هل يمكن أن تؤدي الذكريات الأليمَة إلى الانتحَار؟ د. جميل م. شاهين

 

ـــ مُقدمــة: لكلّ منّـا ماضٍ، يعشـق العـودة إليـه، أو يهـربُ منـهُ. ماضٍ جَميـل نتمنى أن يعودَ، أو قبيـحٌ نحـاول نسيانه والعودة إليهِ لتصحيحه أو محـوه. في جميع الأحوال، لا نستطيعُ فعلَ شيء، سـوى الابتسامة والشوق أو الحسرة والقلق والنـدم.

تأتي الذكريـات الحزينة نتيجـة؛ فقـد شخصٍ عزيز أو خسـارة لمشروع مستقبلي أو إخفـاق في مجـال الدراسـة أو الحبّ أو العمل أو سـلوك طائـش بمرحلـة عمرية معيّنة، ومن الطبيعي جداً إن يتخذ الفردُ قراراتٍ خاطئة خاصّـةً في بداية حياته، الأسباب كثيرة: حداثة السن، قلة التجربة والخبرة، انعدام الرقابة أو النصح الأهلي والمدرسي، ضعف الرباط الأسري والنقص العاطفي، البيئة المحيطة والرفاق السيّئين. بعد الوقـوع في الخطأ، قد يرى الشخص آنذاك أنّـهُ خطـأ عادي فيدافعُ عنهُ بعنـاد ويكررهُ، وعندمـا يتقدم بـه العمر ويظنُّ أنـه مُتصالـحٌ مع ماضيـه، تبزغُ أحداثـهُ فجأةً بعد سنواتٍ طويلة، لتقضّ مضجعـهُ ويكتشف أن هذا التصالح ما كان أكثـر من هدنـة /على سيرة هدنة هذه الأيام/، وتغطية لنـار برماد الزمن.

إنّ اتخاذنا في الماضي لقرارات واختيارات خاطئة، قد تبقى نتائجها وذكرياتها تلازمنا طوال العمر، وعندما يزدادُ وعينا نقوم بمحاسـبة أنفسنا أو يقوم الآخرون بمحاسـبتنا والتعامل معنا بناء عليها، وتعود الذكريات فنعالجها بطريقة خاطئة ونكتفي بندبِ حظّنـا العاثر، أو نرمي السبب على القدر والظروف، أو نكون عقلانيين واقعيين نعالجهـا بطريقة صحيحة، ونحيلها لنقطة انطلاق نحو المستقبل، سواء كنا في العشرين أو في السبعين، فالبدايـة الصحيحة نصف الطريق نحو النجاح.

الأسوأ عندمـا نتذكر أخطاءنـا ونقف عند الذكريـات الأليمة ولا نتحرك، فنعيد اجترارهـا مراتٍ ومراتٍ إلى أن ننتقلَ من حالة تذكّـر بسيطة، فندخل مرحلة الإكثئاب وقد يصلُ البعض للانهيار العصبي والعُصـاب.

 

ـــ نتـائج الذكريـات الأليمـة والأحـزان بالتتـابع التصاعـدي:

1ـ الحزن والحسرة والضعف والشعور بعدم الثقـة بالنفس.

2ـ العزلـة والانغـلاق والخـوف من المجتمـع الذي نظنـهُ كلهُ يعرفُ بأخطائنـا.

3ـ القلق والوساوس والشكوك التي لا أساس لها، وترقب حدوث أمر سيء نتيجة عودة الفشل في الماضي للحياة من جديد، ومحاسبتنا عليهِ.  

4ـ الشـعور بالنقص والدونيـة تجاهَ الآخرين، وكأن كلّ مَنْ حولنـا ملائكة ونحن الشياطين، والجميع ناجح ونحن الفاشلون.

5ـ التشويش الذهني ليصل لمرحلة الشلل التـام بالقدرة على التفكير بأيّ أمر آخر سوى الماضي، وربط كلّ شـخص أو شيء في الحاضر بهذا الماضـي، والإنشغال عن العمل أو الدراسة، يتلوه الإرهاق الجسدي وانعدام الشهية والوهن العـام وعــدم القــدرة على النـوم واضطرابــه.

6ـ غياب التوازن النفسي والعاطفي، والدخول بنوبات بكـاء فجائية، ويتطور الأمر لخسـارة أقرب الأشـخاص بسبب اضطراب في العواطف، فتحصل حالات طلاق نتيجة ذلك.

