اللافتُ هو تصريحات اليوم لرئيس وزراء إقليم شمال العراق نيجيرفان بارزاني، الذي نصح الأكراد في سوريا بالحوار مع دمشق، وأن يجدوا حلا في إطار سوريا الموحدة. والسبب حسب رأيه أنّ واشنطن ليس لديها مشروعاً واضحاً تجاههم.
ما الذي يحدث في الجزيرة والشمال السوري؟
فرضَ تحرير الجيش السوري لمدينة حلب من الإرهابيين على تركيا تغييراً في خططها وأهدافها، بعد أن خسرتْ أكبر مدينة يحلم الأتراك من خلالها باسترجاع خلافتهم. تمّ بعد ذلك اتفاق الأستانا وكان شبهَ فرض على أنقرة التي حوّلت أنظارها نحو إدلب والأكراد.
سيبقى تحرير حلب مَفصلاً هاماً
تحرير حلب كان مفصلاً هاماً في تاريخ الحرب، فلو بقيت بيد الإرهابيين، لجعلتها تركيا منطلقاً لعملياتها ضد الأكراد، ولما ساومت ورضخت للروس وحتى للأمريكيين. لأنها ستكون سيدة الشمال السوري دون منازع، ومعها عشراتُ الآلاف من الأتباع، بما في ذلك داعش والنصرة.
حرّرَ الجيش السوري كامل المدينة وأجزاء واسعة من الريف الشرقي والجنوبي، وفكّ الحصار عن نبل والزهراء. هنا لم تتغير حسابات الأتراك فقط، بل واشنطن أيضاً، فبعد أيلول 2016 تبنت الأخيرةُ ميليشياتِ قسد والتي تشكل وحدات حماية الشعب عمودها الفقري. هنا أُجبرت تركيا على الرضوخ لشروط موسكو وعقد اتفاق مع دمشق حول إدلب، لكنها بنفس الوقت تركتْ مساحة للمناورة والغدر.
التقارب الروسي التركي أجبر الولايات المتحدة على زيادة دعمها للميليشيات الانفصالية كعقوبة لتركيا، عسى ألا تمضي بعيداً في علاقتها مع روسيا بما في ذلك صفقة الإس 400، والتي هددت في حال اتمامها بفرض عقوبات اقتصادية وإيقاف صفقة طائرات إف 35.
بواقعية، أصبحت تركيا “طفلاً مدللاً” لدى روسيا، ليس محبة بها، بل لتزيد بعدها عن واشنطن، فجاءت عدة اتفاقات اقتصادية منها “السيل التركي” عندما أعلن مدير شركة “غاز بروم” الروسية أليكسي ميلر، أنّ انتهاء مد الخط الأول من مشروع أنابيب الغاز عبر تركيا سيتم قبل أيار القادم 2019.
واشنطن ردت بالترهيب والترغيب، تارةً بعقوبات اقتصادية جعلت أردوغان لا ينام، ثم حاولت التقارب “البخيل” فعقدت صفقة “منبج” وسيّرت دوريات مشتركة. اضطراب الاقتصاد التركي أجبرها على إطلاق سراح القس الأميركي، والتقى أردوغان بترامب في قمة العشرين، وجاءت قصة “الخاشقجي” المدبرة، طوق نجاة، فزارت جينا هاستل أنقرة للتباحث…
تحسّنت العلاقات “ظاهرياً” بشكل بسيط، لكنّ الولايات المتحدة عادت لزيادة شحنات الأسلحة للانفصاليين الأكراد، ليجد أردوغان نفسهُ وبضغط داخلي كبير، أمام معركة لابد منها… فأطلق تهديداتِه بعملية عسكرية كبيرة. فهل يتجرأ على فعلها دون إذن واشنطن؟
هل سيُحارب أردوغان الأكراد في سوريا؟

ما قامت وتقوم به واشنطن بدعمها للانفصاليين الأكراد، يُشكل خطراً على الأمن القومي التركي، وطبعاً السوري والعراقي والإيراني. ولو كان بإمكان أنقرة التصرّف باستقلالية والدفاع عن أمنها القومي، لما انتظرت كلّ هذه الفترة…
الخبير بالاقتصاد يعلم أنّ الولايات المتحدة إن أرادت سحق الاقتصاد التركي، يمكنها فعل ذلك خلال ساعات… لكنها تقوم بوخز أنقرة كلّ فترة كي لا تتجاوز حدودها. لهذا نؤكدُ من مركز فيريل أنّ أية خطوة تقوم بها أنقرة، يجب أن يُقابلها ضوء أخضر من واشنطن، وفي حال غامر أردوغان وشن حربه ضد الأكراد، فستكون نتيجة توافق بين واشنطن وأنقرة… والأوامر الأميركية لأردوغان “اقتل بعضَ الأكراد لكن لاتبالغ”.
