يزداد الفساد طرداً مع تدني أخلاق المجتمعات، ولا يكون محصوراً بجهة أو هيئة أو فريقٍ معيّن، بل شاملاً يضرب كافة مرافق الحياة ومفاصلها. يزدادُ أيضاً في الحروب وحالات ضعف الدولة، ليتحول إلى وحش يهدم جسد الوطن أكثر مما فعلتهُ الحرب نفسها.
تضاعفت نسبة الفساد في سوريا ثلاث مرات منذ عام 2003؟! يومها احتلت المرتبة 69 عالمياً، وفق مقياس الشفافية العالمي، ثم بدأ التراجع لتصل عام 2010 إلى المرتبة 127. دخلت سوريا عام 2013 ضمن قائمة أسوأ 20 دولة في الفساد، واحتلت المرتبة 168. في العام 2014 تحسن الوضع قليلاً فاحتلت المرتبة 159 عالمياً، لكنها بقيت ضمن قائمة العشرين.
عام 2016 تراجع الوضع إلى أسوأ مرتبة تحتلها سوريا، فلم يقتصر على قائمة أكثر عشرين دولة بالفساد، بل احتلت المركز 173 وجاءت بعدها ثلاثة دول فقط، ولا ندري هل سيتمكن الفاسدون من إزاحة هذه الدول الثلاث في التصفيات القادمة؟
مَن المسؤول عن الفساد؛ الدولة أم الشعب؟
بات الشعبُ السوري يتحاشى كلّ غني أو مسؤول، وينظرُ إليهما بعين الشك سائلاً الغني: “مِن أين لكَ هذا؟” وهامساً بخوف للمسؤول: “لن تكونَ أفضل من المسؤولين السابقين!”. فأصبحَ الشريفُ منهما يُصنّفُ مع الفاسد، لهذا على الأغنياء والمسؤولين الشرفاء الدفاع عن أنفسهم قبل الدفاع عن الشعب والوطن، والعمل يد بيد مع الشعب لمحاربة الفساد.
الفساد مرتبطٌ بالأخلاق العامة، تتأسس التربية الأخلاقية من المنزل، وهي مهمة الوالدين واللبنة الأساسية التي ترافقُ الإنسان طوال حياته، ثم تأتي المدرسة، ثم المجتمع. مهمة الدولة تبدأ مع الصف الأول الابتدائي. في المجتمعات المتحضرة؛ هناك مادة أساسية اسمها “الأخلاق”، وكمثال سبق أن استحضرناه من هنا في ألمانيا، هو شعار يراه طلاب المراحل الأولى يومياً في المدارس الألمانية يقول: (أنا أساعدكَ، أنا أصغي إليك، أنا لا أؤذيك). هكذا يُعلمون أطفالهم، فيتخرجُ معهم جيل مُسالم، يُصغي للرأي الآخر ويحترمُه ولا يؤذيه. جيلٌ يُحبّ وطنهُ ويخرج في مظاهرة ضد الحكومة دون أن يخرّب المرافق العامة، لسبب بسيط: (يشعر معظمُ الألمان أنّ موقف الباصات ومحطات المترو والدوائر الحكومية، هي ملكهم أي ملك الشعب). طبعاً تحصل حوادث تخريب يقوم بها غالباً النازيون أو الطبقات المتدنية، لكنها قليلة. السؤال: (أين هي الحكومات المتتالية في سوريا من هكذا تربية؟)، هنا تبرزُ أخطاء الدولة، وتركيز الدول النامية على الدّين، فتُنتجُ أجيالاً متدينة دون إيمان، تدّعي الأخلاق وعند التنفيذ تكون بلا أخلاق، ويكون أول شعاراتها: “بالذبح جئناكم” أو “بالنصب والسرقة أتيناكم”. وأول عمل يقوم به المتظاهرون هو حرق العلَم، بينما أول خبرة يكتسبها الموظف: “كيف تضعُ الرشوة في الجيب”!
تجري الامتحانات في المدارس والجامعات الألمانية دون وجود مراقبين! وبجانب الطالب كتبهُ والموبايل، وأكبر عارٍ لديهم هو (الطالب الفلاني غشّ في الامتحان)، فأينَ نحن من هذا وقد أصبح الشعار لدينا: (إذا صحلك ابني تنقل بالفحص، لا تقصر.)!. كم هو مخجل مشهد “الشرطة العسكرية” وهي تلقي القبض على الطلاب الذين غشوا في الامتحانات أو حسب ما قيل كانوا يساعدون الطلاب على الغش؟ مخجل للطرفين طبعاً.
الفساد موجود في كافة الدول بما في ذلك ألمانيا، لكن نسبته متفاوتة، وكي لا يُعزى كلّ شيء للحرب كالعادة، فالفساد في سوريا منتشر قبلها، وإن كان بنسبة أقل. فساد طال كبار المسؤولين ليصل لأصغر موظف. سرقة الآثار وطمر النفايات النووية والرشاوى في المشاريع الكبيرة… ونذكرُ أنّهُ عند افتتاح مشفى تشرين، وخلال أسبوع فقط، قام عدد من الموظفين باستبدال صنابير المياه الثمينة، بصنابير رخيصة، وكذلك عند افتتاح مركز تسوق العباسيين، اختفت معظم البضاعة…
الأخلاق مهمة المنزل أولاً، ثم الدولة، لكن المراحل الأهم والأطول تقعُ على عاتق الدولة، وقد فشلوا في خلق جيل وطني يعشق بلادهُ، بل أجيال أول ما تُفكر به في حالات السلم أو عند الأزمات هو تخريب المرافق العامة وسرقتها، أو الهروب إلى أماكن أفضل حسب اعتقادهم.
الفساد الآن
وصلَ الفساد في سوريا إلى الدرك الأسفل، والوضع باتَ خطير جداً ويُنذر بكارثة ستعاني منها أجيال وأجيال، ونحن في مركز فيريل نطلق إنذارنا الأخير: (إن لم يتمّ القضاءُ على الفساد، ستكون آثارهُ أسوأ من آثار الحرب، والمسؤول الفاسد هو أخطرُ من إرهابيي داعش.). كما نُنذرُ المسؤولين بأنّ الاحتقان الشعبي بلغ ذروته، وهو في نفوس شعبٍ صمدَ وقاسى الأمرين، لن يسامحكم على استغلالكم لهُ، وسيكون مصيركم أيها المسؤولين بيدهِ ولو ذهبتم إلى أدغال البرازيل بأمواله المنهوبة، فأنقذوا أنفسكم وعودوا إلى صوابكم…
وصلت مركز فيريل مئات الشكاوى عن قضايا فساد محدودة أو عامة، مع اثباتات وبالأسماء والصور، وتبدأ من موظف وشرطي مرور لتصل إلى مسؤول ممن إذا تحرك بسيارته باتجاه المسبح، تشعر أن جيش هولاكو يرافقهُ.
شكاوى عن الفساد في بلديات ومركز محافظات دمشق، طرطوس، السويداء، حلب، حمص، اللاذقية… فساد في وزارات العدل والأوقاف والتعليم والإدارة المحلية ووزارة الإعلام… فساد في الجمعيات التي تقول عن نفسها “خيرية” وتجمع الأموال بحجة دعمها لذوي الشهداء والجرحى… فساد في الجمارك ابتداءً من الجهاز القديم والحالي… فساد في وزارة الكهرباء واستيراد مولدات كهربائية، والمحافظة على انقطاع الكهرباء لبيعها مع “الليدات”… والأخطر؛ فساد بين ضباط في الجيش وحتى المخابرات، نعم المخابرات، ونحن في مركز فيريل ليس لدينا خطوط حمراء كما تعلمون.
دعونا نضيءُ على النقاط التالية الأساسية:
- ما يجري في سوريا هو حرب عليها ومخطط مسبقاً، لكن ماذا لو كانت النوافذ مُغلقة بإحكام؟ هل سيتمكّن البعوض حينها من الدخول؟ أول الأخطاء كانت من إدارة الجمارك العامة التي شاهدناها بعيننا كيف كان يتم استئجار الحدود مدة ساعة بـ 100 ألف دولار، فتمر شاحناتٌ دون تفتيش يمكن وضع أسلحة نووية فيها. السؤال: (هل تمت محاسبة إدارة الجمارك من رأسها أولاً؟).
- أموال الخليج خاصة قطر والسعودية، التي ذهبَ معظمها لبناء المساجد ودور التحفيظ، هل قامت المخابرات بمراقبتها؟ عندما حذرنا عام 2008 ثم 2010 من أنّ هناك تحضيرات ما تجري في أكثر من منطقة، خاصة درعا، ماذا كان الجواب؟ (ولا يهمك، نحنا ماسكينا تماماً). هل تمت محاسبة جماعة “ماسكينا تماماً“؟ هل تمت محاسبة الفاسدين في وزارة الأوقاف على عملهم هذا؟ أم أنّ أيديهم مازالت مطلوقــة في بناء المزيد من دور نشر “الإخوان المسلمين الجدد” لكن بكرافة وابتسامة “وادعــة”؟؟
- أمراء الحروب وتجار الأزمة… شخصٌ كان عام 2010 قبضاي الحارة، خالي الجيوب والرأس، الآن هو زعيم لمجموعة مسلحة مهمتها “التعفيش” ويمتلك مئات الملايين. ثري يتاجر بقوت الشعب، فيحتكر سلعة معينة لرفع سعرها، وكم من أزمة في أسعار “الكوسا والبطاطا وحتى الخيار والبقدونس”…هل تمت محاسبة تجار الأزمة أمراء الحروب أو تتم محاسبتهُم؟ ماذا عن أزمات الغاز والمازوت واللعب بأسعار صرف الـدولار؟
- الحواجز الأمنية: هل ستقوم وزارة التموين بتسعير ضريبتها “الخاوة” أم تُترك حسب أهواء القائمين عليها؟! سافر مركز فيريل من بيروت إلى دمشق، ثم قام بجولة في عدة مناطق، مروراً بعشرات الحواجز. حواجز “الدراويش” هي المجانية فقط، بينما تسعيرات “براطيل” الحواجز المدعومة متباينة وعلنية، وهناك حواجز مسؤولة عن تمرير مفخخات بعلم أو بدون علم، هل سيتم ضبطها؟
- هل يُعقلُ أن يكون طعام الجندي السوري كما ظهر في الفيديوهات؟!! وهو الذي يُقدّم روحه لوطنه، بينما ابن المسؤول يتمختر بسيارات الفيميه، ولا يتجرأ على الاقتراب من ساحة العباسيين. هل تمت محاسبة “سارقي” طعام الجندي السوري وسلاحهُ؟ أين هذه المحاسبة؟
الجواب على ما ورد: تمت محاسبة الصغار فقط، وهم أضاحي الكبار. والمسؤول الفلاني مختلس كبير لكنه فرّ خارج البلاد. عندما تُصبحُ المسؤولة فلانة خارج سوريا، تظهرُ اختلاساتها فقط.
لن نُخدعَ بمحاسبة شرطي المرور أو موظف بسيط مرتشٍ، حاسبوا الوزير والمدير العام أولاً
كمثال على الفساد؛ نستعرضُ معكم قضيتين، علماً أن الأمثلة لا تُحصى. مع التنويه للتالي: (لسنا بوارد اتهام أحد، سواء كنا نملك الدليل أو لا، لهذا سنتحاشى ذكر الأسماء، تاركين الأمر لذوي الشأن، مع امتنانا للبدء بمحاسبة البعض في عدة دوائر رسمية، أضاء فيها المركز على نقاط الفساد).
قضية وزارة الإعلام/وزارة العدل قرار المحكمة (42)
في قضية يعود تاريخ الادعاء العام إلى 3 تشرين الثاني 2016، برقم 4734، حرّكت جريمة غش الدولة والتعاقد معها والتسبب بضرر مادي، ضدّ أربعة أشخاص. العقد أُبرم مع الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، والدلائل التي قدمتها النيابة العامة كانت دامغة، حسب الادعاء، ليأتي قرار المحكمة /42/ الصادر عن دائرة التحقيق الثاني/مالي بإسقاط الدعوى ومنع محاكمة المتهمين!
المطلوب: إعادة فتح التحقيق، وتبرئة المتهمين، أو ادانتهم، وأن يشمل التحقيق كبار المسؤولين عن هذه القضية، ممن تمّ إعفاؤهم من مناصبهم أو الذين يشغلون مناصب حالية، وعدم ترك القضية تتناقلها الإشاعات. مع التذكير بأنها ليست إشاعات… بالإضافة للطلب بتحقيق من خبراء اتصالات الكترونية لكشف طبيعة الأجهزة التي تمّ نصبها فوق أسطحة الفندق… الفندق؟!
قضية القرض العقاري بـ 9 مليار ليرة سورية
وصلت هذه الشكوى قبل أسابيع للمركز، وتم احالتها فوراً، وحسب المتوفر أنه تمّ فتح التحقيق بها. وهي قرض كبير جداً يعود للعام 2006، امتد فيه الفساد من كبار الأثرياء إلى المسؤولين ليشمل لجنة التحقيق نفسها وهيئة الرقابة والتفتيش. لكن السؤال: لماذا عندما يتقدم موظف فقير للحصول على قرض بسيط، تتم عرقلته أو رفضه بطلب ثبوتيات وضمانات، وهو من أجل ترميم عقار يقطنه مع أطفاله، بينما تتم الموافقة على قرض خيالي لبناء منتجع سياحي وباستثناء! هل يقفُ آلاف السيّاح بالطابور ينتظرون في المراكز الحدودية؟ أم أنّ الوارد للجيوب المتخمة هو الدافع الأساسي؟ ننتظرُ في مركز فيريل ونراقب نتائج التحقيق.
ختاماً وليس أخيراً
يجب أن تكون لجنة مكافحة الفساد من المشهود لهم بالنزاهة، لأنه : (أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ).