
حرب إيران إسرائيل، بمقياس النصر والهزيمة 27.06.2025. الدكتور جميل م. شاهين. مركز فيريل للدراسات نظرياً؛ وضعت الحرب أوزارها، والجميع منتصر وخاسر بآنٍ واحد. هلّلَ الزعماء للنصر المبين. كلٌّ يُغني على ليلاه، ويتفاخر بسحق العدوّ بما يتناسبُ ومقياس كرسيّ الحكم أو مرضه النفسي. مانراهُ في مركز فيريل أنها ليست أكثر من استراحة حرب وهدنة قد تطولُ أو تقصر حسب التقارير الصادمة الصادرة عن الدوائر الرسمية الغربية. حتى ذلك الحين، كلُّ ما جري وسيجري ما هوَ إلا استعداد للنزال النهائي. ماذا حصل وماذا ينتظرنا؟
معاييرُ النصر في الحرب
الجميع منتصر، فمَنْ الخاسر؟ هكذا اعتدنا مع نهاية كلّ معركة أو قتال عسكري أو حتى رياضي، مُلاكمٌ بوجهٍ متورم نازف يرفعُ إشارة النصر. رغم ذلك، أحياناً قد يكون فعلاً منتصراً، علينا أن نُشاهد خصمهُ أولاً قبلَ أن نحكم. حسب مركز فيريل وبجملة واحدة:
(النصرُ هو تحقيق الأهداف التي حددها مَنْ بدأ الحرب)
لا يتمّ تحديد المنتصر في الحرب إلا بعد انتهائها وتحقيقِ شروط عديدة. نأخذ مثالاً الحرب في أوكرانيا؛ لا يجوزُ القول أنّ روسيا انتصرت أو خسرت الحرب إلا بعد انتهائها، وتحقيق الطرف البادئ لأهدافه. إن احتفظت موسكو بما ضمّتهُ من أوكرانيا، ومنعتها من دخول حلف الناتو بجعلها دولة محايدة، هنا تكونُ روسيا منتصرة. أما إذا استعادت أوكرانيا كامل أراضيها وأجبرت روسيا على التعويض مادياً ودخلت الناتو، فإنّ كييف منتصرة. البادئ هنا عسكرياً بالحرب كان الجيش الروسي ردّاً على الاستفزازات الأوكرانية، لهذا تحقيق كامل الأهداف الروسية يعني النصر الساحق، وهذا أمرٌ نادرٌ أقصد النصر الساحق.
من الشروط أيضاً؛ احتلال أراضٍ في الدولة الثانية والاحتفاظ بها بعد الاعتراف الدولي. استسلام الجيش المعادي، كما حصل في اليابان في الحرب العالمية الثانية بعد جريمة إلقاء القنبلة الذرية الأميركية، وعقد هدنة بشروط مجحفة ومُذلّة.
إسرائيل والولايات المتحدة بدأتا الحرب
بنيامين ناثان ميليكوفسكي، وهذا اسم الحقيقي لرئيس وزراء الكيان كما تعرفون، اليهودي الأشكنازي “العثماني”. أستاذهُ وقُدوتهُ الحاخام الشهير مناحيم مندل شنيرسون، الذي ادّعى أنّهُ المسيح! بنيامين نتنياهو هذا ذاقَ طعم الدم فأعجبه، فراح يضربُ يميناً وشمالاً لتحقيق مقولة (بن غوريون أسس ونتن ياهو وسّع). قلنا مراتٍ في مركز فيريل أنّ خطة ميليكوفسكي هي توريط الولايات المتحدة في حرب ضد إيران، هذه الخطة عمرها سنوات لكنّ الظروف “القاهرة” أجبرت جيش الاحتلال على تأجيلها ثم تأجيلها، حتى تيقن نتنياهو من أمرين: اقتراب إيران من التجربة النووية. والثاني قرب الانتهاء من حرب غزة، اي فتح ملفات فساده مع زوجته وتكملة باقي عمره وراء القضبان.
