أوكرانيا، الخاصرة الروسية الضعيفة. المهندس باسل علي الخطيب. إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات.
(أكبر مأساة جيوسياسية في القرن العشرين هي تفكك الاتحاد السوفيتي) هذا ماقاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتن في الذكرى الثلاثين لانهيار الاتحاد السوفيتي. تصريح يوضح إلى أي مدى يمكن أن تذهب موسكو فيما يخص الأزمة المتجددة في أوكرانيا التي تحولت إلى خاصرة روسيا الضعيفة التي لاتنفك توجع منذ أكثر من عقدين، بالإضافة لأنها أصبحت أيضاً خط التماس الأول بين روسيا والناتو.
ماذا تعني أوكرانيا لروسيا
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي اعتبر الكثير من القوميين الروس أن انفصال أوكرانيا خطيئة تاريخية وتهديد لمكانة روسيا كدولة عظمى، فخسارة السيطرة على هكذا دولة والسماح لها بالالتحاق بالفلك الغربي يُمثّلُ ضربة كبيرة كونها كانت الدولة الثانية من حيث الأهمية في الاتحاد السوفيتي وعدد السكان بعد روسيا، والثالثة مساحةً. كانت سلّة سلة قمح الاتحاد السوفيتي ومركز الكثير من الصناعات السوفيتية الأساسية والتي ورثتها لاحقاً. موانئها هي الموانئ السوفيتية الأساسية على البحر الأسود ومركز أسطوله البحري.
كييف أقدم عاصمة في أوروبا الشرقية، تأسست في القرن الثامن الميلادي أي قبل موسكو بحوالي 400 عام. السلافيّون أكبر مجموعة عرقية لغوية في أوروبا ينقسمون إلى شرقيين وغربيين وجنوبيين. الروس والأوكرانيّون والبيلاروس شرقيّون، أسسوا أول دولة لهم في القرن الثامن ثم اتخذوا من كييف عاصمة وكانت تمتدُ من البلطيق شمالاً إلى البحر الأسود جنوباً وتُعرف بـ “دولة روس كييف” 862 للميلاد بقيادة Rurik، الذي يُعتبرُ مؤسس الإمارة الروسية الأولى حيث حكمَ أحفادهُ من بعده 800 عاماً. إذاً؛ هوية الأمة الروسية تأسست في أوكرانيا ثم انتقلت لاحقاً إلى موسكو التي تُعتبرُ ابنة كييف.
يُشكلُ الروس حالياً 18% من سكان أوكرانيا وهم الأغلبية في شرقي وجنوبي البلاد. 29,6% من السكان قالوا أن لغتهم الأم هي الروسية، بينما يتحدثُ معظم الأوكرانيين الروسية بطلاقة.
يمكن القول: أوكرانيا هي الإقليم الانتقالي بين روسيا وأوروبا. التأثير الأوروبي جاءت به بولونيا مع المذهب الكاثوليكي باحتلالها لمعظم الأراضي الأوكرانية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، خلال حروبها الطويلة مع روسيا. حيث يدين أغلب الموالين لروسيا بالمذهب الأرثوذكسي، وأغلب معارضيها يدينون بالمذهب الكاثوليكي.
روسيا هو العامود الأساسي للعالم السلافي وأوكرانيا جزء هام فيه. التأثير الثقافي الروسي حقيقة تاريخية وواقع معاش وموجود، هذا بالإضافة لكونها جزءاً من المجال الحيوي الجيوسياسي لروسيا، كل هذا جعل الأوكرانيين منقسمون في نظرتهم لروسيا؛ فالمناطق الشرقية أقرب حضارياً للروس، بينما المناطق الغربية والوسطى أقرب لأوروبا، حيث يسود الشعور القومي الأوكراني المتعصب والمعادي لموسكو. أوكرانيا مثال صارخ على أمة الهويتين واللغتين والدينين والانتمائين… كغيرها من دول كثيرة حول العالم يتوزع الشعب في انتماءاته…
أوكرانيا ووصول بوتين للحكم
وصل بوتين إلى كرسي الرئاسة فبدأت مرحلة تعافي روسيا من أمراض فترة التسعينات، التي كلفتها مكانتها كقوة عالمية عظمى. خسرتْ الكثير من النفوذ حول العالم ووصلت خسائرها إلى محيطها الحيوي مما شكل خطراً حقيقيّاً على وجودها…هنا تحرّك القوميون الروس أو ما نسميه “الدولة العميقة” واضعين هدفاً استراتيجياً حيوياً؛ هو استعادة النفوذ الروسي القوي في الدول التي كانت منضوية تحت مظلة الاتحاد السوفيتي، والحرص على عدم وقوعها تحت النفوذ الغربي، وأن تكون فيها حكومات موالية لروسيا أو على الأقل ليست معادية.
