سحب الدعم، خطأٌ بريء أم خبيث؟ هل سنرى سحب الدعم بشكل نهائي خلال شهور في سوريا؟

سحب الدعم، خطأٌ بريء أم خبيث؟ هل سنرى سحب الدعم بشكل نهائي خلال شهور في سوريا. مركز فيريل للدراسات. 04.02.2022

ما هو الدعم الحكومي؟

الدعم الحكومي، Subsidy oder Subvention هو سياسة إقتصادية إجتماعية تتضمن مساعدات مالية، تقوم بها معظم حكومات الدول بنسب متباينة، بهدف تخفيض أسعار السلع لتمكين المواطن الأقل دخلاً من شرائها، أو تكون بدعم الصناعة والزراعة عن طريق إعفاءات ضريبية وتخفيضات على أسعار المواد الخام اللازمة أو شراء المنتوجات بأسعار تشجيعية وقروض بفوائد متدنية. في الحالين؛ تتحمّل هذه الحكومة مصاريف مالية كبيرة.

الدعم الحكومي موجود هنا في ألمانيا وضمن الاتحاد الأوروبي أيضاً في المادة 107 TFEU (المادة 87 EGV سابقاً)، وحتى في الولايات المتحدة كان الدعم الحكومي سبباً في أنّ سعر ليتر البنزين أقل من سعر ليتر المياه المعدنية، وكمثال؛ قدّم الاتحاد الأوروبي مساعداتٍ مالية للمزارعين وصلت إلى 41 مليار يورو عام 2015، بينما قدّمت الولايات المتحدة للمزارعين 15,9 مليار دولار عام 2014.

الدعم الحكومي ليس بجديد، السومريون دعموا الفلاحين والمزارعين لاستصلاح الأراضي السبخية في مجرى نهر الفرات الأدنى، بتقديم اليد العاملة المجانية لهم وشجعوهم بمعونات مالية على تربية المواشي وصناعة الأدوات الزراعية في بداية الألفية الثالثة قبل الميلاد.

من سلبيات الدعم الحكومي أنّهُ قد يذهبُ أيضاً للأثرياء على حساب الفقراء، ويمكنُ التلاعب بحجم الأموال المرصودة له خاصة في الحكومات الفاسدة، لهذا يُقال: الدعم الحكومي هو عملية شراء الحكومات الفاسدة لسكوت الشعب.

ماذا يحدث في سوريا؟

لم يفاجئنا يوماً سلوك الحكومات السورية المتعاقبة، وقد سبق وتحدثنا مرات عن القادم على سوريا إن لم تُتخذ خطوات مدروسة من قِبل مسؤولين لمصلحة الوطن والمواطن. يمكنكم مراجعة (الربيع العربي، الجزء الثاني. 9 آب 2018)، ما يجري اليوم وسيجري العام المقبل متوقع ويسير حسب التعليمات تماماً، لهذا فهي مدروسة ضمن اتجاه واحد هو رفع الدعم بشكل تدريجي ضمن صدمات متتالية، يعتقدُ مَن يقف وراءها أنها تهيئة لقبول ذلك شعبياً.

عندما تؤكد الحكومة أنّها “لن” تقومَ بسنّ قانون أو رفع سعر سلعة ما، فهذا معناه العكس

الإعلام السوري ممنوع من متابعة ما يجري

مرّ  قرار الحكومة رفع الدعم، ولو بشكل جزئي، دون إعلان رسمي والذي اقتصر على أخبار اجتماعات الحكومة. وصل مركز فيريل من عدة صحفيين سوريين، رسائل تضمنت “أوامر” من مدراء في الإعلام الرسمي المتنوّع، كلّها شددت على عدم الخوض بموضوع سحب الدعم تحت طائلة المسؤولية والمحاسبة، التالي ملخص ما ورد هؤلاء الصحفيين: (تمر بلدنا بظروف استثنائية علينا مواجهتها بيد واحدة، المطلوب منكم عدم التهليل لأي قرار حكومي، وبنفس الوقت عدم السخرية من هذا القرار أو نقده على وسائل التواصل الإجتماعي بما في ذلك الحسابات الشخصية، وعليكم تبيلغ المقربين منكم بهذا الأمر أيضاً.).

هل ما حصل هو فعلاً خطأ تقني، أم خطة مدروسة؟

تتالت مباشرةً تصريحات “تبريد” الوضع المتأزم شعبياً، فحصلت اجتماعات واجتماعات بينما انبرى وزير التجارة الداخلية عمرو سالم، لنسب ما حصل إلى أخطاءَ تقنية وهو وزير الاتصالات السابق. هنا نرى احتمالين لكلام عمرو هذا: كلامهُ صحيح وبالتالي الخبرة ضحلة لدى الوزارة المختصة وهي فضيحة إلكترونية علمية، فالدعم سُحِبَ عن مئات الآلاف بالخطأ أو ظلماً. أو  كلام عمرو غير صحيح، وبالتالي سحب الدعم مقصود وهو تغطية لإجراءات قادمة يتم فيها سحب الدعم بشكل تدريجي إلى أن يصلوا للشكل النهائي، والمعمعة الحالية هو تهيئة الأجواء ليس أكثر.