دونالد ترامب لم يرغب بتلك الحرب، ليس لأنه رجل سلام، حاشى وكلا، بل لأنه يرى معارك أكثر أهمية مع الصين ومع روسيا، الوضع الداخلي الأميركي السيء. علاقاته المتدهورة مع شركائه الأوروبيين وعضوات الناتو، وغيرها الكثير من مشاريعه ووعوده الرامبوية، لهذا نرى أنه كان غير متحمس للحرب كثيراً
بالمحصلة؛ اتفق ترامب ونتنياهو على حرب سريعة خاطفة، ترفعُ فيها إيران راية الاستسلام خلال أسبوع كحدّ أقصى. وهكذا بدأت الحرب. لكن الأمور لم تسر حسب الخطة، فإيران كانت أكثر جرأة مما توقعا
هل تحققت شروط ترامب ونتنياهو كي نقول انتصرا؟
من الخطأ القول أنّ الحرب كانت بين إسرائيل وإيران فقط، بل بين الناتو والعرب من جهة، وإيران و “شركائها” من جهة أخرى. طهران وتل أبيب كانت رأس الحربة والباقي تكفلت به الولايات المتحدة وبريطانيا والدول العربية وأذربيجان وتركيا. بالمقابل وعلى الضفة الأخرى كانت الصين تختبرُ قدرات واشنطن وأسلحتها، بينما شاركت روسيا ببعض النقاط على استحياء، مثالنا هنا؛ حماية مفاعل بوشهر ومنع قصفهِ.
في اليوم الأول؛ عسكرياً واقتصادياً مالتْ الكفة بقوة لصالح إسرائيل. الغرور من صفات نتنياهو وترامب، غرورٌ تحوّل إلى جنون العظمة لهذا وبغباء سياسي وعسكري رفعا سقف شروطهما على إيران إلى درجة أوامر الجبّار الذي لا يُهزم:
القضاءُ على برنامج إيران النووي قضاءً مُبرماً.
قلبُ نظام الحكم وتنصيبُ شاه زاده رضا بهلوي زعيماً لإيران.
القضاءُ أيضاً على برنامج إيران الصاروخي.
عدم التوقف عن القصف قبل أن ترفعَ القيادة الإيرانية راية الاستسلام
جعل إيران دولة حيادية منزوعة السلاح
في اليوم الثاني؛ بدأ النزول عن الشجرة. في اليوم الثاني عشر، طلعَ علينا ترامب بوقف الحرب، فالتزمَ الطرفان نوعاً ما في هدنة هشّة “مؤقتة”. ماذا حققت تل أبيب وواشنطن من تلك الشروط؟ أتركُ لمتابعي مركز فيريل الحكم والقرار هنا.
هكذا تُحسبُ نتائجُ الحروب
هل تحققت تهديدات ووعيد المُهاجم؟ هكذا تُحسبُ نتائجُ الحروب وليس عدد ضحايا كل جانب، أو تمنيات مُصفّقٍ لجهة. قتلُ المدنيين ليست بطولة ولا انتصار وتدمير المدارس والمشافي ليست شجاعة مهما كان الفاعل. الاتحاد السوفيتي فقدَ في الحرب العالمية الثانية 26.6 مليون إنسان، بينهم 67,2% من المدنيين، في حين خسرت ألمانيا 6,9 مليون فرد بينهم 29% فقط من المدنيين وعلى كافة الجبهات، فمَنْ انتصر؟
برنامج إيران النووي تضرر ولم ينتهِ
عقبَ “همروجة” القصف الأميركي للمواقع النووية الإيرانية الثلاثة، والنجاح “الباهر” كما وصفهُ دونالد ترامب، وكذلك فعلَ نتنياهو متحدثاً عن الشراكة الحديدية بينهما، وتدمير مفاعلات إيران تدميراً تاماً. هنا بثّت شبكة CNN الأميركية ما يُعتبرُ فضيحةً مجلجلةً بنشرها تقرير CIA الذي ورد فيه: (U.S. strikes failed to destroy Iran’s nuclear sites) فشلت الضربات الأميركية في تدمير برنامج إيران النووي، فالضربات العسكرية الأميركية لم تُدمّر المكوّنات الأساسية للبرنامج، و “يُعتقد” أنها تسببت فقط في تأخير البرنامج لبضعة أشهر!
