بأقل من 500 ألف ليرة يمكنك شراء شقة في دمشق
ملف الفساد 2
لم يأتِ وضع اسم سوريا ضمن لائحة أكثر الدول فساداً إدارياً ومالياً في العالم، عن تجنّ أو عن مؤامرة كونية ضدها، الفساد كان موجوداً قبل 2011، لكنه تضاعف وازداد بشكل كبير خاصة مع انعدام الاستقرار والأهم انعدام المحاسبة والأخلاق، وبات طلبُ الرشوة جريئاً لدرجة الوقاحة، والمحسوبية والواسطة علنية، وسوء الإدارة وهدر الأموال وسرقة ممتلكات الدولة شطارة وذكاء، وشراء ليتر مازوت بات يحتاج للتوسط عند مسؤول، أما التوظيف فيحتاج لهز أكتاف مجموعة من المسؤولين. شمل هذا الفساد أصغر موظف ليصل لمسؤولين بأعلى المستويات، وعندما تتم المحاسبة… يتم التفتيش عن رقبة أصغر موظف، ليأتي الكبار بموظف صغير جديد يكون ضحية المحاسبة القادمة، وهكذا…
متابعة لموضوع الفساد نفتح اليوم ملف فساد طال وزارات: الإدارة المحلية، وزارة العدل ووزارة الداخلية، ثلاث وزارات وبضربة واحدة. وتحديداً “المديرية العامة للمصالح العقارية، القصر العدلي، مديرية الأحوال الشخصية والمدنية.”.
في الصورة: الشعارات تملأ مداخل المديريات والدوائر الحكومية، شعارات نظرية فقط.
نقاط رئيسية على المسؤولين قراءتها أولاً
- الفساد موجود في كل دائرة، وإذا كانت المديرية العامة للمصالح العقارية “المسكينة” هي اختيارنا اليوم، فهذا ليس معناه أن باقي المديريات رمز للطهارة. وننبّه إلى أنّ مركز فيريل للدراسات يمكن أن يتواجد أو أنه تواجد فعلياً في أيّ منها، وملف الفساد جاهز وينتظر النشر.
- أيّ إنكار لما سيرد في التقرير، أو مطالبة من مسؤول مهما كان كبيراً، لمركز فيريل للدراسات بكشف أسماء المتورطين لمحاسبتهم تحديداً، والحجة القديمة بالحاجة لدليل ملموس، هذا لهُ معنىً واحداً:
“اختزال قصة الفساد بعدد معيّن من الأشخاص، وحلّ جزئي للمشكلة “المستشرية” في الدوائر الرسمية”. والمسؤول الذي سيتوانى عن التحقيق بالموضوع بشكل شامل، هو وريثٌ لوائل الحلقي في زيادة عدد ملفات الفساد إلى 1237 ملفاً، نحنُ لا نريدُ استهلاك المزيد من الأوراق، وإلا سيكون هذا المسؤول هو محط أنظارنا في التحقيق القادم.
- الاكتفاء بمحاسبة الموظفين الصغار، هو التفاف على موضوع الفساد، فالذي جرى طال مسؤولين أعلى من موظف الأرشيف أو المستودع، يجب أن تتم محاسبة الرؤوس الكبيرة أولاً.
- كما نسلطُ الضوء على السلبي، هناك الإيجابي أيضاً، فقد رفض عدد من الموظفين داخل المديرية العامة للمصالح العقارية، وفي وزارتي الداخلية والعدل، رفضوا قبول الرشوة، أو السماح بمرور معاملة غير صحيحة، والملفت للانتباه أنّ هؤلاء الموظفين الشرفاء هم الأكثر عوزاً للمال، والأكثر لفتاً للانتباه أنّ: الموظفين الشرفاء لم تظهر عليهم أية مظاهر دينيـــة…
- المؤكد أنّ راتب الموظف لا يكفيه أسبوعاً واحداً في أفضل الأحوال، ويكون الدافع الرئيسي للرشوة هو الحاجة، لكن… وجدنا في حالات كثيرة أن الموظف المرتشي “مُدمن” ومريض بالرشوة، ورغم أنه بوضع مادي جيد، لكنه يُعاني من “متلازمة الرشوة”، وربما يطلبها حتى من زوجته وأطفاله. لهذا نؤكد على:
“لا يرتبط الفساد براتب الموظف بشكل دائم، فالموظفون الذين طلبوا وقبلوا الرشوة كانوا بحالة مادية متوسطة وفوق الوسط، وقد وجد مركز فيريل أنّ ما يصل ليد موظف من الرشاوى شهرياً يعادل راتبهُ أربع مرات على الأقل. هذا الموظف العادي، أما زعيم الشبكة فيصل دخلهُ الشهري إلى 3 مليون ليرة من الرشاوى.”.
- ترتبط الرشوة والفساد أولاً بالأخلاق قبل الحاجة المادية، والذي يحدث هو انحطـــاطٌ أخلاقي لا مثيل لهُ، ترافق هذا الانحطاط مع انحدار غير مسبوق براتب الموظف، تتحمل ظروف الحرب جزءاً من تدني مستوى الدخل، بينما تتحمل سياسة الحكومة الاقتصادية الجزء الآخر، أما تردي الأخلاق فيبدأ من المنزل أولاً، ثم المدرسة والمجتمع والدولة. الجميع مسؤول عن انحطاط الأخلاق دون استثناء.
- أخيراً: “الفساد هو أهم أسباب الحرب في سوريا، وطالما هناك فساد، فالحرب مستمرة… ومحاربة الفساد تتم أولاً بالرؤوس الكبيرة… الكبيرة أولاً…”
تفاصيل التقرير
وصلت مركز فيريل للدراسات عدة شكاوى عن عمليات نصب واحتيال، تتم بصورة قانونية، وتتضمن الاستيلاء على ممتلكات لسوريين هاجروا من سوريا. حصرنا الشكاوى التي يمكن التحقق منها بمنطقة دمشق، وبالمناطق التي يسيطر عليها الجيش السوري، أما مناطق سيطرة المسلحين، فتتم أيضاً عملية الاستيلاء على ممتلكات الغائبين بشكل واسع، والغريب أن تتم بطريقة رسمية!، لكن لا يمكننا التأكد منها على أرض الواقع، لصعوبة الوصول إلى العقار أمنياً.
في الصورة: يمكنك عمل كل شيء في الدوائر الحكومية لكن ليس بالمجان. أن تفتح المديرية لك أبوابها بعد انتهاء الدوام، فهذا ممكن!!
التجربة الأولى السهلة، فك رهن سندات ملكية
علم فريق مركز فيريل أنّ أحد العقارات وهو مبنى مكون من أربع شقق سكنية حديثة البناء بريف دمشق، وُضعت عليها إشارة رهن بسبب تأخر المالك بسداد قرض عقاري، قيمة القرض المتبقية كانت 38 ألف ليرة. صاحبُ العقار سافر قبل سنتين. عن طريق مُعقّب معاملات خبير يجلس أمام عقارية دمشق ندعوه هنا “أبو شاهر”، تمت الأمور خلال أسبوع. دفعنا قيمة القرض المتبقية مع الغرامة، وأعطينا الايصال بالدفع لموظف في العقارية لفك الرهن. تمّت المعاملة بدون عوائق ودون دفع أية رشوة حتى الآن. بقي علينا الحصول على سندات الملكية وهو الأهم. السندات لا تُسلّم إلا لصاحب العلاقة وهو خارج البلاد. هنا كانت الرشوة لموظف ولأمين المستودع؛ 6 آلاف ليرة لكل سند ملكية، سعر رخيص. بعد يومين حصلنا على سندات الملكية لأربع شقق سكنية في محيط دمشق، وهي ما يُسمى “الطابو الأخضر”. لكنها لا تفيدنا بشيء لأنها تحت اسم مالكها الأصلي، لكن لا يمكنه الحصول على نسخة ثانية إن أراد ذلك، وإعطاءها لغير صاحب العلاقة أمر غير قانوني.
