الذكريات الأليمَة خطوة نحوَ

الذكريات الأليمَة خطوة نحوَ…  الدكتور جميل م. شاهين. بحث علمي مختصر. مركز فيريل للدراسات. برلين. 18 آذار 2016

ـــ مُقدمة: لكلّ منّا ماضٍ، يتمنى تكرارهُ أو يهربُ منهُ. ماضٍ جَميل نتمنى أن يعودَ، أو قبيحٌ نحاول نسيانه أو على الأقل؛ العودة إليهِ لتصحيحه أو محوه. بجميع الأحوال، لا نستطيعُ فعلَ شيء، سوى الابتسامة والشوق أو الحسرة والقلق والندم. إلى التفاصيل

متى ولماذا تأتينا الذكريات الأليمة؟

تأتينا الذكريات الحزينة نتيجة؛ فقد شخصٍ عزيز أو خسارة مشروع مستقبلي أو إخفاق دراسيّ أو فشل في الحبّ أو العمل أو سلوك طائش بمرحلة عمرية معيّنة.

من الطبيعي جداً إن يتخذ الفردُ قراراتٍ خاطئة خاصّةً ببداية حياته، الأسباب كثيرة: حداثة السن، قلة التجربة والخبرة، انعدام الرقابة أو النصح الأهلي والمدرسي، ضعف الرباط الأسري والنقص العاطفي، البيئة المحيطة والرفاق السيّئين.

بعد الوقوع في الخطأ، قد يرى الشخص آنذاك أنّهُ خطأ عادي فيدافعُ عنهُ بعناد ويكررهُ، وعندما يتقدم به العمر ويظنُّ أنـه مُتصالحٌ مع ماضيه، تبزغُ أحداثهُ فجأةً بعد سنواتٍ طويلة، لتقضّ مضجعهُ ويكتشف أن هذا التصالح ما كان أكثر من هدنة /على سيرة هدنة هذه الأيام/، وتغطية لنار برماد الزمن.

كُلّنا اتخذنا في الماضي قراراتٍ واختياراتٍ خاطئة، قد تبقى نتائجها وذكرياتها تلازمنا طوال العمر، أو نتخلّصُ من بعضها، ونادراً ما نتخلّصُ منها كاملةً. لكن عندما يزدادُ وعينا نُحاسبُ أنفسنا، وهذا حالٌ جيد لكن السيء أن يُحاسبنا الآخرون ويتعاملون معنا بناء على أخطائنا في الماضي.

تعود إلينا الذكريات دائماً، السيئة والجيّدة، الحزينة والفرِحة، فنضحك ونحزن وكُلّما كان لدينا فراغٌ زمني أو عاطفي، تراكمت الذكريات على كاهِلنا حتى تُصبحَ حِملاً ثقيلاً. الخطأ يكونُ بطريقة علاج الذكريات السيئة، عندما نكتفي بندبِ حظّنا العاثر، أو نرمي السبب على القدر والظروف والآخرين. 

أمّا العلاج الصحيح للذكريات السيئة فيكون بالعقلانية والواقعية، كيف؟ أن نُحيلها إلى نقطة بدء وانطلاق نحو المستقبل، سواء كنا في العشرين أو في السبعين، فالبداية الصحيحة نصف الطريق نحو النجاح.

خطورة الذكريات السيئة

الأسوأ عندما نتذكر فقط أخطاءنا ونقف عند الذكريات الأليمة دون السعيدة ولا نتحرك، فنعيد اجترارها مراتٍ ومراتٍ، فنلومُ أنفسنا ثم نُسقطُ اللوم على الآخرين أو الظروف، ثم نعود لأنفسنا وهكذا ندخلُ دوامة الأفكار التي لا تنتهي، إلى أن ننتقلَ من حالة تذكّر بسيطة عادية وندخلُ مرحلة الإكتئاب النفسي، في حركة تصاعدية قد يصلُ بها البعض إلى الانهيار العصبي والعُصاب ونهاية مؤلمة.

 

نتـائج الذكريات الأليمة والأحزان بالتتابع التصاعدي

الحزن والحسرة والضعف والشعور بعدم الثقـة بالنفس.

عزلة انغلاق خـوف من المجتمع الذي نظنهُ كلهُ يعرفُ بأخطائنا، أو كان معنا يوم ارتكبناها، هنا يصلُ بعضهم إلى رهاب المحتمع.

قلق وساوس وشكوك لا أساس لها من الصحة، ويبدأُ المُصابُ بترقب حدوث أمر سيء نتيجة عودة الفشل في الماضي للحياة من جديد، ومحاسبتنا عليهِ.  

الشعور بالنقص والدونية تجاهَ الآخرين، وكأن كلّ مَنْ حولنا ملائكة ونحن فقط الشياطين، والجميع ناجح ونحن الفاشلون، الجميع كانوا سعداء في ماضيهم ونحنُ فقط الذين عانينا من المآسي والمظالم والأحزان. 