أي يمكن لطهران ترميم المفاعلات، والعودة لتخصيب اليورانيوم خلال ستة أشهر فقط! وبالتالي قد يُصبحُ عدد الدول النووية في العالم عشرة قبل نهاية العام 2025
التقرير يقول أنّ الأضرار في مفاعل أصفهان كانت بسيطة، بينما مفاعل فوردو كان الأكثر تضرراً، لكنّ إمكانية تخصيب اليورانيوم المختفي ممكنة!
هنا هبّ دونالد ترامب وجماعتهُ لاتهام الشبكة الأميركية بالكذب، وكأنهم الصادقون. Karoline Claire Leavitt المتحدثة باسم البيت الأبيض قالت بانفعال: (هذا التقييم المزعوم خاطئ تماماً، صُنّف على أنه “سري للغاية”، ورغم ذلك تم تسريبه إلى CNN من شخص مجهول، من مستوى منخفض وفاشل داخل مجتمع المخابرات. هي محاولة واضحة لتقويض حكم الرئيس ترامب، وتشويه سمعة الطيارين المقاتلين الشجعان، الذين نفذوا المهمة بدقة لتدمير البرنامج النووي الإيراني. الجميع يعلم ما الذي يحدث عندما تُسقط أربع عشرة قنبلة تزن 30 ألف رطل بدقة على أهدافها: دمار شامل) يا لذكائها كارولين هذه
ترامب بدأ يلحس كلامهُ كالعادة، فقال في طريقه إلى قمة الناتو في لاهاي: (لستُ راضياً عن إيران وإسرائيل. لا أريدُ أن أرى تغييراً للنظام في إيران)! كما انتقدَ تل أبيب بشدة قائلاً: (البلاد بحاجة إلى الهدوء)
سبقَ وتبنى البرلمان الإيراني قرار تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأثناء كتابة هذا التحليل في مركز فيريل صدر قرار مجلس صيانة الدستور الإيراني، بالمصادقة على مشروع قانون تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. أي لا تفتيش بعد اليوم، وبمعنىً آخر قد تكون فتوى خامينئي أصبحت من الماضي.
نتنياهو يقتربُ من السجن، فكيفَ سيهرب؟
نشرَ دونالد ترامب قبلَ ساعاتٍ تغريدةً قال فيها: (يجب إلغاء محاكمة نتنياهو فوراً أو منحه عفواً كبطل عظيم قدم الكثير لإسرائيل)، هنا صرخَ زعيم المعارضة الإسرائيلي يائير لابيد، في تعليقٍ على طلبِ دونالد ترامب: (على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ألا يتدخل في عملية قانونية في دولة مستقلة، وتعويض نتنياهو عن الانسحاب من غزة لن يكون على حسابنا). حسبَ صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية. التهم الموجهة لنتنياهو: الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، بما يُعرف بقضايا الملفات “1000”، “2000” و”4000″، التي بدأت منذ خمس سنوات ويتم تأجيلها بسبب الظروف وأهمها الحروب. عادت الجلسات بقوة 09.06.2025، لتؤجل من جديد بسبب الحرب مع إيران. وهو ما استغله نتنياهو لتعزيز صورته كزعيم إسرائيلي لا يُشقُّ له غبار، لكنّ آمالهُ خابت ولم يستطع حماية مواطنيهِ من الصواريخ الإيرانية. أمامهُ خياران فقط؛ حرب جديدة أم استسلام لقرار المحكمة.
رأي مركز فيريل للدراسات
دون شك، الأضرار التي لحقت بإيران كبيرة جداً، سواء خسائر بشرية بين المدنيين أو في صفوف القيادة الأولى، وكذلك خسائر مادية في المواقع العسكرية والنووية. كما أظهرت الحرب ضعف الدفاعات الجوية وانكشاف السماء الإيرانية. دون أن ننسى الاختراقات الأمنية الواسعة. كلّ هذا دون أية مبالغات. لكن هناك نقاط كثيرة لصالح إيران، أولها كما نراها في مركز فيريل، “الموقف الشعبي الإيراني الوطني” له تُرفعُ القبعةُ احتراماً للشعب الإيراني، الذي عانى ومازال من القبضة الدينية المخابراتية للسلطات الحاكمة. رغمَ ظروفه وتشجيع ودعم واشنطن وتل أبيب وتحريضهما، لم يستغل هذا الشعب الفرصة للتخلّص من النظام الحاكم كما فعلتْ شعوبٌ كثيرة، على العكس التفَّ حول جيشه وساهم بتخفيف الاختراقات الأمنية. لهذا على القيادة الإيرانية من رأسها ونقصد خامينئي، إلى أصغر مسؤول إيراني، إنصافَ هذا الشعب والطرق معروفة.