واشنطن لأنقرة: “اقصفي الأكراد لكن لا تبالغي”
تركيا طفلٌ مدلل، لكن ضمن قفص. في أية لحظة يتلقى الصفعات من حيثُ لا يدري.
أردوغان “المدلل” لدى روسيا، تركتهُ يقطعُ الممر الكردي الذي يمثل خطراً كبيراً على دمشق وأنقرة وحتى موسكو، فجرت عملية عسكرية تركية من جرابلس حتى الباب، ليتم بعدها حصار عفرين.
طلبت دمشقُ من الأكراد آنذاك إعادة عفرين للحضن السوري بدخول الجيش وتجنيب المدينة احتلالاً جديداً… رفض الأكراد نتيجة الضغوط الأمريكية وسلموها لتركيا… نعم، سلّم الانفصاليون الأكراد عفرين لتركيا…
واشنطن تسمح لتركيا بقصف الأكراد
نقاط هامة نوردها لكم:
-
حالياً… ومع التخلّص “الظاهري” من داعش شرقي الفرات بانتقال هجين والباغوز من احتلال إلى احتلال، ونقل قيادات التنظيم الإرهابي وتوزيعها على عدة دول حول العالم، بدأت أوراق ميليشيات قسد تسقط في واشنطن، وانتهى عمل “كلب الصيد“ ولابد من “كلب صيد جديد”… رغم ذلك فالسماح لتركيا بالتوغل لمسافة بعمق 30 كلم، مازال قيد التباحث ولم يصدر الضوء الأخضر بعد… التوغل في الرقة، وهو حل وسط يُرضي القوميين الأتراك ويُعزّزُ قطعهم للممر الكردي، وبنفس الوقت تتراجعُ الميليشيات الانفصالية جنوباً وشرقاً ويبدأ القسم العملي من “الانفصال” عن الجسد السوري.
-
تركيا “الراعي الرسمي للتنظيمات الإرهابية في سوريا”، باحتلالها الأراضي السورية بشريط حدودي متباين الاتساع وتوطين الإرهابيين التابعين لها هناك، بغطاء عسكري مباشر، هو أفضل ما تريدهُ واشنطن لإشغال دمشق وموسكو وطهران وخلط الأوراق. فتستمرُ الحرب في سوريا إلى أمد غير محدّد.
-
إرضاءُ أنقرة سيبعدها عن موسكو، خاصة بعد التصريح الأخير لروسيا بأنّ اتفاق إدلب لا يسير بشكل جيد، وهو يؤكدُ وجود خلاف معها.
-
مع سيطرة كاملة للانفصاليين على شرقي الفرات، ستبدأ سرقة الغاز والبترول السوري بشكل علني من قبل الشركات الأميركية، وبأيدٍ سورية كما ستقول واشنطن إن سُئلتْ. التصدير سيمر عبر تركيا، والجميع يجني الأرباح باستثناء صاحب الأرض!.
-
بانجاز كل ما ورد، سيتعقّدُ الوضع العسكري في الشمال أكثر، وتصبح هناك ثلاث قوى شبه متحالفة ضد الجيش السوري، الناتو متمثل بتركيا والولايات المتحدة وفرنسا، جيش من الانفصاليين الأكراد، وجيشٌ من الإرهابيين…
مصير الرقة ودير الزور!
