تتضاربُ الأنباء حول عدد وعدة الجيش التركي الذي دخل الأراضي السورية وتمركّز في محافظة إدلب، المعارضة ومعها أنقرة جعلت الرقم كبيراً للترهيب. بأية حال هذه أرقام مركز فيريل للدراسات حتى لحظة إعداد هذا التقرير؛ عدد الجنود الأتراك في محافظة إدلب بين 7 إلى 8 آلاف جندي بما في ذلك “رهائن” النقاط التركية، العتاد يقارب 2400 قطعة عسكرية بين مدرعات وناقلات جنود وسيارات دفع رباعي ودبابات وراجمات صواريخ ومدفعية، علماً أن تركيا أعطت الإرهابيين حوالي 300 قطعة منها للإرهابيين مع الزي العسكري للجيش التركي.
الجيش السوري يتفوق على التركي في هذه الناحية (عدداً وعُدةً) على فرض عدم مشاركة المجموعات الإرهابية.
يتواجد في إدلب بين 25 إلى 30 ألف إرهابي، يُشارك بين 7 إلى 10 آلاف منهم في القتال الحالي ضد الجيش السوري على عدة جبهات، إنضمامهم للجيش التركي سيغلب الكفة عددياً لصالح تركيا.
هل سينفّذُ أردوغان تهديداته؟
كلما مرت الأيام واقتربُ شباط من نهايته، يُصبحُ السُّلّم الذي يحتاجهُ أردوغان للنزول عن السطح أكثر طولاً. التهديدات التركية لسوريا لم تنقطع منذ إندحار الخلافة العثمانية إلى يومنا، وما يقوله أردوغان صباحَ مساء قالهُ أسلافه من زعماء تركيا، الفارق أنّ رجب أكثرُ كلاماً.
لو كان بإمكان تركيا إجتياح سوريا والنصر على الجيش السوري، لفعلتها قبل التدخل الروسي عام 2015 عندما هدد رجب بالصلاة في الجامع الأموي عام 2012.
الأعمى قلباً وبصيرةً مَن لا يرى الأطماع التركية في سوريا ودول الجوار، ذاتُ الأعمى مَن يقفُ مع الجيش العثماني ضد بلاده والسبب الرئيسي عقدة الدونية المزروعة في النفوس الضعيفة. الأتراك واحد على إختلاف توجهاتهم السياسية من حزبٍ حاكم ومعارضة، وكلهم يصطفون خلف جيشهم وهذه حقيقة نلمسها من خلال معرفتنا في مركز فيريل لأعضاء في حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض… الأتراك واحد في أطماعهم وغرورهم واحتقارهم لباقي الشعوب وأولهم الشعب العربي…
هذا الاصطفاف خلف الجيش التركي يمنحُ أردوغان مزيداً من الثقة، وبنفس الوقت، مزيداً من الارتباك والإحراج إن لم يفعلها. إن لم يفعلها رجب أو يؤمّن له زعيمٌ أو زعماء سُلّم النزول، سيسقط عن السطح وتنكسر رقبتهُ. فرنسا وألمانيا بدأتا ببناء درجات هذا السلم بإنتظار موافقة روسيا على إتمام البناء.
هل بدأت الحرب بين سوريا وتركيا؟
الحرب بمعناها الواسع لم تبدأ لكنها بدأت! كيف؟ ما جرى البارحة الخميس 20.02.2020 في محور النيرب بمحافظة إدلب والليلة التي سبقتها، كان أقل من حرب وأكبر من مناوشات. لاحظوا التاريخ الذي إختارهُ الأتراك على أنه رقم حظّ! دفعَ الجيش التركي جبهة النصرة الإرهابية لإحداث إختراق في النيرب، كان هناك مئاتُ الجنود الأتراك بكامل عتادهم ومن القوات الخاصّة ينتظرون خلفهم كي يندفعوا لاحتلال النيرب والوصول إلى سراقب وقطع طريق حلب دمشق الدولي. الجيش السوري أباد الإرهابيين وقصفَ الطيران الروسي السوري المشترك عدة مناطق لتجمعات الإرهابيين، وكذلك نقطة الأتراك في قميناس وتم تدميرها بالكامل مع مصرع عدة جنود وجرح آخرين. أمام هذا الدفاع القوي، تراجعَ الأتراك عن خطتهم… بإنتظار محاولة أخرى، لهذا لا نرى في مركز فيريل أنّ تاريخ نهاية شباط هو الحاسم… فالحرب بدأت بمناوشات والأتراك حاولوا وسيحاولون وهم الخاسرون حتى اللحظة.
