تقاسم سوريا وتقسيم تركيا. بحث من مركز فيريل للدراسات. 05.03.2025

تقاسم سوريا وتقسيم تركيا. بحث من مركز فيريل للدراسات. 05.03.2025 الدكتور جميل م. شاهين. برلين. سوريا، صاحبةُ أقدم اسم لدولة موجود بين دول العالم، ويعود لآلاف السنين، وهو بحثٌ واسع سننشرهُ في مركز فيريل للدراسات. سبقَ واختفت سوريا كدولة عن الخارطة عدة مراتٍ، لكنها نهضتْ من بين الركام وعادت بقوة.

تعرّضت سوريا للاحتلال 33 مرة ولم تعرف السلام سوى شهوراً، لكنّها طردتْ الدُخلاء والمحتلين وبزغت شمسها ساطعةً. هذه المرة لن تكونَ استثناءً مهما ضربَ اليأس عقولاً وصاحوا أنّها انتهت، سوريا باقية وستعود.

لا يُمكنُ عزل الأحداث الجِسام في سوريا عمّا يجري في العالم من تغييرات كبيرة ومفصلية. وكي نفهمَ جزءاً من هذه التطورات، علينا أن نبتعدَ ولو نظرياً عن الأحداث الصغيرة، ومقياس صغر الأحداث وكبرها نسبي، كمثال هنا؛ بنظرتنا الداخلية كمواطنين سورييّن نرى أنّ الوضع لم يتغيّر، بل أصبحَ أسوأ مع زوال نظام المافيا السابق وتسليم الكرسيّ لجبهة النصرة الإرهابية. والكلام هنا مُكرر عسى أن يفهمهُ الشُطّار، فتصنيف الإرهاب لم يأتِ من مركز فيريل بل من 196 دولة حول العالم.

الوضع المعيشي والأمني والسياسي من سيء لأسوأ، هذا صحيح، إلى متى؟ لا يُمكنُ لأحدٍ أن يُجيبَ ولو بشكلّ تقريبي، فقارئُ الواقع “العاقل” يرى عدم وجود أية خطوات “واعية” للتغيير نحو واقعٍ أقل سوءاً، وانحصار المشاريع بما يُفيدُ أعداء الحضارة والإنسانية.

إن ابتعدنا قليلاً إلى القاهرة مثلاً، حيث انتهى مؤتمر قمة أشاوس العرب، بالفشل كالعادة وعدم قدوم أهمّ المانحين “الميسورين”، رأينا محاولة عربية جديدة، ومحكوم عليها بالفشل أيضاً، لاستيعاب جبهة النصرة وسحب الجولاني من حضن أيردوغان. وسبب الفشل هو فيتو رامبو الأميركي.

أمّا إذا ابتعدنا أكثر  وأكثر، سنرى زيلينسكي يعتذرُ من دونالد ترامب ويتعطّرُ بأحذية البيت الأبيض بخبثٍ بريطاني، بعد أن أدركت أوروبا أنها أرنبٌ بمواجهة الدبّ بدون الأميركي. وسنرى الأهم هنا

بهذه النظرة من بعيد وباتساع كبير، سنُدركُ أنّ ما يحدث في سوريا، أمرٌ ثانوي بالنسبة لهم على الأقل، لكنها قد تكتسبُ أهمية أحياناً فنقتربُ من الحل أو نبتعد عنه، تبعاً لحاجة أبطال المسرح لكومبارس من هنا وهناك. لهذا كلّهِ؛ على مَنْ يظنُّ أنّ الكبار في العالم لا ينامون الليل وهم يبحثون عن رفاهية الشعب السوري، أن يصحو من أحلامه الوردية التي زُرعت في الصناديق الخشبية منذُ عصور الانحطاط، والتي مازالت تؤكد أننا مركز العالم وشغلهُ الشاغل، ولولانا ما ازدهرت أوروبا وأنّ الله تركَ “الأكوان” بما فيها، وكرّسَ “جهوده” لتوظيفِ الغرب لرفاهيتنا

النظرة التاريخية القريبة من الحقيقة، تُعطينا فكرةً عمّا حدث وجزء كبير من القادم، لأن التاريخ يتكرر ولا يُعيدُ نفسهُ، وما جرى قبل مائة عام هو نسخة عمّا يجري حالياً. إلى التفاصيل

عارضَ وطنيو سوريا وشرفاؤها، التقسيم الفيدرالي، رغمَ دفاع غورو المستميت عن هذا التقسيم، ليس أمام السوريين، بل أمام الفرنسيين بالحجة الدائمة: (لا يوجد تمازج بين السوريين)

بعد شهور فقط؛ أنشأ الاحتلال الفرنسي ما سُمّيَ آنذاك (الاتحاد الفيدرالي السوري)، ثم بعد 3 سنوات (الدولة السورية) في حلب ودمشق ومعهما لواء اسكندرون الذي تحتله تركيا. كلّ هذا بمباركة زعامات من الإسلاميين بينهم علاء الدّين الدروبي، ورئيس مجلس الشورى عبد الرحمن اليوسف، وهذان الإسلاميان جلسا عن يمين غورو أثناء خطاباته الرنّانة، في “تكويعة” شهيرة، عندما قالا:

أمّا غورو فقال: (ما جئنا لمعاداة الإسلام، بل لازدهار سوريا لأنها جوهرة الإسلام)! ثم زار المسجد الأموي واستقبلهُ بحفاوة الشيخ عبد القادر الخطيب! مدير أوقاف دمشق وصاحب 11 منصباً بآن واحد.