الرد الغربي على هذا التوجه الروسي كان بإشعال الثورات الملونة في بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق والتي توجت بما سمي الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2004، والتي كان نتاجها خسارة مرشح روسيا في الانتخابات الرئاسية ووصول معارض لها إلى سدة الحكم. في انتخابات 2010 عاد مرشح روسيا فيكتور يانوكوفيتش وربح الانتخابات الرئاسية، في عام 2013 علق الرئيس يانوكوفيتش إجراءات تنفيذ اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، مما أدى إلى اندلاع احتجاجات أطاحت به في شباط 2014، دعم الغرب الاحتجاجات تماماً كما دعم الثورة البرتقالية.
ذاتُ الديباجة؛ دعم الإصلاح والديموقراطية ومكافحة الفساد، ككل مرة استعمل فيها الغرب هذه الذرائع لزعزعة استقرار بلدان أخرى أو لتحويلها ساحات للصراع الجيوسياسي مع بقية المنافسين على مستوى العالم (روسيا والصين تحديداً). هذه الواجهة كانت تخفي خلفها أهدافاً أكثر خبثاً، تتمثل في تحويل أوكرانيا إلى ساحة استنزاف وإشغال لروسيا بغية إضعافها وإنهاكها.
لم تكن الحكومات الأوكرانية الموالية للغرب أقل فساداَ أو أكثر ديموقراطية من تلك الموالية لروسيا، الكل ساهم في إضعاف أوكرانيا وتردي اقتصادها. لكنّ المصاب الأكبر الذي ابتليت به أوكرانيا أن الصراع السياسي فيها تحول إلى صراع “الانتماءات” بين أوكرانيا القريبة من روسيا وأوكرانيا الأوروبية مما جعل البلاد على شفير حرب أهلية.
وحدثَ الخلط بين سخط الأوكرانيين من الفساد ورغبتهم في الإصلاح والذي يشترك فيها كل الأوكرانيين وبين قضية الهوية القومية، حيث نالت القوى التي يفترض أنها إصلاحية تأييد الغرب، هذه القوى كانت قوى معادية لروسية وهذا أمر شجع عليه الغرب ودفع باتجاهه قدماً، وهو أمر استفز روسيا والأوكرانيين الروس. الهيام الغربي الحالي والسابق بأوكرانيا ليس له علاقة بمصلحة أوكرانيا أبداً، إنما لتشجيعها على الابتعاد عن روسيا بتحويلها إلى ساحة تشاغل روسيا لعقود حتى ولو دُمّرت أوكرانيا فوق رؤوس شعبها.
كان من نتائج الإطاحة بيانوكوفيتش عام 2014 أن تحرك الأوكرانيون من أصل روسي في المقاطعات الشرقية والجنوبية، وفي مواجهة جيش أوكراني مهلل وضعيف وبمساعدة من روسيا تمكنوا من الانفصال بإقليمين هما إقليم لوجانسك وإقليم دونيتسك، حيث كان يانوكوفيتش قد حصل على أغلب أصواته في انتخابات 2010، كما قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم ذات الغالبية الروسية بعد إجراء استفتاء فيها. شبه جزيرة القرم منطقة إستراتيجية لروسيا القيصرية والاتحاد السوفيتي، خاضت لأجل السيطرة عليها حروباً عديدة مع السلطنة العثمانية وبريطانيا وفرنسا، هذه الأهمية جعلت موسكو تقوم بتوطين الروس فيها بكثافة بعد إسقاط دولة خانية القرم التتارية المدعومة من السلطنة العثمانية.
من عام 1922حتى عام 1954 كانت القرم جزءاً من جمهورية روسيا الاشتراكية ضمن الاتحاد السوفيتي، حتى قرر نيكيتا خروتشوف زعيم الاتحاد السوفيتي ذو الأصل الأوكراني، والذي شغل أغلب مناصبه في جمهورية أوكرانيا الاشتراكية عام 1954 نقل تبعية شبه الجزيرة إلى أوكرانيا. ومنذ سقوط الإتحاد السوفيتي كان يتطلع الروس إلى عودتها، كون غالبية سكانها من الروس ولأهميتها الإستراتيجية خاصة مع وجود ميناء سيفاستوبول مقر أسطول البحر الأسود السوفيتي سابقاً والروسي لاحقاً.