5ـ التشويش الذهني ليصل لمرحلة الشلل التام بالقدرة على التفكير بأيّ أمر آخر سوى الماضي، وربط كلّ شـخص أو شيء في الحاضر بهذا الماضـي، والإنشغال عن العمل أو الدراسة، يتلوه الإرهاق الجسدي وانعدام الشهية والوهن العـام وعــدم القــدرة على النـوم واضطرابــه.

غياب التوازن النفسي والعاطفي، والدخول بنوبات بكاء فجائية.يتطور الأمر لخسارة أقرب الأشخاص بسبب اضطراب في العواطف، فتحصل حالات طلاق نتيجة ذلك، أو انفصال عن الشريك أو هروب المراهقين من منزل والدَيهم.

7ـ الدخول بمرحلة الإكتئاب وقد يتلوهُ الانهيار النفسي، ليصل الحال بالبعض للإصابة  بالعُصَاب Neurosis، فتبدأ معهم صراعات لاشعورية، تتجسد بأعراض جسدية ونفسية، كالوساوس والأفكار المتسلطة والمخاوف الشاذة، واضطرابات جسمية وحركية وحسية، تعوق الفرد عن ممارسة حياته السوية في المجتمع، أي يتحوّل الاضطراب النفسي إلى اضطراب عضوي؛ فيشعر المصاب بألم في المعدة مثلاً، ويشكو آخرون من آلام صدرية وحس اختناق، دون وجود سبب فيزيولوجي. وربما يصل الحال بالمريض إلى الإنتحار.

يعتقدُ علماء النفس، وهذا رأي مركز فيريل أيضاً، أن غالبية البشر واجهوا العُصاب بدرجات خفيفة خلال حياتهم؛ إلا أنها عند بعض الأشخاص تطورت واشتدت فأصبحت مرضاً نفسياً.

 العِلاج

قبل أن أتحدث عن العـلاج علينا أن نعلم أنّ الذكرى المؤلمة كالمصيبة تبدأ كبيرة ثم تصغر. إن اتباع الخطوات التالية سينقذنا من السير الحثيث نحو مرض نفسي صعب العـلاج:

1ـ يجب أن نعلـمَ أنّ الماضي حادثٌ لا يمكن تغييرهُ، والندم والحسرة لا تفيد. لكننا نملك القدرة على تغيير الحاضر والمستقبل. ومن الطبيعي أن تأتينا الذاكرة دائماً بما هو جيد وسيء من محفوظاتها، ونستطيع التخلص من هذه الذاكرة بالإرادة والنسيان، أو لدى الإصابة بألزهايمر أو إصابـة دماغية لا سمح الله.

الخطـأ نسبي، ويختلف تقييمهُ بين شخص وآخر ومجتمـع وآخر، فالفشل في الامتحان يُبالغُ فيه البعض، بينما يراهُ الآخرون دافعاً للنجاح، والفتاة التي شُـوّهت سمعتها لأنها خرجت مع شاب في سيارة، هي شاذة إن لم تفعلها في مجتمع آخر. القضية قضية صدقٍ في التقييم والمُقيّمين وتحليل الخطأ بطريقة السبب والنتيجة، ونحنُ لا يعنينا سوى تقييم العقلاء والمتنورين.

3ـ الابتعاد عن كلّ ما يخصّ الماضي والبدء بمحوه تماماً، طبعاً لا أتحدثُ هنا عن فقدان شخص عزيز. علينا رمي وإتلافُ وحذف كلّ ما يُذكرنا به: (رسائل، صور، شات، صحف، هدايا، موبايل، زجاجة عطر، أصدقاء “معينين” على صفحات التواصل الإجتماعي، أوراق، أشعار، نتائج امتحانات إلخ…) وتحاشي زيـارة الأماكن أو سماع الأغاني التي تنعشُ ذاكرتنا. إن التطورات التكنولوجية المتسارعة تجعلُ من الصعب نسيان الماضي، الذي قد يظهرُ فجأة عبر طلب صداقة على الفيس بوك لشخص نتحاشى حتى تذكّرهُ، أو شخص اختلفنا معهُ لسبب ما، فنرى أنفسنا ندخلُ صفحتهُ باللاوعي كي نرى ماذا يفعل، فنعيدُ عداد النسيان إلى الصفر.