الرقة ذات أغلبية عربية ساحقة، لا توجد فيها بيئة حاضنة للانفصاليين، لهذا بقاؤهم فيها لا جدوى منه، وتسليم المدينة وجزء واسع من ريفها للإرهابيين المدعومين من تركيا، وفق اتفاق بين المحتلين، نراهُ في مركز فيريل أمراً متوقعاً…
الجيش السوري متواجد جنوب الفرات وغربه، في ديرالزور وريف الرقة الجنوبي، مع حضور روسي وقوات إيرانية. أي أنّ الأتراك لن يستطيعوا التمدد بعيداً في محافظتي الرقة وديرالزور.
دون شك هناك بيئة حاضنة للإرهاب وللتنظيمات المدعومة من تركيا، لكن بالمقابل توجدُ نسبة جيدة من الوطنيين في المحافظتين. فتحرير الجيش السوري للمناطق من داعش كان خلال فترة زمنية قياسية، مقارنة بمحافظات أخرى بسبب اشتراك فعّال للدفاع الوطني من أبناء العشائر.
هامش المناورة السورية
الأمر يزداد تعقيداً وصعوبة في الشمال والجزيرة السورية، لكن هذا لا يعني أنّه سيكون لصالح أعداء دمشق. الولايات المتحدة ستحاول زيادة التقارب بين تركيا والانفصاليين، بعد تأديبهم من قبل الجيش التركي واقتسام المناطق… لكن سيبقى الأكراد والأتراك ومن معهم من تنظيمات إرهابية، أعداء… هنا يتم استغلال الوضع بزيادة العداء الذي يجب ألا يهدأ دون تدخل مباشر من دمشق…
وحدات حماية الشعب الانفصالية، دعت مراتٍ الحكومة السورية إلى حماية حدود سوريا وأرضها، مؤكدة استعدادها للعمل عسكرياً مع دمشق “لصد تركيا”! هذا تصريحٌ له عدة جوانب يجب الانتباه من خباياه، مع تصريح بارزاني الذي جاء ببداية المقال…
عندما يجد الانفصاليون أنفسهم ضعفاء لمواجهة تركيا، يتوسلون على أبواب دمشق، وعندما لا تهدد أنقرة يصبحون أسوداً ويطالبون بالانفصال.
الاحتمال الآخر الأخطر؛ أن تكون واشنطن طلبت منهم ومن برازاني هذا لزج الجيش السوري في مواجهة مع الجيش التركي وإرهابييه.
بجميع الأحوال؛ أردوغان معروف بأنه ثرثار يتكلم كثيراً ويهدد أكثر ويفعلُ قليلاً، ولكن على فرض أنّهُ نفّذَ تهديدهُ، لا نتوقع أن يغامر بعيداً ويدخل المدن الرئيسية كالقامشلي أو الدرباسية أو عامودا أو المالكية…
التوقعات القريبة في الشمال والجزيرة السورية
احتمال الدخول التركي مازال قائماً، ومدينة رأس العين في محافظة الحسكة والقريبة من الرقة، ستكون الهدف الأول للجيش التركي وإرهابييه، فهي بعيدةٌ عن القواعد الأمريكية والجيش السوري، وأغلب سكان المنطقة من العرب وفيها بيئة حاضنة للمعارضة، بالإضافة لكونها تلاصق الحدود.
كما حدث في عفرين عندما باعها الانفصاليون الأكراد، بعد أن رسموا “بطولات ورقية”، سيتم بيع رأس العين.
أردوغان، إن فعلها والاحتمالات تضعف، لن يمضي بعيداً في محافظة الحسكة كونها معقل الأكراد، وتتصل مباشرة بشمال العراق، لكنه سيرسل طائراته لقصف بعض المواقع الكردية هناك، كما يفعل حالياً في سنجار وقره جاق شمال العراق.
خطوط حمراء رسمتها له واشنطن لا يمكنه تجاوزها، فقوات الاحتلال الأمريكي في الحسكة، تتواجد بمواقع معظمها بعيد عن الحدود، باستثناء نقاط المراقبة التي يمكن أن تسحب منها جنودها فوراً حسب الاتفاق.
ماذا عن القامشلي؟