مَن سينتصر في الحرب إن وقعت؟
سنتحدثُ هنا بحيادية بعيداً عن الإنفعالات التي لا تفيد سوى في الإحباط اللاحق. الوضع العسكري دقيق وحسّاس.
أولاً: ليس هناك أية إجابة لسؤال: مَن سينتصر فيما لو اشتعلت حربٌ شاملة؟ سؤال عاطفي يريدُ أن يسمع سائلهُ إجابة محددة، وهذا غير موجود في قاموسنا. الحقيقة تقول: لا يوجد منتصر في الحرب، الجميع سيخسر، لكن هناك خاسر أكبر من الآخر والتقدير يعود لمدى تحقيق المعتدي لأهدافه.
في حرب فيتنام التي بدأت في 1955 واستمرت حتى سقوط سايغون 1975، وأشعلتها فعلياً فرنسا، فهُزمت عام 1954، ثم حلّت محلها واشنطن… في هذه الحرب؛ خسرت فيتنام الشمالية أكثر من مليون و400 ألف عسكري ومدني وكانت تساندها الصين التي خسرت 1200 جندي. بينما خسرت فيتنام الجنوبية ثلث هذا العدد، وكانت تساندها بل تحارب عنها الولايات المتحدة فخسرت 60 ألف جندي وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلاند وتايوان والفلبين 9 آلاف جندي. خسائر فيتنام الوطنية أكثر من ثلاثة أضعاف خسائر أعدائها، لكنها انتصرت لأنها حررت أرضها من المحتل ومعه الخونة من الفيتناميين، الذين رمتهم الطائرات الأميركية المنسحبة عندما حاولوا الفرار إلى خارج فيتنام. وهذا مصير كلّ مَن يتعاون مع عدوّ بلاده. ملاحظة: جيش فيتنام كان أقل عدداً وعُدةً وتطوراً من أعدائها بكثير.
ثانياً: تركيا صاحبة ثاني أكبر جيش (عدداً) في الناتو، وتحتل المرتبة الـ11 عالمياً بعد مصر، وتتفوق على سوريا براً وبحراً وجواً، التي تحتلُ المرتبة 55 عالمياً وفق تصنيف الولايات المتحدة الذي يأخذ عدة معايير في تقييمه، فميزانية وزارة الدفاع التركية تعادل أكثر من عشرة أضعاف ميزانية وزارة الدفاع السورية… يُضاف لذلك حوالي 100 ألف إرهابي من (جيش الإخوان المسلمين) وباقي التنظيمات الإرهابية والخلايا النائمة التي ستتحرك فيما لو نشبت حرب واسعة. الناتج القومي التركي حوالي 784 مليار دولار ويتفوق بكثير عن الناتج القومي السوري، وتركيا ضمن مجموعة أقوى 20 إقتصاد في العالم… هذا ليس كل شيء. تابعوا القراءة كي نعرف ميزان القوى الحقيقي.
ثالثاً: نشوبُ حربٍ شاملة واسعة يعني إختلاط الأوراق وإنضمام أطراف ودول أخرى، وهذا ترفضه وتتجنّبهُ روسيا وإيران وتركيا نفسها وأوروبا بإستثناء بريطانيا التي تسعى إليها مع الولايات المتحدة وإسرائيل وقطر. دخول الناتو الحرب ولو بشكل جزئي يعني توسعها، وحتى الآن لا يوجد مُبرر قانوني ضمن صفحات ميثاق الناتو يُبيحُ إنضمامه، فالباتريوت الذي طلبته تركيا موجود فوق أراضيها ضمن القوات الإسبانية، لكن لا يحقّ لأنقرة إستخدامه لأنّ أجواءها لم تُخترق.
رابعاً: هددت تركيا وهددت ثم هددت بمهاجمة الجيش السوري وإعادته عن المناطق التي تم تطهيرها من الإرهابيين. شُحنَ المجتمعُ التركي للوقوف خلف جيشه ومعهُ مئات الآلاف من السوريين أتباع (الخليفة العثماني)، بينما الفضائيات التركية ومنذ أسابيع، تتفرّغُ لبث صور (الجيش العرمرم) الذي يتحرّكُ لقتال الجيش السوري. بعد كلّ هذا، هل ما نشرته تركيا من قوات، بما في ذلك 30 ألف جندي على الحدود السورية، قام بتفقدهم اليوم الجمعة 21 شباط 2020 وزير الدفاع خلوصي أقار مع جنرالاته، ألا يكفي هذا الحشد الهائل لتوجيه ضربة قوية للجيش السوري كما يتوعد أردوغان؟!