لم تكن هناك دولٌ مستقلة معروفة الآن، وهذه نقطة نجحَ فيها الاحتلال حتى يومنا هذا. فبدأ تأسيس دولة غربي سوريا أطلقَ عليها لبنان، وسُحبت مناطق تابعة لدمشق وأُلحقت بجبل لبنان، وهي بعلبك وحاصبيا وراشيا بقرار 03 آب 1920. بعدها أُعلنت “دولة لبنان الكبير” في 31 آب 1920 بقرار من الجنرال الفرنسي هنري غورو.

بالنتيجة صارت سوريا، حسب قرار غورو؛ هي محافظة دمشق، حمص، حماة، حوران، جنوب محافظة حلب، غربي محافظة دير الزور. واستقلت دولة جبل العلويين بعد ضم مصياف وتل كلخ لها. ودولة حلب. هذا في تشرين الثاني 1920. كذلك دولة جبل العرب. مع استلام مفوض سامي فرنسي جديد اسمهُ هنري بونسيه Henri Ponsot الكرسي في آب 1926، بدأ مشاوراته واتصالاته لتعميق التقسيم، ليوافق على دستور 1930 لكنه اعترض على العَلَم، وأصدر أوامره بعلَمِ يُرفعُ حالياً، عن جهل أو خبث، دون معرفة أنّه عَلَم الانتداب الفرنسي وعلم التقسيم، والقرار ذكرناهُ مراتٍ في مركز فيريل، كان بتاريخ 14 أيار 1930 وبرقم 3111، المادة الرابعة الباب الأول، علم تقسيم سوريا ذو النجمات الثلاث.  لمَنْ يُريد الاستفاضة فالقرار نُشِرَ رسمياً على الصفحة الأولى لـ “جريدة سوريا” ضمن المُلحق رقم 12، التاريخ شباط 1932، ثم أُعيد نشرهُ على الصفحات الرئيسية وليس ملحقاً، العدد 2531 الصفحة 4 و 5، العام 1934.

الإضراب الأطول والأشهر في تاريخ المنطقة هو “الإضراب الستيني”. عام 1936، كان “الشيخ” تاج الدين الحسني رئيساً لحكومة عيّنها الاحتلال الفرنسي، وهي رابعُ حكومة يرأسها هذا الشيخ وهو المتلوّن سريعُ التكويع، والذي انتقلَ خلال سنواتٍ قليلة من الحضن العثماني وتحديداً حضن جمال باشا السفّاح، إلى حضن الملك فيصل بن الحسين، بعدها بسنتين إلى الحضن الفرنسي، وتنقلَ بين أحضان الكتلة الوطنية تارةً ثم المحتل الفرنسي، مع محاولة فاشلة للارتماء في الحضن الألماني خلال الحرب العالمية الثانية… كلّ هذا لم يُسعف الشيخ تاج، فقد ثارَ الشعبُ السوري، وهو خريج كلية الشريعة وأستاذ الفقة الإسلامي في المدرسة السلطانية العثمانية.

قرأ فارس الخوري نصَّ الميثاق الوطني على مُدرّج جامعة دمشق في 21 كانون الأول 1935، وجاء فيه:

تحرير البلاد السورية من كلّ سلطة أجنبية وصولاً للاستقلال التام في دولة واحدة بسيادة كاملة، وتأمين الحرية والمساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد الشعب كاملةً.

بدأت مباشرةً اضرابات واعتصامات في دمشق، نُكرر اعتصامات لمَنْ لم يقرأها، فهبَّ “الشيخ” تاج الدين الحسني لاستخدام العنف وقتل عدة متظاهرين، ثم أغلقَ مكاتب الكتلة الوطنية في حلب ودمشق، واعتقلَ عدة قياديين وطنيين، كلّها بأوامر المحتل الفرنسي. هنا جاءت الخطوة الذكية؛ إضرابٌ شاملٌ وإغلاقٌ تام لستين يوماً بدأت منذ أواخر 1935 حتى نهاية شباط 1936.  

