هل يمكن تجديد الخطاب الديني؟ إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات. المستشار الدكتور أحمد الحموي.
يدعو الكثير من المثقفين والمفكرين وغيرهم من السياسيين وباحثين في مؤسسات دينية، من خلال الشعور بالمسؤولية، إلى تجديد الخطاب الديني للخروج من أزمة التطرف الديني، فهل يمكن تجديد الخطاب الديني؟
سؤال يتبعه كم هائل من الأسئلة سأطرح منها سؤالين مهمين:
الأول: هل هناك خطاباً دينياً واحداً ليتم تجديده؟
والثاني: هل سيحل تجديد الخطاب (الخطابات) إشكالية التطرف الديني في المجتمعات الإسلامية؟
الإجابة على السؤال الأول من الواقع: هل يوجد خطاب دينيّ واحد؟
بالتأكيد لا يوجد خطاب ديني واحد ليتم تجديده، فهناك خطابات متعددة؛ منها الخطاب الديني المحافظ؛ والمتحرر؛ وما يسمى بالمعتدل؛ وغيرها، أضف إلى ذلك بأنَّ هناك خطاباً للمؤسسات الدينية، وخطابات تُنتجها مجموعات دينية خارجَ إطارِ المؤسسات الدينية ليس لبمقدور أحدٍ السيطرةَ عليها، كالخطاب المتشدد السلفي الجهادي، والخطاب الديني المتحرر الذي يتماشى مع القيم الغربية.
إذن؛ نحن أمام مجموعةٍ كبيرةٍ من الخطابات الدينية التي لا يمكن تجديدها دفعة واحدة وبسلَّة واحدة، هذه صعوبة لا يمكن تجاوزها بسهولة.
الاجابة على السؤال الثاني: هل سيحل تجديد الخطاب إشكالية التطرف الديني في المجتمعات الإسلامية؟
في مدى فاعلية تجديد الخطاب الديني من عدمه؛ فالخطاب هو مجموعة من المعايير المعرفية والأخلاقية متناسقة في منظومةٍ فكريةٍ ولغويةٍ واحدةٍ. لها حدودها التي تفصلها عن باقي المعايير والخطابات الأخرى.
الخطاب أو تلك المنظومة ليست منفصلةً عن الواقع، بل تتحرك في سياقات محددة ومعينة من خلال اللغة المحكية والمكتوبة وطرق التواصل في مجتمع صغير أو كبير، تحدد تلك اللغة طريقة التعامل بين من يتبنون ذلك الخطاب مع من يتبنون خطاباتٍ أخرى.
مثال على ذلك؛ خطاب السلف الصالح ذو الرؤية المعينة في طريقة قراءة النص الديني من خلال العودة للسلف الصالح الذي قرأ النص وفهمه، هم يُلزمون أنفسهم بهذا الفهم وتطبيقه.
أما الخطاب السلفي فله منظومة معيارية ملتزم بها، ترفض كلَّ قيمةٍ عقليةٍ متجددة وترفض كل قيمة لها جذور غربية. هذا الخطاب له بيئة يتحرك بها سياسياُ من خلال الأحزاب السلفية، واجتماعياً من خلال مجموعة من المساجد والأحياء السكنية حيث يبدو للعيان طريقة الكلام والملبس بالنسبة للنساء والرجال والذي يميزهم عن باقي المجموعات الدينية الإسلامية.
فطريقة الملبس والتعامل مع الآخرين تحدد من يتبنى هذا الخطاب ويعبر عنه لغة وتواصلاً.
فالخطاب مسؤول بدرجة ما عن صياغة العقلية الفردية والوعي الجمعي لمجموعات معينة، ولكل خطاب مراكز قوى أيضاً وناشطين يتبنونه ويسوّقونه في مجال عام محدد.
مصطلح تجديد الخطاب الديني
لنعد هنا لمصطلح التجديد الذي يعني بأن خطاباً فاعلاً سيلبي متطلبات الواقع، وبما أنّ ذلك الواقع تطور بسرعة كبيرة، فلا بدَّ من تجديد ذلك خطاب ليتلاءم مرة أخرى مع الواقع الجديد.
لا بدَّ من الاعتراف بأن الخطاب الديني بأغلب فروعه كان ومازال يعيش أزماتٍ متتالية، منذ غلق باب الاجتهاد إلى يومنا هذا، إذ أنه عجز عن أن يطوّر نفسه في مخاطبة مريديه.
نعم؛ كان للخطاب المتشدد دور كبير في ظهور التيارات الراديكالية المتشددة؛ (اتّجاه سياسيّ يطالب بالإصلاح الجذريّ التامّ في إطار المجتمع القائم، ويقوم على إطلاق الحريّة في الاقتصاد وعلى التفكير العقلانيّ غير المتسرِّع قبل اتِّخاذ الخطوات المؤدِّية للإصلاح )، ولكن؛ هذا لا يعني بأن النص المقدس وطريقة تفسيره كانا رافدين مهمين لذلك الخطاب المتجدد، إضافة لدور السرد الديني كقصص الشهادة وحياة الرسول وصحابته في مجتمع نقي ناصع البياض كما تُصوره كتب التاريخ، فقد أصبح ذلك السرد ومنه السرد القرآني؛ جزءاً لا يتجزأ من الوعي الجمعي وذاكرة المجتمعات الإسلامية، فيمكن لأي شخص أو مجموعة من خارج المؤسسة الدينية التي تتبنى خطاباً معيناً من تفسير النصوص المقدسة والتزود من المعين السردي، للقيام بفعل إرهابي، وعلى هذا الأساس فمقولة تجديد الخطاب الديني لا تبدو فكرة جيدة لأن المشكلة لازالت قائمة في أصل فهم النص وطريقة التواصل معه.
لا يمكن تجديد الخطاب الديني طالما هناك مشكلة في فهم النص المقدس وطريقة التواصل معهُ
هل نرفض النص الديني كلياً. هل نقبله كلياً. أم أنَّ هناك طريق آخر؟
لا يمكن منطقياً وأخلاقياً رفض نصٍّ دينيٍّ، لأنه جزء لا يتجزأ من التراث الإنساني وهو رافد مهم من روافد المنظومة الأخلاقية المعيارية لِكَمٍّ هائلٍ من المجموعات البشرية.
إذن؛ هل يمكن أن نقبله كلياً دون نقد؟
لا يعني مصطلح النقد هنا التقليل من شأن النص، كما في الترجمة العربية للمصطلح بل هو منهج فكري قائم على معايير أخلاقية، إنَّ قبوله كلياً سيوصلنا لما نحن عليه الآن.
الطريق الوحيد هو تجديد طريقة التعامل مع النصّ الديني
إنَّ أكبر مشكلة تواجه المؤسسات الدينية هي المنهجية التي تتعامل بها مع النصوص الدينية، فهي منهجية قديمة إذ لا يريد القائمون على تلك المؤسسات الاحتكاك بالمناهج الحديثة التي تطورت في الغرب والشرق؛ بدعوى الحفاظ على الهوية والتراث لأنهم بقَبولها سيفقُدون امتيازاتهم، لأنهم الوحيدون ممن يحتكرون تفسير النص الديني بدعم من مراكز القوى السياسية أو غير السياسية.
إذن؛ ليس تجديد الخطاب الديني هو الذي ينفع لتجنب ظاهرة التشدد الديني؛ بل تجديد الفكر الديني وذلك باستخدام مناهج علمية متطورة في التعامل مع النص الديني والتاريخي من خارج المؤسسات الدينية، التي لا بدَّ أن تتحول إلى مؤسسات أكاديمية بعيداً عن القدسية الموروثة، فالمتدّينون إلى الآن ما زالوا يدورون في فلك المنهج الوضعي، وإن خرجوا من ذلك الفلك فهم لا يصلون إلاّ اضطراراً للمنهج التأويلي (هذا إن وصلوا)، وربما سيكون الوصول للمنهج النقدي الذي ينطلق من مبادئ معيارية، متأخراً، أولّها الأخلاق في طريقة تعاطيه مع النص الذي لا يرى به قدسية بقدر التفاعل معه كنتاج إنساني بحت ليتم التعامل معه بموضوعية.
إنَّ ذلك ينسجم أيضاً مع روح الدِّين الذي يكمن في جوهرة فكراً معيارياً يدعو لتغيير المجتمع نحو الأفضل.
القدسية في المنهج النقدي لا تكمن في النص نفسه لكن في المبدأ الأخلاقي الذي يتضمنه المنهج والعاملون عليه.
هناك طريق طويل لتجديد الفكر الديني، وإلى أن نصلَ إلى ذلك، سنظل ندور في فكرة جوفاء اسمها تجديد الخطاب الديني ولكن بعد أن تُسفكُ الكثير من الدماء وسنكون حينها في الدرك الأسفل من الحضارة إن لم نصل لذلك الدرك لحد الآن.
يجب بعد هذا الشرح أن نعلم؛ أيضاً الخطاب الديني المسيحي واليهودي، متعدد وليس خطاباً واحداً لتعدد الطوائف فيه،لهذا فإشراك الخطاب الديني الآخر (المسيحي واليهودي) في الندوات والمؤتمرات والمناسبات الدينية؛ لهو جديرٌ برفع وإزالة الفكر المتطرف وإعمال الفكر المتجدد، لأن المساحة الجغرافية على الأرض تتسع لكلّ هذه الخطابات الدينية. وإذا تضافرت الجهود مع بعضها؛ نكون قد تخلصنا وقضينا على التعصّب وعلى الهيمنة الفكرية؛ بمشاركة الآخر، فنحصل على حضارة راقية، ووصلنا إلى الثوابت البنّاءة لهذا المجتمع، بأطيافه ولوحته الفسيفسائية، من خلال التعايش الإنساني، واللُحمة البشرية الإنسانية. إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات. المستشار الأكاديمي والسلوكي الدكتور أحمد الحموي.