سحب الدعم نهائياً، ضارّ أم نافع؟

دعونا نقرأ أولاً ما ورد رسمياً عن حجم الدعم ضمن الموازنة العامة للدولة. عن موازنة 2022 صرّح وزير المالية السوري كنان ياغي في 19 تشرين الأول الماضي:  (يبلغُ العجز في مشروع الموازنة لعام 2022  نحو 4118 مليار ليرة. حجم الدعم فيها يصل إلى 5530 مليار ليرة سورية، مرتفعاً من 3500 مليار ليرة في الموازنة السابقة. سيوزّع الدعم على: المشتقات النفطية 2700 مليار ليرة، دعم الدقيق التمويني 2400 مليار ليرة، إضافة إلى 300 مليار ليرة لدعم السكر والرز، و50 مليار ليرة لصندوق دعم الإنتاج الزراعي ومثلها لصندوق المعونة الاجتماعية، و30 مليار ليرة لصندوق الري الحديث وصندوق الجفاف). أعيدوا قراءة الأرقام بدقة لو سمحتم، ماذا لاحظتم؟

هناك 92,39% من الدعم يذهب للمشتقات النفطية والخبز أي 5100 مليار ليرة، وهو رقم أعلى من العجز. إن طبّقت الحكومة قرار سحب الدعم الحالي عن بعض الفئات، بشكل عادل، نُكرر بشكل عادل، سيتم توفير ما بين 1200 إلى 1500 مليار ليرة سورية. وهنا السؤال الأهم: لنفرض طُبّق القانون بشكل عادل وسُحب الدعم عن غير المحتاجين، أين ستذهب الـ1500 مليار ليرة؟ هل ستذهب لدعم القطاع الزراعي والصناعي ومحدودي الدخل بزيادة الرواتب، أم ستذهب للجيوب الفضفاضة؟

أمّا إذا سُحِبَ الدعم عن الخبز فهذا يعني توفير 2400 مليار ليرة، حسب ميزانية الدولة لعام 2022، وهنا يتكرر نفس السؤال: أين سيذهب هذا المبلغ؟

الدعم العشوائي يُدمّرُ الدولة

نبدأ بسلبيات الدعم. تُعتبرُ الدول العربية أكثر دول العالم من حيث قيمة الدعم الذي تُقدّمهُ للسلع الاستهلاكية، كالخبز والسكر والأرز والأدوية والخدمات الصحية والمياه والكهرباء والمحروقات، حيثُ تبيعُ هذه السلع بسعر أرخص من سعر السوق العالمية مُتحملةً الفارق، وتتجاوز قيمته السنوية ما تقدمه كافة دول العالم النامية،  فهل هذا الإجراء صحيح؟

كما ذكرنا؛ كافة دول العالم تُقدّمُ الدعم بطرق ونسبٍ مختلفة وتتحمّل نفقاتٍ إضافية، وهذا واجبها لا أكثر، لكنّ قيمة الدعم لا تتجاوز في الدول المتطورة نسبة 1,5% من حجم الإنتاج المحلي الإجمالي، ويكون موجّهاً للقطاع الإنتاجي أولاً ثم الاستهلاكي.

الدعم “الاستهلاكي” يُسبّبُ عجزاً متنامياً في ميزانية الدولة، والأخطر؛ يُقوّضُ الإنتاج الزراعي والصناعي. وتحتلُ سوريا المرتبة الأولى عالمياً بنسبة الدعم “الاستهلاكي” إلى الميزانية وهذا استثناء بسبب الحرب. الكويت تُقدّم 26% من ميزانيتها بينما ستُقدّمُ مصر  هذا العام دعماً يصلُ إلى 321 مليار جنيه من ناتجها الإجمالي وقدرهُ 2461 مليار جنيه أي 13%. المفاجأة أنّ الحكومة السورية تُقدّم، حسب الموازنة العامة، نسبة دعم تصل إلى 41,3% وهو رقم كبير جداً.

من شروط صندوق النقد الدولي لمنح القروض، ترشيد الاستهلاك “الإنفاق” ومعه الدعم، لهذا اتخذت مصر والأردن والمغرب واليمن والأردن خطوات تقليص الدعم الحكومي لبعض السلع كالمحروقات والكهرباء. خفّفت هذه الإجراءات من عجز الموازنات السنوية دون أن تنهيها.