بعد يومين اتصل بنا أبو شاهر وهو يصيح: “اكتشفوا أمر سندات الملكية، يجب إعادتها فوراً.”. عدنا إلى عقارية دمشق لنعرف القصة بدقة، وسبب “نوبة الشرف” التي هبطت على هذا الموظف فجأة! الذي حصل أنّ رئيسه المباشر، نسميه هنا “أبو صلاح”، اكتشف الأمر وسوف يحيل القضية للجنة التفتيش. بعد أخذ ورد، توصل معقب المعاملات إلى اتفاق مع أبي صلاح أن يغض الطرف عن الموضوع مقابل 60 ألف ليرة سورية. طبعاً نحن لم نستلم شيئاً ولم نُسلم شيئاً وكل الأمور تمت عن طريق مُعقّب المعاملات أبي شاهر. انتهت القصة بالتالي: “أبو صلاح علم بمرور رشاوى دون أن “يلحس” إصبعهُ، وهذا الذي أثارهُ، فالجميع مرتبط بشبكة، وعندما يقبض موظف صغير يجب أن يُعطي حصة للأكبر ثم الأكبر، موظف المستودع المسكين، حاول أن يكون مستقلاً هذه المرة، فكان الضحية. بعد سؤالنا عن أبي صلاح هذا، وجدنا أنه منتصف الطريق للموظفين الحيتان. ووضعهُ المادي جيد، بينما أفقر الموظفين هو أمين المستودع. هنا انتهت أول محاولة بنجاح، وطبعاً أعدنا سندات الملكية، ولم يعلم أحدٌ مَن نحن.
دخلنا مكتب أبي صلاح الذي كتب على باب القسم: “يمنع دخول المراجعين منعاً باتاً”. كان مكتبهُ مسجداً والحمد لله! والتقوى تنهمر من مسبحة الصلاة التي لا تفارق يديه، كان برفقتنا فتاة، تحاشى أبو صلاح النظر إليها لأنها “فتنـــة”…
التجربة الثانية الأكبر، شقة في دمشق
بعد شكاوى الاستيلاء على أراض وعقارات لسوريين غابوا مؤقتاً أو بشكل نهائي بسبب الحرب. اختار فريق فيريل شقة سكنية غاب مالكها بعد استشهاد عائلته بقذيفة هاون، فغادر سوريا في خريف عام 2014، باتجاه ألمانيا قاصداً ابن شقيقه، ومنذ ذلك الحين انقطعت أخباره، والشقة مغلقة. تحرينا عن الاسم بدقة ومعلومات عن العقار، وكانت أول خطوة هي الحصول على إخراج قيد عقاري، معقب المعاملات أبو شاهر وخلال ثلاثة أيام جاءنا بالإخراج القانوني وقبض 22 ألف ليرة، رشّ منها كما قال على أبي صلاح.
لنقل ملكية الشقة، نحن بحاجة أولاً لهوية شخصية لصاحب العقار أو لوكالة عامة. لكن نقل الملكية بموجب الوكالة غير جائز، لهذا اخترنا الحصول على هوية شخصية لصاحب العقار الغائب أولاً.
هوية مزورة أم حقيقية؟
سماسرة النصب والاحتيال والتزوير، يأتون إليك أمام كل دائرة حكومية، ولا تحتاج للتفتيش عليهم… الهوية المزورة بـ 100 ألف ليرة، والأصلية بـ 200 ألف ليرة. نعم يمكننا الحصول على هوية شخصية أصلية لشخص غائب وكله بالفلوس. أتينا برجل يماثل عمر صاحب الشقة، وبواسطة أحدهم دخلنا في مساومة مع الموظف المختص في دائرة السجل المدني. قلنا له أن المسلحين هاجموا منزله فهرب تاركاً وراءه كل شيء، ويريد هوية بدل ضائع. الموظف أدرك أنّ الأمر غير صحيح بخبرته، فبالغ في صعوبة الحصول على هوية بدل ضائع، والحاجة لموافقات أمنية، وضبط شرطة وسند إقامة إلخ… عندما شاهد “الفلوس” وجد لنا البديل، طالباً فقط ضبط الشرطة وصورتين شخصيتين وسند الإقامة. ضبط الشرطة بـ 2000 ليرة، سند الإقامة من مختار الحي بـ8000 ليرة، وبمبلغ 200 ألف ليرة حصلنا على هوية شخصية بنفس المعلومات. وهذا هو الأهم، يمكن لهذا الشخص البديل عمل كل شيء: جواز سفر، بيع وشراء ممتلكات، زواج وحتى طلاق الشخص الآخر.
في الصورة: ممنوع الدخول إلا للموظفين وللـــ الدفيعة.
المفاجأة الكبرى
عدنا لمعقب المعاملات أبي شاهر، للحصول على سند ملكية الشقة، سأل عنه، فعلم أن صاحب الشقة قد حصل عليه منذ فترة طويلة، ولا يمكن الحصول على نسخة ثانية. لكن يمكننا بيع الشقة أو تأجيرها. طلبنا منه التأكد من عدم وجود إشارة رهن على الشقة، فكانت المفاجأة الصاعقة: “الشقة مباعة منذ 9 أشهر”، أي بعد اختفاء صاحبها الحقيقي بأكثر من سنتين، أي أنّ أحداً قد احتال وقام باستملاكها ثم بيعها. طلبنا التحقق من ذلك ومن اسم البائع. فكانت المفاجأة الأكبر: “ابن شقيق صاحبها الأصلي هو الذي باعها وفق وكالة من عمه، صدرت الوكالة بعد اختفائه في طريقه إلى ألمانيا.”. كلفة الوكالة في القصر العدلي ألف ليرة سورية، وتحتاج لنصف ساعة، ويمكن ببساطة إحضار شخص يحمل هوية مزورة على أنه صاحب الشقة، مع المُوَكل إليه أمام كاتب العدل، وينتهي الأمر، كاتب العدل يتقاضى “أتاوة” 1000 ليرة أخرى. الشقة تساوي 60 مليون ليرة سورية، بيعت بـ 27 مليون ليرة، وسجلت القضية ضد مجهول…
سؤال ذوي الاختصاص
توجه مركز فيريل للدراسات بالسؤال لذوي الاختصاص وحصلنا على الأجوبة التالية:
- إنّ نقل الملكية بوكالة صحيحة مبنية على هوية مزورة، يعتبر صحيحاً إذا لم يتم كشف تزوير الهوية. وشاري العقار بوكالة صحيحة يبقى مالكاً للعقار حتى انتهاء الدعوى القضائية وصدور الحكم.
- تزوير الهوية الشخصية في سوريا… جنحة، المادة 454 قانون العقوبات، عقوبتها السجن من شهرين إلى سنتين!! وعقوبة تزوير عقد البيع، المادة 448 الذي يعتبرها جناية تصل إلى 10 سنوات!. القانون سوف يتغيّر.
- هناك أكثر من 3 آلاف سوري تقدموا بشكاوى فقد سندات ملكية عقاراتهم، وحوالي 50 حالة تزوير مكتشفة. بينما هناك تقديرات بوجود أكثر من 25 ألف حالة تزوير في محافظة ريف ومدينة دمشق، رغم أنّ الرقم الذي وصلنا أعلى بكثير، وهي الأعلى بين المحافظات، وبمعدل عالٍ جداً: 18 حالة تزوير يومياً!!.
- مدة دعوى الاستيلاء على عقار، ضمن المحاكم السورية، حتى بموجب عقد أو وكالة مزورة قد تمتد إلى 8 سنوات وأحياناً 12 سنة.
- كل عائلة أو شخص ترك منزله دون رقابة أو وكالة لشخص موثوق، وهاجر لبلد ما أو حتى بقي في سوريا، قد يعود إليه يوماً ليجدهُ مملوكاً لشخص آخر أو بيع بنصف ثمنه، وعليه إقامة دعوى قضائية والنوم في الفنادق سنوات بانتظار صدور القرار.
- عن طريق الهوية المزورة أو الأصلية؛ يمكن لأي مسلح أو إرهابي أن يسافر داخل وخارج سوريا، ويمر عبر الحواجز الأمنية دون أن يتم كشفه.
استغرق التحقيق وإعداد التقرير 7 أشهر، ابتداءً من شهر أيار 2016، والذي عرضناه هو حالتين فقط من أصل عشرات الحالات التي رصدها فريق مركز فيريل للدراسات في دوائر وزارات: الإدارة المحلية، العدل، الداخلية. ولو أردنا الحصول على هوية شخصية للسيدة أنجيلا ميركل، لنجحنا وبمبلغ 200 ألف ليرة سورية… هوية أصلية تثبتُ أن ميركل سورية الأصل والحسب والنسب.
الشكر الجزيل للعاملين في مركز فيريل للدراسات في دمشق، ولكافة الموظفين الشرفاء الذين ساعدونا في إعداد هذا التحقيق، ولأكثر من موظف في جهاز الأمن والرقابة.
نفقات التحقيق تمت بدعم من مركز فيريل للدراسات في برلين. دمشق: 03.02.2017
نلقاكم في وزارة جديدة وتقرير جديد، فانتظرونـــــا…