عندما فشلَ أستاذ الفقه الإسلامي تاج الدين بقمع السوريين، استنجدَ بالجيش الفرنسي الذي نزل إلى الشوارع مستخدماً العنف لكسر الإضراب، ورغم جرائم القتل إلا أنّه أيضاً لم يستطعْ كسر إرادة الناس، حتى باتَ التُجار والأثرياء يُطالبون بتنازل الحكومة ومعها المحتل عن شروطهم، والرضوخ لمطالب الشعب. فقبلَ المندوب الفرنسي بالتفاوض مع هاشم الأتاسي رئيس الكتلة الوطنية، ليبدأ “ماراثون” استقلال سوريا بباريس نفسها، فطار تاج الدين الحسني، الشيخ الجليل، واختار فرنسا موطناً له سنوات، قبلَ أن يُعاد إلى سوريا ويُصبحَ رئيساً لسنتين، بين 1941 و 1943 وفي حضن شارل ديغول نفسهُ. نعم أصبحَ رئيساً لسوريا الجديدة وألقى خطابات ثورية وكثيرون صفقوا له وتحدثوا عن بطولاته وفروسيته، والسبب الرئيسي هو فشل فرنسا باستمالة هاشم الأتاسي وجعلهِ عميلاً لها، لهذا اختارت الشيخ تاج الدين.

لاشكّ أنّ لتركيا بكافة أطيافها، من رأس هرمها رجب طيب إيردوغان إلى صغارها، تطمعُ بضم أجزاء واسعة من سوريا والعراق، ولو تُرِكَ الأمر لهم لاحتلوا العالم كلّهُ. هنا الفخّ الطبيعي غير الصناعي؛

طمعٌ المترافقٌ بمؤهلات ضعيفة، أو عندما يظنُّ شُذّاذُ الآفاق بأنّهم شعب أو طائفة اختارتها السماء لنجدة الإله “الضعيف”، فيبدؤون بالتوسع والبطش والاستعلاء إلى أن تأتيهم ساعة السقوط المُريع. الأمر ينطبقُ على الكثيرين وأولهم الكيانين؛ التركي والإسرائيلي، ومَنْ لفّ لفّهم والتحف بغطائهم. وكما تغنّى غيرهم بنشوى الانتصار، يتغنّون الآن ببطولاتٍ نسجها الخيال المريض، لكن كم ستطول فترة الرقص هذه؟

تل أبيب تطمعُ للوصول إلى الفرات بدءاً من “معبر داوود” وانتهاءً بالوصول إلى عين تاب نفسها ومرسين غرباً، وهذا يُقلقُ العثمانيين، فاتفاقيات سلطانهم عبد الحميد الثاني لم تكن تشملُ هذه المساحات الشاسعة، هنا بدأ الركضُ نحو دمشق العاصمة، إيردوغان أرسل ابنهُ صاحب مليارات بترول داعش المسروق وملايين صالات قمار وبارات إيطاليا، الشيخ بلال إيردوغان للصلاة في الأموي، مُصطحباً معهُ الجولاني. بينما أرسل نتنياهو دباباته إلى ريف درعا، والقادم صدام على تقاسم الكعكة دون أخذ رأي السوريين، بينما حكومة الأمر الواقع “الشرسة” والمؤقتة، لا تتفرّج وحسب، بل تفتحُ الطريق للمُحتل شمالاً وجنوباً.

بالخلاصة؛ فشلَ تقسيم سوريا وفشلت الفيدرالية رغم أنها استمرت عدة سنوات، وقد يتكرر هذا أيضاً لسنوات لكنه لن يدوم. وكما قلناها أيام نظام المافيا السابق، نُكررها اليوم؛ أيّ تغيير في نوع الحكم في سوريا خيانة وتقسيم، خدعة الفيدرالية أو حكم ذاتي أو؛ لا مركزية. كلها خطوة في طريق التقسيم. في بداية القرن العشرين، كانت الظروف أسوأ من الحالية بكثير، بما في ذلك الحياة المعيشية والاجتماعية. سوريا التي تخلّصتْ من الاحتلال العثماني الذي استمرَ 400 عام، عانت خلالها من الأمراض والمجاعات والتخلّف. اختفى فيها اسم سوريا، أو الأصح، حاول العثمانيون إخفاءه وطمسه، وفشلوا

اليوم؛ محاولة جديدة لطمس اسم سوريا لأنها مصدر قلق للجميع، فوجود التاريخ السوري يعني كشفَ زيف كافة الحضارات والكيانات “المستحدثة” في المنطقة، وكشف التزوير التاريخي لدى الجميع، دون استثناء.

ما نراهُ في مركز فيريل للدراسات أنّ كلّ ما يجري حالياً، إنّما هو خطوة في طريق تفكيك الكيانات الدخيلة على سوريا، وأولها تركيا ومعها أسيادُ عبد الحميد الثاني. الأمرُ لن يكون خلال شهر  وشهرين، يحتاجُ لعقود وهذه أعمارُ الأمم، فمَنْ لا يستطيعُ الانتظار، عليه البحثُ عن مكان آخر أكثر أمناً وأماناً، فإنْ وجدَ فليخبرنا. مركز فيريل للدراسات.05.03.2025