إيران بحاجة لنظام دفاع جوي كامل، وهذا يتطلبُ سنواتٍ طويلة، وعشرات المليارات والزمن لن يكون لصالحها، فتل أبيب لن تنتظرَ طويلاً قبل العودة إلى الهجوم.
على إيران العناية بأمنها الداخلي ومعالجة الأسباب التي تدفعُ مواطناً لبيع بلدهِ، لماذا؟ الحياة المعيشية السيئة أولاً وانعدام الحسّ الوطني بسبب الظلم والقهر ثانياً، هذه الأسباب بحاجة لعلاج فوري وإسعافي.
نتوقعُ أن تبدأ طهران بالتركيز على إنتاج أسلحة نووية، لأنها طريقة الردع الأفضل والأرخص، كما عليها تعويض نقص الصواريخ الباليستية التي استُهلكت أو قُصِفت، وتطويرها أكثر.
بالنسبة لإسرائيل؛ إيقافُ الحرب جاء طوقُ نجاة بعد نفاذ صواريخها الاعتراضية، والكلام ليس لمركز فيريل بل لصحيفة واشنطن. فصواريخ القبة الحديدة وحيتس وثاد وغيرها، لن تصمد إلى لليوم الرابع عشر ولأهدافٍ إنتقائية.
الخسائر المادية لإسرائيل أكبر من إيران، بعد توقف السياحة والطيران وشلل الحياة والاقتصاد والمرافئ والمطارات، وتدمير أسواق البورصة وعدة مواقع ومطارات عسكرية ومبانٍ حكومية، وفرار السياح من الشواطئ وقرار أكثر من 40 ألف إسرائيل الهجرة إلى غير رجعة. بالأرقام لمن يعشقها والمصدر إسرائيلي: 132 مليون دولار خسائر يومية للسياحة والطيران. 144 مليون خسائر يومية للتصدي للصواريخ الإيرانية. 758 مليون دولار خسائر يومية لقصف المباني والمنشأت في إسرائيل، بالإضافة لتعويضات شركات التأمين للجرحى والقتلى والطلاب والعاملين والشركات المتعطلة. تعطيل الأعمال والموانئ والشحن والتفريغ، خسائر الصناعة الدفاعية العسكرية بعد فشل المنظومات بالتصدي للصواريخ الإيرانية، وسوء السمعة… إلخ. المحصلة: 20 مليار دولار خسائر مباشرة ومؤجلة. خسائر إيران المادية تُقارب 16 مليار دولار.
الخطير في القادم أن تطوّر إيران “صواريخ قذرة”، وهذه ذاتُ جانب إيجابي وسلبي لها. تخيّلوا معي صاروخاً قذراً، يحتوي يورانيوم بتخصيب 60% مثلاً، يمرُّ فوق الأردن، إن تصدّت له دفاعات الملك وأسقطتهُ، قتلَ الآلاف ودمرَ البيئة لملايين السنين، وإن تركتهُ يمر، تخونُ إسرائيل، فماذا يفعل عبد الله الثاني؟ لهذا أيّ صاروخ قذر لن يتجرأ أحد على إسقاطه حتى لو كانت سرعته بطيئة.
الجانب السلبي؛ أنّ الأسلحة القذرة تُعطي العذرَ لحرب نووية في الشرق الأوسط قد تجر العالم كله لها.
الناتو يتحضّر بعد أن أدركَ عمق الفجوة العسكرية وخاصة الذخيرة القليلة لديه، رفعوا ميزانية الدفاع إلى رقم لم يكن إلا في الحرب العالمية الثانية، 5%. أي باختصار يتحضّرون لجولة أخرى كبيرة من المعارك، والهزيمة لهم تعني موت مشروعهم في العولمة. نحنُ اليوم في هدنة هشة واستراحة محاربين لا أكثر، لأن العالم لا يحتملُ إلا شرطياً واحداً، تماماً كما الديوك على… الدكتور جميل م. شاهين. مركز فيريل للدراسات. 27.06.2025