الذي يحدث؛ تقترضُ الدولة لتغطية العجز في الميزانية أو ترفع الضرائب على القطاع الإنتاجي فتضرّه، كلّ هذا لتستمر في برنامج الدعم الاستهلاكي، والأصح (شراء صمت الشارع). هنا تُسيء الدولة للقطاح المُنتج والذي يُقدّم لها عوائد ربح جيدة، مقابل الاستمرار في شراء “الصمت”، لكن إلى متى؟

الدعم “الاستهلاكي” يُدمّرُ الزراعة والصناعة

عندما نأخذ كمثالٍ دولاً قوية اقتصادياً، نرى أنها تصبُّ معظم الدعم في القطاع الصناعي والزراعي، أي القطاع المُنتج والمُربح. أمّا في الدول الفاشلة اقتصادياً، فهي تصبُّ الدعم للسلع الاستهلاكية بشكل رئيسي، أي تدعم القطاع “المُخسّر” وهنا لبُّ الموضوع…

أنقذوا الاقتصاد السوري:
بحث شامل لطريقة إنقاذ الاقتصاد السوري 12 حزيران 2020

الحلّ؛ لا تُعطني سمكة كل يوم، بل علمني كيف أصطاد

لن أطيل أكثر سأختصر الحلّ وهو واضح وقد ذكرناه عدة مرات في مركز فيريل للدراسات. (ادعموا القطاع الصناعي والزراعي).

دعونا من أخطاء التخطيط الاقتصادي السابق دون استخدام أي وصف له. ماذا تنتظرُ الحكومة السورية لرفع سقف دعمها لقطاع الزراعة والصناعة؟ قيمة دعم الإنتاج الزراعي في موازنة 2022 هي 50 مليار ليرة أي 0,9% من قيمة الدعم الرئيسية، هل هذا معقول؟!

كم سنة تحتاج الحكومات المتتالية كي تكتشفَ الحلّ؟ هي تُعيدُ اجترار الخطط السابقة وتنتظر نتائج مختلفة! ماذا نُسمي هذا؟ سياسة الدعم العشوائي الاستهلاكي أثبتت عقمها وتدميرها للاقتصاد السوري، بعد أن أهملت الزراعة والصناعة، وتسببت أيضاً بظهور مافيات مهمتها تهريب السلع المدعومة إلى لبنان والأردن خاصة، بالإضافة لاحتكار  سلع أخرى وبيعها فيما بعد بأسعار مضاعفة، كلّ هذا في ظلّ فساد يتنامى دون محاسبة.

كي تخرجَ سوريا من وضعها الاقتصادي المتردي عليها محاربة الفساد أولاً ثم محاربة الفساد، أمّا الاقتصاد السوري فهو بحاجة لإصلاحات جذرية، تبدأ بتغيير سياسة الدعم عن طريق نظام ضمان اجتماعي  عادل، يؤمّن وصول السلع بسعرها المُخفّض للمحتاجين والفقراء بشكل مباشر، دون “خزعبلات” البطاقات الذكية، التي برهنت الحكومة على فشلها لكنها مُصرّة عليها لأسباب “الشراكة” التجارية، أي عدنا للفساد هنا.

الأموال التي كانت تدعم بها السلع الاستهلاكية، يتم توجيهها إلى القطاع الزراعي والصناعي الإنتاجي ودعمهما بتخفيض الضرائب وقروض مُيسرة لأصحاب المشاريع الصغيرة ثم المتوسطة، اعتماداً على الخبرات واليد العاملة المحلية فقط. هنا يتوفّر الناتج المحلي بأسعار مناسبة وجودة عالية ترفد الاقتصاد السوري. يمكن بهذا دعم زراعة الحمضيات والزيتون والقمح والخضروات والفواكه بأنواعها وإنتاج الزيوت والأحلاج ومعها الملبوسات والمنسوجات.  

عندما تُقرّرُ الحكومة رفع الدعم، عليها أن تكون قد جهّزت خطة مدروسة بعناية، تُعوّضُ النقص الذي سيحصل، وتوجد البديل للمواطن الفقير. أما أن ترفع الدعم هكذا بطريقة بربرية دون توضيح، وكأنها تقود قطيعاً لا تكترثُ له، فهي قمة الـ… أترك لكم تعبئة الفراغ.

سبقَ وأعلنت الأمم المتحدة عن أنّ حوالي 60% من الشعب السوري يعانون من إنعدام الأمن الغذائي، فهل سمعت الحكومة “الرشيدة” بهذا التقرير؟ أم هو الإعلام “المُغرِض”؟ يمكن أن نقولَ أنه خطأ “عفوي” عِلماً أنّ الحكومات التي تحترمُ شعبها ونفسها أولاً، تُقدّمُ استقالتها حتى في الأخطاء العفوية، لكن هل لاحظتم أنّ سحب الدعم شملَ ضباط وأفراد الجيش السوري أيضاً؟! هل هي حركة بريئة أم مقصودة؟

سحب الدعم بشكل كامل أو جزئي عن السلع الاستهلاكية، وتوجيه الدعم للقطاع الزراعي والصناعي، خطوة في الطريق الصحيح، لكن بشروط… لم تستطع الحكومات السورية المتعاقبة توفير  أيّ شرط منها، لهذا نتمنى ألا يكون المقصود بهذه الخطوة “الإخوانية” هو دفع الشعب السوري إلى الشارع. مركز فيريل للدراسات. 04.02.2022 Firil Center For Studies. Dr. Jameel M. Shaheen