7ـ الدخول بمرحلة الإكتئــاب وقد يتلوهُ الانهيـار النفسي، ليصل الحال بالبعض للإصابة  بالعُصَـاب Neurosis، فتبدأ معهم صراعات لاشـعورية، تتجسد بأعراض جسدية ونفسية، كالوساوس والأفكار المتسلطة والمخاوف الشاذة، واضطرابات جسمية وحركية وحسية، تعوق الفرد عن ممارسة حياته السوية في المجتمع، فيشعر المصاب بألم في المعدة مثلاً، ويشكو آخرون من آلام صدرية وحس اختناق، دون وجود سبب فيزيولوجي. وربما يصل الحال بالمريض إلى الإنتحــار.

يعتقدُ علمـاء النفس أن غالبية البشر واجهوا العُصاب بدرجات خفيفة خلال حياتهم؛ إلا أنها عند بعض الأشخاص تطورت واشتدت فأصبحت مرضاً نفسياً.

ـــ العـِــــلاج:

قبل أن أتحدث عن العـلاج علينـا أن نعلـم أنّ الذكـرى المؤلمـة كالمصيبـة تبدأ كبيـرة ثم تصغـر. إن اتبـاع الخطـوات التاليـة سـينقذنا من السـير الحثيث نحو مرض نفسي صعب العـلاج:

1ـ يجب أن نعلـمَ أنّ الماضـي حادثٌ لا يمكن تغييـرهُ، والنـدم والحسرة لا تفيد. لكننـا نملك القدرة على تغيير الحاضـر والمستقبل. ومن الطبيعـي أن تأتينا الذاكرة دائماً بما هو جيد وسـيء من محفوظاتها، ولن نستطيع التخلص من هذه الذاكـرة سـوى بالإرادة والنسيان، أو لدى الإصابـة بألزهايمر أو إصابــة دماغيــة لا سـمح الله.

2ـ الخطـأ نسـبي، ويختلف تقييمـهُ بين شخص وآخر ومجتمـع وآخر، فالفشل في الامتحان يُبالغُ فيه البعض، بينما يراهُ الآخرون دافعاً للنجاح، والفتاة التي شُـوّهت سمعتها لأنها خرجت مع شاب في سيارة، هي شــاذة إن لم تفعلها في مجتمع آخر. القضية قضية صدقٍ في التقييم والمُقيّمين وتحليل الخطأ بطريقة السبب والنتيجة، ونحنُ لا يعنينـا سوى تقييم العقـلاء.

3ـ الابتعـاد عـن كلّ ما يخصّ الماضـي والبـدء بمحـوه تماماً، طبعاً لا أتحدثُ هنا عن فقدان شخص عزيز. علينـا رمي وإتـلافُ وحذف كلّ ما يُذكرنـا به: “رسـائل، صـور، شـات، صحف، هدايـا، موبايل، زجاجة عطر، أصدقـاء على صفحـات التواصل الإجتماعي، أوراق، أشـعار، نتائج امتحانـات…” وتحاشي زيـارة الأماكن أو سـماع الأغاني التي تنعشُ ذاكرتنا.  إن التطورات التكنولوجية المتسارعة تجعلُ من الصعب نسيان الماضي، الذي قد يظهرُ فجأة عبر طلب صداقة على الفيس بوك لشخص نتحاشى حتى تذكّـرهُ، أو شخص اختلفنا معهُ لسبب ما، فنرى أنفسنا ندخلُ صفحتـهُ باللاوعي كي نرى ماذا يفعل، فنعيدُ عداد النسيان إلى الصفر.

4ـ عندمـا تعود ذاكرتنـا للماضي، يجب نبتعد عن التفكير العاطفي الإنفعالي به، وأن نتناسـى الأمور السيئة فيه، ونحـاول تذكر الحسنة. نستعرض إنجازاتنا ونجاحاتنا مهما كانت صغيرة، لدينا بالتأكيد نقاط مضيئة في ماضينا، كنّـا فيها ناجحيـن.فإن استقر تفكيرنا عند حـادثٍ سيء، نناقش أنفسـنا لماذا أخطــأنا، وماذا اسـتفدنا من خطئنــا؟ وهـل سـنكررهُ؟ أي نسخّر تجارب الماضي للاستفادة منها؟ ونجعلهـا لُقاحـاً فعّـالاً يقينـا من تكرار ذاتِ الأخطاء.

