أصابعُ واشنطن في أحداث فرنسا واضحة دون شك، مهما حاولت باريس اتهام موسكو. هي أكثر من عقوبة، ليس فقط لفكرة تأسيس جيش أوروبي مستقل، وكف يد واشنطن عن أوروبا، بل هناك الملف الإيراني الذي تقودُ فرنسا موقفاً أوروبيّاً غير متشدد تجاهه، عكس ما تريد الولايات المتحدة وإسرائيل.
يعمل الأوروبيون على ايجاد حل وسط للاتفاق النووي بعد انسحاب ترامب منه، ليصلَ الأمرُ لتفادي العقوبات المفروضة على إيران، واتمام الصفقات الاقتصادية الموقعة سابقاً.
هل هي صدفة؟
زار ترامب باريس لحضور مراسم الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى، بتاريخ 11 تشرين الثاني الماضي. تحدّث مع ماكرون حول عدة قضايا. المؤكد أنهما لم يتفقا على شيء. عندما عاد سخرَ بوقاحته المعهودة من الباريسي بتاريخ 14 تشرين الثاني.
بتاريخ 17 تشرين الثاني، أي بعد أقل من أسبوع، نزل “أصحاب السترات الصفراء” إلى الشوارع في أكبر تظاهرات وعنف تشهده فرنسا منذ 1968 كما ذكرنا في مركز فيريل، راجعوا المقالة.
سعى ماكرون وفريقهُ لانهاء الاحتجاجات بالترغيب والترهيب والرشوة بـ 100 يورو، وإلغاء القرارات السابقة، وفشل. هذا على فرض أنه فعلاً يريد إنهاء الفوضى.
استمرَ تدخّلُ المراهق الأميركي، فردت وزارة الخارجية بخجل، بأنّه شأن داخلي. ازداد تبجحُ المراهق، فالمتظاهرون يهتفون باسمهِ، وهذه رسالة واضحة لماكرون ونظامه ومن يسايره…
ما جرى في فرنسا، هو تحذيرٌ من حكام الخفاء في واشنطن وقادة النظام العالمي الحقيقيين.
إلى متى سينتظر حكام واشنطن؟
اليسار الأوروبي لا يريد أن ينفرد اليمين بالحكم ويفرض سياسته. كما يرفضُ طريقة التعامل مع الملفات العالمية الهامة، خاصّة مع اشتعال الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، وتحرّك التنين الصيني ورده على استفزازات واشنطن وتابعتها كندا، فاعتقال ابنة صاحب شركة هواوي يُقابلهُ اعتقال كنديين، العين بالعين والاعتقال باعتقالين.
الصين تحركت اقتصادياً وعسكرياً نحو إفريقيا بقوة، وتحدّت أساطيل واشنطن في بحرها، بضائعها تغزو الأسواق واقتصادها ينافس أقوى اقتصاديات العالم…
روسيا أثبتت أنّ الولايات المتحدة ليست سيدة العالم، واجهتها في سوريا وتمددت في مصر وليبيا واستمالت السعودية المعزولة… حشدت وقاتها عند الحدود الأوكرانية، و”فركت” إذن كييف. موسكو تطّور صواريخ قادرة على اختراق كافة أنظمة الدفاع المعادية. أصواتٌ أوروبية باتت تنادي ليس بالسلام مع روسيا وحسب، بل بالتحالف، هنا في ألمانيا… أرسلت طائراتها الاسترتيجية إلى فنزويلا وهذا أزعج بومبيو وجعلهُ يثرثرُ.
العقوبات على إيران لم تأتِ بنتائج جيدة، والجميع يخترقها بطريقة أو بأخرى. المباحثات مع كوريا الشمالية لا تسير وفق المطلوب.
تحالفات بين دول عديدة بمعزل عن موافقة واشنطن.