بما أنّ الجيش السوري ضعيف ويمكن لمجموعات إرهابية الإنتصار عليه، كما يُصوّرهُ أعداؤهُ، فلماذا تتكلّف تركيا بمليارات الدولارات في تحركاتها وما سيتلو ذلك من نفقات وخسائر في المعدات والأرواح… ألم يقم الجيش التركي بـ “تحييد” مئات الجنود السوريين، حسب أردوغان ووزير حربه؟ سيجيب البعض: بسبب روسيا… لكن روسيا غير موجودة فعلياً على الأرض، فقط في السماء. روسيا لم تقصف الجيش التركي إلا عندما حاول إسقاط الطائرة الروسية، أي موسكو تتجنّبُ مواجهة الأتراك، المواجهة والفاعل الوحيد على الأرض هو الجيش السوري فقط.
خامساً: التجارب على الأرض تؤكد أنّ الجيش التركي ليس أقوى من المجموعات الإرهابية. خلال عملية ما سُمي بدرع الفرات، شارك 8 آلاف جندي تركي بكامل عتادهم مع سلاح الجو ودعم أميركي، وأمامهم (كالعادة) 12 ألف إرهابي. عدوهم كان 7 آلاف إرهابي من داعش بأسلحة خفيفة ومتوسطة، ثم تحولت أنقرة ضد ميلشيات قسد التي كانت تحارب أيضاً داعش. النتيجة احتلال تركيا مع إرهابيي (كتائب السلطان مراد والجبهة الشامية ونور الدين الزنكي وجيش إدلب…) أكثر من ألفي كم مربع، ومصرع 71 جندي تركي حسب إعتراف أنقرة وأكثر من عشرة أضعافهم من أتباع تركيا. كما خسر الجيش التركي عشرات الآليات بما في ذلك دبابات Leopard 2A4 فخر الصناعة الألمانية خاصة في منطقة الباب. في عملية غصن الزيتون ضد الميليشيات الكردية، زادت تركيا من الإرهابيين الذي “تسوقهم” أمام جيشها كي يُقتلوا أولاً… شارك 22 ألف إرهابي مع 7 آلاف جندي تركي ومعهم سلاح الطيران الذي قصف من داخل الأراضي التركية. الميليشيات الكردية لم تقاتل بشكل فعّال وكانت تنسحبُ من هنا وهناك. مع وصول الجيش السوري توقفت تركيا وإرهابيوها.
سادساً: الجيش السوري اكتسب خبرةً في القتال “المتنوع” عمرها 9 سنوات، وقاتل عشرات الآلاف من الإرهابيين ضمن ظروف سيئة لا يتحملها أي جندي تركي. آخر حرب خاضها الجيش التركي انتهت قبل 102 سنة وخسرها، وهو عاجزٌ منذ 27 تشرين الثاني 1978 عن دحر حزب العمال الكردستاني، بل يتلقى كل فترة ضربات موجعة من مجموعة مقاتلين لا يحملون سوى أسلحة بسيطة. لهذا نقول في مركز فيريل للدراسات (حربُ العصابات خير دواء للقضاء على الجيش التركي)…
سابعاً: مَن ينتظر تحركاً عربياً عسكرياً فاعلاً لمساندة سوريا في حربها ضد عدوّ العرب القديم والدائم، كمَن ينتظر أن يُحرّرَ الجيش السعودي فلسطين. أقصى ما ستفعلهُ مصر والسعودية والإمارات هو عبارات شجب واستنكار مع قليل من الإدانة.
الأول من آذار قادم
الأول من آذار قادم ولن يستطيع تأخيرهُ أردوغان، قواته الحالية داخل سوريا وعلى الحدود ومعها عشرات الآلاف من الإرهابيين غير قادرين على تحقيق تهديدات السلطان العثماني. إمّا أن يُضاعف عديدهُ وعتاده خلال أيام، أو يستجدي الناتو أن يُغيثهُ وقد استجدى ولا مغيث… لهذا سنرى تسارعاً أكبر في العمليات العسكرية ومحاولات مستمية من أتباع العثمانيين لأيّ نصر ولو ورقي قبل إنتهاء المهلة. المحاولات لن تنقطع على محور النيرب الذي بات يُشكّل عقدة لهم، أو فتح جبهات أخرى. تل أبيب، حليفة أردوغان، لن تتوانى عن نجدته بقصف “روتيني” للجيش السوري.
ما يطلبهُ والأصح يتوسلهُ أردوغان هو: (أعطوني نصراً صغيراً قبل الجلوس لمائدة المفاوضات). الآن بات يتحدث عن منطقة آمنة عمقها 30 كم في إدلب بعد أن كان يريد المحافظة كاملة!
طموح السلطان أردوغان كان أن تصبحَ تركيا قوة عالمية عظمى وإحياء الخلافة العثمانية البائدة. تركيا ليست سوى قوة إقليمية في أحسن الأحوال.
تركيا قوية لأنها عضو في حلف الناتو ولأنها تحقق مصالحه وتُنفذُ أوامره. تركيا مازالت قائمة لأنها صديقة إسرائيل وحليفتها وشريكتها عسكرياً وإقتصادياً وثقافياً، وتتقاسم معها الأهداف التوسعية. في حال إنتفاء واحد من الشروط السابقة، لن تستطيع أنقرة البقاء شهوراً على الخارطة.
بقاء أنقرة على الخارطة مرهون أيضاً بدرجة عدائها لموسكو. قتلَ أردوغان السفير الروسي وأسقط السوخوي الروسية، لكنه ركعَ كي تصفحَ عنه روسيا، وفعلتْ لأنها أطعمتهُ إبرةً… الروس ليسوا إغبياء كي يأمنوا عدوهم التاريخي التركي، وعيونهم ليست على “السلطان الصغير” بل على سيده الأميركي.
يحلو لعبدة العثمانيين تصوير تركيا كدولة عظيمة قوية. عند حساب قوة الجيوش والدول بعيداً عن التصنيفات الأميركية المنحازة، فإنّ تركيا، دون دعم خارجي، لن تصمد أمام إيران أو مصر مثلاً. وما كانت لتنتصرَ على سوريا أو العراق عسكرياً في الثمانينات.
هل سيحارب الناتو من أجل تركيا؟
يعتقد حكّام أنقرة أنّ بإمكانهم اللعب مع روسيا وتهديدها بالإنعطاف نحو الناتو وتقديم أنفسهم على أنهم “كلب الصيد المخلص” الذي سيصطاد لهم موسكو ودمشق وطهران و… ماذا سيقول لهم ترامب بخصوص أتباعه “الحالمين” من الإنفصاليين في الجزيرة السورية؟ ماذا سيفعل ساسة تركيا بصفقاتهم التجارية مع روسيا وإمدادات الغاز، التي لن يعوضها لهم البيت الأبيض. تركيا لن تُفكّر، مجرد تفكير بالوقوف عسكرياً بوجه روسيا.
إذا كان أردوغان يعتقد أنّ الناتو سيهبّ لنجدته في إدلب، فعليه أن يصحو، الناتو لن يُحاربَ روسيا من أجل كلب صيد يمكن شراؤه بثمن أقل من ثمن أيّ حرب، أبعد ما يمكن أن تفعلهُ واشنطن هو قصف “شكلي” لبعض مواقع الجيش السوري مع تغطية لوجستية إعلامية، وتحريك الباتريوت إلى لواء إسكندرون المحتل… المضي أبعد يعتمدُ على الردّ الروسي، فهل ستتراخى روسيا؟
بدون شكّ وقعَ أردوغان في المصيدة التي طالما تحدثتُ عنها، وإخراجهُ منها مازال ممكناً، لكنهُ سيخرجُ هزيلاً مترنحاً مفضوحاً إن لم يُحارب الجيش السوري ويهزمهُ ويعيدهُ إلى ماوراء خان شيخون ومعرة النعمان وسراقب وغربي حلب…
إن قرر أردوغان الهجوم الواسع مع إرهابييه؛ الجيش السوري سيخوض معركة وجود من أجل سوريا، وبمساعدة من الحلفاء وروسيا. الجيش التركي والإرهابيّون وبمساعدة من الناتو، سيخوضون معركة من أجل أردوغان ونرجسيته وأحلامه فقط. وهنا الفارق…
إن قرر أردوغان التراجع عن “أَقسامه” بفتوى من الشيخ بوتين، فها هما على الهاتف الآن والفتوى البوتينية تقول: (سأضعُ لكَ عدة دَرَجاتٍ في السّلَم الطويل يا أردوغان، وعليكَ وباريس وبرلين وواشنطن تأمين الباقي…). فكم وكيف ستكون درجات الشيخ بوتين؟ الدكتور جميل م. شاهين. مركز فيريل للدراسات. 21.02.2020 السؤال الأخير: كيف سينزلُ أردوغان عن السطح؟ دعونا ننتظرُ ونراقبُ دون إنفعال ماذا ستحملُ الأيام القادمة من أحداث.