4ـ عندمـا تعود ذاكرتنا للماضي، يجب نبتعد عن التفكير العاطفي الإنفعالي به، وأن نتناسى الأمور السيئة فيه، ونحاول تذكر الحسنة والمُفرحة، وهي موجودة مهما حاولنا جعل الصورة قاتمة. نستعرض إنجازاتنا ونجاحاتنا مهما كانت صغيرة، لدينا بالتأكيد نقاط مضيئة في ماضينا، كنّـا فيها ناجحين. فإن استقر تفكيرنا عند حادثٍ سيء، نناقش أنفسنا لماذا أخطأنا، وماذا استفدنا من خطئنا؟ وهل سنكررهُ؟ أي نسخّر تجارب الماضي للاستفادة منها؟ ونجعلهـا لُقاحاً فعّالاً يقينا من تكرار ذاتِ الأخطاء.

واشنطن وخديعة الاضطهاد الديني. المهندس باسل قس نصر الله

5ـ علينا أن نعيش حاضرنا، فحملُ الماضي دائماً إلى حاضرنا سيجعلنا نُمضي بقية العمر حاملين مشاعر سلبية، ويؤثر على تعاملنا مع أقرب الأشخاص إلينا، كما ينبغي ألا نربـط أحداث وأشخاص اليوم بماضينا، هذا الربط يجعلنـا ندور في حلقـة مفرغة. كلّ شخص قابلناه اليوم لا علاقة لهُ بالأمس، فإن تأصّل هذا الربط، سنجدُ أنفسنا نخسرُ أناساً مخلصين، كانوا سيساعدونا على التخلص من الماضي. ينبغي أن نجعلَ من أشخاص الحاضر قادةً لعملية علاج فعالة جداً هي “تجديد الذكريات الجميلة“، فيقوم العقل الباطن عبر الذاكرة باستبدال صورة الحاضر السعيد لهؤلاء الأشخاص بالماضي السـيء.

6ـ أن نُراقبَ تصرفاتنا، نقارنها بسلوكنا السابق، فإن تشابهت فنحنُ مؤهلين للوقوع بنفس الخطأ ثانية وثالثة وعاشرة. فنغير هذه السلوكيات فوراً. التغيير يشمل مكامن الضعف في شخصيتنا، والتي دفعتنا للفشل أو ارتكاب الأخطاء، فنتخلصُ من الكسل أو المجاملة أو الطيش.  

7ـ علينا الابتعادُ عن الوحدة والعزلة والسهر، فمساحة الهدوء والسكينة في الليل كافيـة لاستحضار “الأرواح والذكريات” وكلّ فكرة وتصرفٍ سيء. نجلسُ مع محيطنا، أهلنـا أصدقائنا، نشغلُ أنفسنا بأمور مفيدة ومسلية، نشاهد فيديوهات ومواقف مضحكة. نمارس الرياضة. دورات تثقيفية أو موسيقية.

8ـ عندمـا نعجزُ عن فعل كلّ ما ورد، يفيدنا جداً التحدّثُ لشخص مقرّب نثق به، هذا الشخص سيكون مراقباً لنا ومرشداً بآن واحد، وهنا أنصـحُ بالأم أو الأب الواعي أو بالطبيب النفسي.

من خلال خبرتي المتواضعة في علم النفس، أرى أنّ أفضل طرق العلاج النفسي، هي ترك المريض يسرد كلّ ما يقلقهُ من ذكريات سيئة، دون إبداء الرأي أو إعطاء أيّ تعبير. ثم يأتي دور التشجيع والإيحاء والتوجيه، ويعتمد على إبعاد المريض عن مكان الصراع وعن المثيرات المسببة لانفعاله، فإن كان كل شيء يُذكّـرهُ بالماضي أنصـحُ بالسفر وتغيير حتى مكان الإقامة. بينما يكون العلاج السلوكي بتدريب المريض على الاسترخاء، مع منبهـات فجائية مثيرة للقلق بدرجات متفاوتة متناقصة بالشدة، هي ما اسميتهُ “اللقـاح” أو التحصين التدريجي.

يُطلبُ من المريض الاعتماد على العقل الواعي فقط لتحريض واستخدام القدرات الجبارة للعقل الباطن، وتغيير مسارها إلى الإطار الإيجابي لحل المشكلة والتعامل معها. يقوم العقل الواعي بتدمير الرسالة السلبية التي يرسلها العقل الباطن عبر الذكرى، والتي كانت تسعى بدورها لتدمير حياتنا.

 تركُ المريض يسرد القصص المزعجة ويتذكرها، هي عمل جراحي هجومي على خراج مزمن، وإخراج القيـح منه بشكل كامل وتجريف المنطقة، عوضاً عن تركـه فترة طويلة بعلاج مُحافظ ناعم وإخراج القيـح على دفعـاتٍ متباعـدة.

الماضـي أيّها الكِرام؛ قصّــةٌ نرويها، فإن توقفنا عندها، عطّلنا حاضرنا، وخسرنا مستقبلنا.  الدكتور جميل م. شاهين طبيب، كاتب وروائي سـوري ـ مدير مركز فيريل للدراسات برلين   18 آذار 2016