سوريا، والدي، وأنا. المهندس باسل قس نصر الله مستشار مفتي سوريا
هل أنت ابنه؟” هذا هو السؤال.
السبب أنّ والدي “إميل” كان أحد الأشخاص الذين أسسوا “الجمعية الخيرية الكاثوليكية” في مدينة اللاذقية، وكان المؤسسون يحملون كلهم – بالصدفة – اسم “إميل”، وهم من عائلات “شيبوب وصوايا وجنبرت” رحمهم الله.
في ذكراها السادسة والستين قررت “الجمعية” أن يضع الأبناء صور آبائهم المؤسسين على حائط مقرّها الصغير بمساحته والكبير بعمله الخيري، فأعلَنت ذلك على صفحتها في وسائل التواصل. قرأتُ المنشور وعلّقتُ عليه: “أفتخر بأني ابن ذلك الأب“.
اتصلوا بأبناء المؤسسين، ولكون أهلي تركوا اللاذقية فلم يتوصّلوا إلى معرفتنا، وعندما قرأوا التعليق، جاءني السؤال السابق.
اتصل بي رئيس الجمعية “المحامي حنا نصّار” وأصرّ أن آتي لوضع صورة أبي. تابعني “حنا” بكل نشاط وحماس، وفي إحدى المرّات مازحته فكتبتُ له “عليك دعوتي على فنجاني قهوة في اللاذقية” فأجابني “من عيوووني، وأحلى فنجان قهوة، وأحلى فرخ سمك”.
سافرتُ إلى اللاذقية، ورفعتُ صورة والدي في مقر الجمعية الواقع في “مطرانية الروم الكاثوليك”، وتكلمتُ عن ذكرياتي وأنا ولد صغير، فقلتُ: “لم تكن هناك كنيسة، فاستأجروا الطابق الأرضي من البناء الذي نقطنه والذي هو ملك للدكتور “مختار علواني”
رحمه الله، المسلم عقيدةً والإنساني توجهاً.
كان المصلّون بعد “قداس يوم الأحد” يصعدون إلى بيتنا لشرب القهوة، وكانت “الصبابا” يساعدنَ والدتي بعمل القهوة وتقديمها، وبعد انصرافهم ونظراً لعدم وجود أخوات لي، كنتُ أضع “كرسي حمام” أمام المجلى لأقوم بغسيل الفناجين.
يا لها من أيام جميلة، مليئة بالمحبة والتآخي، لقد تعلمتُ أول درس في المحبة الإسلامية المسيحية من خلال د. علواني ووالدي إميل، لم يؤسسوا لندوات ولا لمحاضرات حول العلاقات الدينية، بل قام الدكتور “مختار علواني” المسلم باستضافة كنيسة مسيحية لأن جاره “إميل” المسيحي طلبَ منه ذلك.
لم يخْلف “حنا” وعده لي، فكانت فناجين القهوة والدعوة على “أحلى غداء”، ومرافقتي في زياراتي الى المرجعيات الدينية المسيحية والاسلامية. زرنا الجميع ومعي صديقي من أيام خدمتي العسكرية “غسان إبراهيم” وهو من الطائفة العلوية، وكان “حنا” هو اللولب والمحرّك، ويعرف الجميع.
عدتُ إلى حلب، وبعد أيام جاءني الخبر الصاعق، أن “حنا” ومعه كاهن دير اللاتين في اللاذقية “شادي بدر“، قد توفوا بحادث سيرٍ، وضجت بهذه الأخبار كل اللاذقية.
فقط منذ أيام، كنا سويّة، لا بل أصريت أن أزوره في بيته لأشكر والدته – وهو وحيدها – على هذه التربية التي ربته عليها، فقال لي مازحاً: “فقط لا تفتح سيرة الزواج – وهو العازب – لأنها تريد أن تزوجني”
اتصل بي أحد المشايخ “السنّة” الذين زرناهم، وسألني: “أليس حنا المتوفى هو نفسه الذي زارنا معك؟” واجبته بغصةٍ، “نعم”، فقام هذا الشيخ السنّي مع صديقي العلوي بتقديم العزاء من أجل حنا المسيحي وفي الدير المسيحي.
هذه هي أخلاقنا، وتربيتنا، وحضارتنا.
بعد سنواتٍ من حربٍ ذات لباس ديني، حاولوا بها التفريق والتكفير والتقسيم الطائفي، ولم يستطيعوا. جموع غفيرة من كافة الطوائف والملل قدِموا للعزاء بشخصٍّ تجاوز الطائفية وبنى الجسور.
نم قرير العين “أيها الأب “شادي بدر”، وأيها الصديق “حنا”.
اللهم اشهد أني بلّغت