جورجيا عبرة لمَن يعتبر
الجمعة 8 آب 2008، هاجمت جورجيا مقاطعتي جنوب أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بحجة محالة الانفصال، رغم أنّ الخلاف كان يمكن تسويته سياسياً. خلال ساعات؛ قطع رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين مشاركته في افتتاح أولمبياد بكين ومن الطائرة أمر الجيش الروسي باجتياح جورجيا. هاجم الجيش الروسي جورجيا فقصف بالطيران غوري ومرفأ بوتي وممرات كودوري ومطار تبليسي العسكري. الاتحاد الأوروبي يُندد والناتو يتوعد والبيت الأبيض يُهدد روسيا، مجلس الأمن يفشل بعقد أي اجتماع. رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين لن يتراجع حتى تتوقف سياسة جورجيا الإجرامية. الأحد 10 آب 2008 الرئيس الجورجي يطلبُ النجدة من الناتو… لا مُجيب سوى الطلب منه أن يصمد… مساءً جورجيا ترفع الراية البيضاء مُعلنةً عودة روسيا…
ماذا حصل؟ أُقنعَ الرئيس الجورجي ميخائيل سكاشفيلي بقدرة جيشه على استعادة أوسيتيا الجنوبية بالقوة. الناتو سيدعمه ومعه الاتحاد الأوروبي فهو ابنهم البار الذي درس في ستراسبورغ وميامي وواشنطن وكييف، ووصل لكرسي الحكم بدعمهم عبر “ثورة الورد” تشرين الثاني 2003… ماذا يعمل سكاشفيلي اليوم؟ هو رئيس الهيئة التنفيذية للإصلاحات في أوكرانيا!! أوكرانيا زوّدت جورجيا بالدفاعات الجوية لمواجهة الطيران الروسي كما دربت قوات الجيش الجورجي. الاعتداء الجورجي خلّف آلاف القتلى والجرحى بين المدنيين، وملفُ ساشفيلي في محكمة لاهاي كمجرم حرب، لكن مَنْ يفتحهُ إذا كانت الفضائح تشملُ زعماء كبار؟ ويبقى السؤال؛ ماذا جنت جورجيا من دعم الناتو الوهمي لها سوى خسارة أوسيتيا وأبخازيا؟
أوكرانيا أخطر أزمة أوروبية
الأزمة الأوكرانية هي أكبر أزمة تواجهها أوروبا بعد الحرب الباردة، وهي أشد خطورة من أزمة البلقان في تسعينات القرن الماضي لأن الطرف المقابل هو روسيا التي تدافعُ عن وجودها وليس فقط حدودها.
الرئيس الأوكراني الحالي فلاديمير زيلينسكي، الممثل والمخرج ابن العائلة اليهودية، تعهد باستعادة الأقاليم التي انفصلت وطالب بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. هذا الرئيس ليس إلا دمية يحركها الغرب كيفما يشاء، هم يورطون النخب الحاكمة في أوكرانيا بالصدام مع روسيا ويُقدّمونَ وعوداً بتقديم دعم عسكري واقتصادي، لكنهم يتنصلون من وعودهم ساعة الصفر. هذا ما جرى مع أردوغان سابقاً وحالياً حيث أوكلت له مهمة إثارة الوضع في أوكرانيا، فاجتمع بزيلينسكي في العاشر من نيسان الحالي.
التهديدات من الجانبين لم تنقطع والوضع متأزم ونُذر الحرب تقترب. روسيا حذرت الغرب من إرسال جنود إلى أوكرانيا وحشدت المزيد من القوات قرب الحدود قواتها بحيث باتت تُطبقُ على كييف من ثلاث جهات بما في ذلك البحر الأسود، البارحة أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن إغلاق 3 مناطق في البحر الأسود أمام مرور السفن الحربية اعتباراً من مساء السبت 24 نيسان 2021 حتى تشرين الأول القادم، أي لستة أشهر، فما المقصود بالإغلاق وما الذي ينوي الروس فعلهُ خلال هذه الفترة الطويلة نسبياً؟
الولايات المتحدة ومعها الناتو يبيعون أوكرانيا الوهم في مواجهة أية حرب قادمة مع روسيا. أن ينخرط الناتو في حربٍ كبيرة مع روسيا في أوروبا أمرٌ مبكرٌ ولن يجرؤ عليه على الأقل حالياً، فالروس يدافعون عن أمنهم القومي ولن يسمحوا لأية قوةٍ أن تهزّ هذا الأمن مهما كانت… حتى لو تدحرجت كرة الثلج نحو حرب عالمية جديدة، فالتراجع هنا يعني أنّ الناتو وصل إلى موسكو… أما إن اقتصرت تلك الحرب على روسيا وأوكرانيا، فهي محسومة النتائج سلفاً لفارق القوة العسكرية الكبير بينهما.
أوكرانيا جرحٌ غائرٌ في خاصرة روسيا ومعالجتهُ باتت ضرورة مُلحة وإسعافية. التغاضي والمماطلة تعني استنزاف قوة الروس وتوسع الجرح شرقاً. إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات. 24.04.2021
أوكرانيا أخطر أزمة أوروبية