5ـ يجب أن نعيـش حاضرنـا، فحمل الماضي لحاضرنا سيجعلنا نُمضي بقية العمر حاملين مشاعر سلبية، ويؤثر على تعاملنا مع أقرب الأشخاص إلينا، كما ينبغي ألا نربـط أحداث وأشخاص اليـوم بماضينـا، هذا الربط يجعلنـا ندور في حلقـة مفرغـة. كلّ شخص قابلنـاه اليوم لا علاقة لهُ بالأمس، فإن تأصّل هذا الربـط، سـنجدُ أنفسـنا نخـسرُ أناسـاً مخلصيـن، كانـوا سيسـاعدونا على التخلص من الماضـي. ينبغي أن نجعلَ من أشخاص الحاضر قادةً لعملية علاج فعالة جداً هي “تجديد الذكريات الجميلة”، فيقوم العقل الباطن عبر الذاكرة باستبدال صورة الحاضر السعيد لهؤلاء الأشخاص بالماضي السـيء.

6ـ علينـا أن نجعل أنفسـنا مراقبيـن لتصرفاتنـا، نقارنها بسلوكنا السابق، فإن تشابهت فنحنُ مؤهلين للوقوع بنفس الخطـأ ثانية وعاشرة. فنغير هذه السـلوكيات فوراً. التغيير يشمل مكامن الضعف في شخصيتنا، والتي دفعتنـا للفشل أو ارتكـاب الأخطاء، فنتخلصُ من الكسل أو المجاملة أو الطيش.  

7ـ علينـا أن نبتعد عن الوحدة والعزلة والسـهر في الليـل، فمساحة الهـدوء والسكينة في الليـل كافيـة لاسـتحضار كلّ فكرة وتصرفٍ سـيء. فنجلس مع محيطنـا، أهلنـا أصدقائنا، نشغل أنفسك بأمور مفيدة ومسلية، نشاهد فيديوهات ومواقف مضحكة. نمارس الرياضـة ونقوم بدورات تثقيفية أو موسيقية.

8ـ عندمـا نعجـزُ عما ورد، يفيدنـا جداً التحدّثُ لشخص مقرّب نثق به، هذا الشخص سيكون مراقباً لنـا ومرشداً بآن واحد، وهنا أنصـحُ بالأم أو الأب الواعي أو بالطبيب النفسي.

أرى من خلال رأيي الشخصي وخبرتي المتواضعة في علم النفس، أنّ أفضل طرق العلاج النفسي، هي ترك المريض يسرد كلّ ما يقلقـهُ من ذكريات سيئة، دون إبداء الرأي أو إعطاء أيّ تعبير. ثم يأتي دور التشجيع والإيحاء والتوجيه.، ويعتمد على إبعاد المريض عن مكان الصـراع وعن المثيرات المسببة لانفعاله، فإن كان كل شـيء يُذكّـرهُ بالماضــي أنصـحُ بالســفر وتغيير مكـان الإقامـة. بينما يكون العلاج السلوكي بتدريب المريض على الاسترخاء، مع منبهـات فجائيـة مثيرة للقلق بدرجات متفاوتة متناقصة بالشدة، هي ما اسميتهُ “اللقـاح” أو التحصين التدريجي.

يُطلبُ من المريض الاعتماد على العقل الواعي فقط لتحريض واستخدام القدرات الجبارة للعقل الباطن، وتغيير مسارها إلى الإطار الإيجابي لحل المشكلة والتعامل معها. يقوم العقل الواعي بتدمير الرسالة السلبية التي يرسلها العقل الباطن عبر الذكرى، والتي كانت تسعى بدورها لتدمير حياتنا.

إن تركَ المريض يسـرد القصص المزعجـة ويتذكرهـا، هي بمثابـة عمل جراحي هجومي على خـراج مزمن، وإخراج القيـح منه بشكل كامل وتجريف المنطقة، عوضاً عن تركـه فترة طويلة بعلاج مُحافـظ ناعم وإخراج القيـح على دفعـاتٍ متباعـدة…

الماضــي يا صديقــي ليـسَ أكثـر من قصّــةٍ نرويهـا، فإن توقفنــا عندهــا، عطّلنــا حاضرنــا، وخســرنا مســتقبلنا

الكاتب: د. جميل م. شاهين طبيب، كاتب وروائي سـوري ـ برلين   18 آذار 2016