مجازر العثمانيين الجديدة، وكما صمتت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا عن مجازر العثمانيين في الماضي ستصمتُ روسيا وأميركا، ولا تكرروا سؤال: أين حقوق الإنسان والعدل والأمم المتحدة وووو، لن يسمعكم أحد ولن يوقف المجازر سوى الإعلام. الإعلام ثم الإعلام، والذي سيتكل على ضمير السياسيين والزعماء ورجال الدين، عليه أن يقرأ الفاتحة على أهل بيته أولاً.

ما أشيعَ عن اتصالات بين رجال دين من لواء إسكندرون المحتل والساحل السوري، وتلك الخطة بطلبِ التدخل الدولي، لتهبَّ تركيا وتصبح اللاذقية وطرطوس أرضاً تركية بعد استفتاءٍ صوري، هو نسخة عمّا حدث في إسكندرون قبيل سلخه 1939. هذه القصة فيها شيء كثير من الصحة، لكن الروس وقفوا بوجه تركيا. فالساحل حصتهم، والسبب مادي بحت وليس بشرياً أو إنسانياً. نُكرّرُ ما قلناه منذ 2015: روسيا جاءت لسوريا من أجل مصالحها أولاً وعاشراً. وكأنّ الذاكرة مضروبة! كلما هاجم الطيران الإسرائيلي مواقع الجيش السوري، كانت الأصوات تعلو: أين هي روسيا؟ اليوم وبعد المجازر نفس الأصوات: أين هي روسيا؟

بأوامر من واشنطن أوعز هاكان فيدان للجولاني بإجراء تسوية مع مظلوم عبدي. سارعَت حكومة جبهة النصرة يومها للتغطية على مجازرها في الساحل السوري وعقدتْ اتفاقاً وصفناهُ بـ “الهش” ومازلنا عند موقفنا. قسد وبعد خنوع الجولاني وعصابته باتت في موقف أقوى، وحصلت إلى حدّ ما على شرعية وظنّت أنّ كثرة الصور مع الجولاني ستحميها من غدره مع أسياده في أنقرة، خاصة مع مباركة أوروبا والولايات المتحدة لهذا الاتفاق، لكنّ ظنّهم خاطئ.

صحيحٌ أنّ قسد هي الحليفُ الأبرز للناتو لمحاربة داعش، لكنّ تحريك التنظيم الإرهابي هذا بدأ ومن قِبَل عدة أطراف بينهم تركيا وقسد نفسها، بعد استيلاء عناصر إرهابية على أسلحة الجيش العربي السوري، وتعزيز  صفوفه بآلاف العناصر الذين أطلقت قسد ثم الجولاني وتركيا سراحهم من سجون محافظة الحسكة ودير الزور، انضمَّ لهؤلاء الإرهابيين آخرون أجانب تستقبلهم المخابرات التركية والقطرية عبر مطارات وموانئ تركيا. هنا يأتي دور الجولاني، البطل المغوار، بتخليص العالم من هؤلاء التكفيريين، على اعتبار أنّه شخص متحضّر، عسى أن ترضى عنه أوروبا والولايات المتحدة وتستغني عن قسد لأنه يقوم بدورها، فهل سينجح؟

يعتبرُ تنظيمُ داعش الإرهابي، ولو شكلياً، أبا محمد الجولاني كافراً مرتداً، والعكس صحيح. هذا الجولاني الوهابي الإرهابي القاتل ومعتنق الأفكار والمعتقدات التكفيرية، وأمير نينوى والقاعدة وقاطع الرؤوس ومفجر المراكز الطبية لأطفال العراق، مع عصابته الحاكمة، هم كفرة! فما هو مستقبل سوريا مع هكذا زعامات؟

نعم، الولايات المتحدة في أضعفِ أوقاتها، وهي بحاجة الآن لمُنقذٍ ومعجزة كي تعود لمكانتها عام 1990 مثلاً. رامبو يرى أنّ ضرب الصغار سيُرعبُ الكبار، لكنه فشلَ مع اليمن وقبلها فلسطين حتى الآن، فليحاول مع الدنمارك. لماذا لا يرفع الجمارك، ويهدد بنما والمكسيك وكندا والاتحاد الأوروبي. ماذا عن قصف إيران؟ هذه العشوائية و “التخبيص” ليست لصالحه أو لصالح الولايات المتحدة، بل لصالح مصانع السلاح والحكومة العميقة، وحتى روسيا والصين لن تقفا تتفرجان، ستستغلان فرصة ضعف واشنطن وتقتحمان ما كان سابقاً خطّاً أحمراً.

الموضوع واسع ويحتاج لجلسات، لهذا سنتوقف هنا بخصوص واشنطن وموسكو على أن نعود إليه لاحقاً. ما يهمنا هو سوريا في هذا البحث،

أمام هذا الوضع العالمي الخطير، ماذا تعني سوريا ومأساتها للدول العظمى؟ أجيبوا يا رعاكم الله.

لاشكَّ أن السعودية انتصرت حالياً على الأقل بتصدّرها للدور الإقليمي، وإن سارت الأمور بهذه الصورة وهذا صعب، فستتحول إلى العالمية وليس الإقليمية فقط. لم يختر دونالد رامبو مكاناً لمباحثاته مع الأوكران والروس سوى السعودية، رغم وجود عشرات الدول التي تتمنى أن تكونَ مسرحاً لهكذا محادثات سلام عالمية أولها تركيا اليائسة. بهذا سُحبَ البسط من تحت أقدام أردوغان العارية.

على فرض سارت الأمور بالروتين الحالي دون اضطرابات عالمية كبيرة، فمن مصلحة العالم باستثناء تركيا وإلى حدّ بعيد إيران أيضاً، أن تكون سوريا دولة علمانية خالية من نفوذ الإسلام السياسي الإيراني التركي وأن تكون على علاقة جيدة بالدول العربية وواشنطن وموسكو وتل أبيب أيضاً. حتى طهران ستضطرُ في النهاية لقبولِ حكم علماني أقلّ شرّاً من حكم الإخوان المسلمين، لكن تركيا التي راهنت ورمت بكافة أوراقها لن تقبل، وستبقى تدافع ليس عن سوريا بل عن وجودها، ومعها أسياد أردوغان في لندن، لندن أصلُ البلاء. فهل سيرفعُ هؤلاء الراية البيضاء أم سيستمرون في سفك الدماء. مع تحيات وتمنيات مركز فيريل للدراسات. هذا البحث من إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات.03.04.2025 صدر في برلين. الباحث السياسي زيد م. هاشم. الدكتور جميل م. شاهين.