باختصار: الكاوبوي الأميركي لم يعد يُرعب أحداً، فهل سيصمتُ أمام هذا التمرد؟
كل هذا يجري وترامب منهمكٌ بجمع الأموال الطائلة من حلفائه وأتباعه وعبيده، وهل يكفي المال لاستمرار السيطرة، أم أنّ الاستعراض العسكري باتَ مُلحاً؟
أمام هذا الانحدار الأميركي، وجدَ فريقُ ترامب وحتى معارضوه أنفسهم مضطرين لتشكيل قيادة حرب من المتشددين في الجناحين السياسي والعسكري. وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس يُعارض الحرب، لهذا لابد من إقصائه وهذا ما أتوقعه قريباً، لذلك سنشهد حالة من الحراك في بعض البلدان الحليفة لواشنطن، بغرض ضبط إيقاعها على أنغام البيت الأبيض، وعدم التغريد خارج السرب أو العزف بنشاز خارج مقطوعة مايسترو الحرب.
حالياً، ملف إيران واحدٌ من أهم ملفات الشرق الأوسط بالنسبة للولايات المتحدة، بعد أن انتهى دور داعش وأدى لحضور عسكري أميركي في سوريا والعراق.
إيران تمددت في هاتين الدولتين أكثر ووصلت إلى اليمن، من هنا فإنّ فتح باب مواجهة جديدة كخطة بديلة بعد سقوط مخطط داعش والقاعدة، والذي هيّأ الدول الإقليمية وشعوبها، وشحنهم طائفياً ضد إيران وحلفائها.
لاحظوا أنه بعد غزو العراق كثرت الفضائيات التي تبث الأحقاد الوهابية، والإعلام العربي يصرخ ليل نهار من خطر النفوذ الإيراني والشيعي… كله مدروس وناجح مع الشعوب التي تُقاد من خطبة أو فتوى!!
الغرب يعملُ على أساس خطط بعيدة المدى، تترافقُ مع مخططات مرحلية وبديلة في حال فشل أحدها، كلهُ للوصول للهدف النهائي. الدول الكبرى لا تتعامل في سياستها على أساس الصدف والمفاجآت، وليس لديها شيء اسمه ارتجال.
المطلوب في المرحلة القادمة ضرب النفوذ الإيراني وتقليصه في اليمن والعراق وسوريا و… لبنان هو البلد المرجح للمواجهة بعد إغلاق الجبهات وحسمها في البلدان السابقة، وسلاح حزب الله، بل وجوده هو الهدف القادم.
حزب الله وإيران وسوريا تعارض صفقة القرن، وقد ذكرنا في مركز فيريل أنّ كل دولة تعارض هذه الصفقة ستتم مهاجمتها وتدميرها.
الملف السوري
رغم الحديث عن قرب انتهائه، نراهُ يزداد تعقيداً، ومشاريع الانفصال لدى أتباع الولايات المتحدة، ستقود تركيا للانخراط في الحرب ضدهم. إن تطورت هذه الحرب، ستدخل أنقرة في متاهة حرب داخلية يشنها الأكراد، وقد يحصل صدام عسكري مع الجيش السوري… هل سيقف الجيش الأميركي والروسي متفرجين؟
العالم يتحضر لصراعات كبيرة
العالم يتحضر لصراعات كبيرة في عدة قضايا حيوية، وملفات الشرق الأوسط، بما في ذلك القضية الفلسطينية التي اشتعلت اليوم بقتل الجنود الإسرائيليين… ستكون فلسطين في مقدمة هذا الصراع وتعقيداته. لدينا أيضاً آسيا الوسطى وشرقها وصولاً لبحر الصين واليابان وكوريا الشمالية. أوكرانيا التي بدأت تُشعلُ حرباً ضد المسلحين المؤيدين لموسكو، بينما الجيس الروسي يحتشد شرقها… فنزويلا ستعود للواجهة مع اتهامات لدول الجوار بمحاولات اغتيال رئيسها… لن ننسى إفريقيا واشتعال أو إشعال عدة مناطق فيها، سواء بالتنظيمات الإرهابية أو بصراع الدول حول الثروات.
قد لا تكفي تلك الدلائل لنشوب حرب عالمية ثالثة، لكنّ ملامح وانقسام الدول إلى معسكري حرب، بدأ…
الحروب الصغيرة والمواجهات الخفية بين مخابرات الدول، بدأت، ووصول الأمور للاحتكاك المباشر بين الكبار أمرٌ طبيعي إن شعر أحدهم بتهديد حقيقي لمصالحه القومية أو خطوطه الحمراء. زيد م. هاشم. إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات.