عدد القراءات 99026 ورثة الإلحاد ـ الجزء الثاني بحثٌ لمركز فيريل للدراسات ـ برلين. د. جميل م. شاهين. الكاتبة والباحثة: سارة عيسى.
لمراجعة الجزء الأول:
هل تسير الأديان نحو الانقراض؟ بحثٌ لمركز فيريل للدراسات ـ برلين الجزء الأول
-
يُصنِّفُ معظمُ المُتديّنين، أصحابَ الدياناتِ الأخرى أو الذين لا يؤمنون بدينهم، بصفات غوغائية لا يفهمون معناها، فهؤلاء بنظرهم سواء كانوا علمانيين، ملحدين، لا دين لهم، كلهم “كفّار”. في الحقيقة وبنظرة متفحصة، نجدُ عدة مذاهب تتوسط بين الإيمان والإلحاد.
اللاأدرية
-
مذهب يحمله أصحاب كلمة “لا أدري”، فعندما تسأله: “هل الله موجود؟” يُجيب: “لا أدري”. ثم: “هل هناك يوم حساب؟” يُجيب: “لا أدري”. وهم يؤمنون بأنّ المعرفة نسبية، غير مؤكدة، ولا يجزمون بأمر ما. فما أراه أنا صائبًا يراه غيري خاطئًا، والعكس صحيح، وحكم كل شخص على مسألة ما يختلف زمنياً وتبعاً للظروف المحيطة، لهذا سيكون أقرب جواب للحقيقة هو: لا أدري. يتصفُ اللاأدريون بفكر ناقص وشخصية تائهة متناقضة، فالجزم بوجود أو عدم وجود الله هو أمر مستحيل. ويتم تقديمهم كموقف معتدل بين الإلحاد والتدين. رغم أنهم يشككون بكل ما هو لاهوتي أو إلهي، متسلحين بقناعة أن العقل لا يستطيع إدراك الغيب. وبرأي مركز فيريل اللأدرية هي مرحلة ما قبل الإلحاد أو ما قبل التديّن.
اللادين
-
أصحابهُ ينعدمُ لديهم الإيمان بأي دين وبشكل متعمّد. ويرفضون اتخاذ الدين كفكرة مركزية لتنظيم حياة الإنسان، ويختارون طريقة للحياة لا تتماشى مع تعاليم الأديان. لكنهم يؤمنون بالله، ويرون أنّ الدّين يُسخّف ويحط من قدره، لهذا فلن يصل عبر الدين أي إنسان إلى الله.
-
المذهب الإنساني: وصفه كرت فونغت: “أن تكون إنسانياً، يعني أن تحاول التصرف بطريقة لائقة بلا توقعٍ لمكافأة أو لعقوبة بعد موتك. الإنسانية موقف حياة تدريجي بلا غيبيات، نقوم بتأكيد قدرتنا ومسؤوليتنا على قيادة حياة أخلاقية لتحقيق الذات التي تتوق لنشر الخير الأعظم للبشرية”. العلم والعقل بالنسبة للإنسانيين يشكلان القاعدة الأساسية لفهم العالم واستيعابه، ويدعو لجعل الحياة التي نعيشها لأجلنا ولأجل بعضنا ولأجل عالمنا، فالحياة التي نعيشها واحدة.
-
المذهب العقلاني: فهو المذهب الذي يقبل سلطة العقل بلا قيد أو شرط، يهدف إلى تأسيس نظام فلسفي وأخلاقي، قابل للإثبات بالتجربة ومستقل عن الافتراضات الاعتباطية او السلطة.
الإلحاد
لا يُعتبر الإلحاد ديناً، وهو في حقيقتهِ مصطلح عام يُستخدم لوصف فلسفة حديثة قديمة، فكرتها الأساسية “إنكار وجود خالق عظيم لهذا الكون“. وبالتالي إنكار كل الأديان وتعاليمها، ولا يمتلك الملحد اعتقاداً دينياً فلا يؤمن بإله ولا آلهة، أو بأي شيء غيبي، وينفي وجود إله واحد على الأقل وجميع الآلهة على الأغلب. يتبَع الملحدون لمجموعة المفكرين الأحرار الذين يتخذون من المنطق والعقل والفلسفة والأسس العلمية والبراهين، مؤشراتٍ كافية لتشكيل آرائهم حول الدين. تطلق هذه التسمية أيضاً على المفكرين في خارج مجالات الدين فمن الممكن أن تكون مفكراً حراً دون أن تكون ملحداً. وقد شملنا بمركز فيريل للدراسات مفهوم الإلحاد القديم والمعاصر بهذا الوصف: “كلّ ما لا يثبتهُ العلم والتجارب العلمية، هو إما ناقص أو لا وجود له، وكل ما لا يمكن الإحساس به بإحدى الحواس على الأقل، ولا يمكن قياسه وتحديد صفاته سواء بالحواس أو باستخدام التكنولوجيا المتطورة، هو غير موجود.”. طبعاً هذه النظرية لها ما يثبتُ عدم صحتها، وكمثال بسيط؛ فإذا كنا لا نستطيع إثبات وجود حياة على الكواكب الأخرى، فهل هي غير موجودة حقاً؟!. هنا نستعير قول Francis Bacon الفيلسوف والكاتب الإنكليزي وقائد ثورة “الملاحظة والتجريب” في الفلسفة: “قليل من الفلسفة يؤدي إلى الإلحاد، لكن التعمّق في الفلسفة يؤدي إلى الإيمان.“.
-
حسب كارل ماركس الذي يُعتبرُ مُلحداً: “الإنسان الذي يؤمن أنّ الله هو الذي خلقه وهو الذي يصونُ حياته، هو إنسان تابع وليس مستقلًا…“. قال أيضاً: “الإيمان بالله يقضي بالاعتراف بعدم قيمة الإنسان. إذاً لابد من الاستغناء عن الله لإنقاذ الإنسان”. ولخص “ماركس” فلسفته الإلحادية في قوله: “الإلحاد هو إنكار الله، وبهذا الإنكار يؤكد وجود الإنسان“. ويتألف الفكر الماركسي من ثلاث نظريات؛ الأولى: هي المعرفة، والثانية: فلسفة التاريخ، والثالثة: نظريته الاقتصادية. قال كارل ماركس في الإلحاد: “لا يُعتبر الكائنُ مستقلاً إلا إذا كان مكتفياً بذاته، ولن يكون مكتفياً بذاته إلا إذا كان هو نفسهُ مصدر وجوده، إن الإنسان الذي يعيش من فضل غيره هو كائنٌ تابعٌ.”. وقال في الدين: “إنّ نقد الدّين يُخرج الإنسان من أوهامه، ويحمله على أن يفكر ويعمل وينظم واقعه كرجل تخلص من الوهم وبلغ الرشد، حتى يدور حول ذاته، حول شمسه الحقيقية، وما الدّين إلا الشمس الوهمية.”. يُعدّ الإلحاد الذي أبدعه ماركس من أخطر ضروب الإلحاد التي شهدها التاريخ البشري الحديث، بل من أكثرها تصميماً وكفاحاً وتنظيماً وإعلاماً، لأنها تبنت الدفاع عن المظلومين والفقراء وهي قضية إنسانية بحتة في ذاتها، لذلك تبنى المدّعوون هذه العقيدة الجديدة واتخذوها فلسفةً واقتصاداً. وبعدها تفجرت الثورة البلشفية في روسيا وكذلك في الصين والدول الأوروبية حتى وصلت المنطقة العربية.
-
في كتاب للباحث اللبناني “مشير باسيل عون“، بعنوان “نظرات في الفكر الإلحادي الحديث“، يتناول في مقدمته نشأة الفكر الإلحادي الحديث، الذي بدأ من الفيلسوف الألماني Ludwig Andreas Feuerbach (1804-1872). وأثر فكره في فكر من تلاه مثل: فرويد وماكس ونيتشه. كما تبنى فولتير و إنجلز، راسل وكونت، وغيرهم من كبار الفلاسفة وعلماء الاجتماع والتاريخ، الفكر الإلحادي في الفترة التي بدأت فيها الشعوب الأوروبية تضج من حكم الكنيسة، وتدعو للثورة عليه، مما جذبهم لفكر هؤلاء ووثقوا بآرائهم، كردة فعل على لمواقف المتسلطة للكنيسة، علماً أنّ أول ظهور للإلحاد في أوروبا كان سنة 1770، أي قبل وجود الفيلسوف الألماني.
-
تأسس فكر فوير باخ Ludwig Andreas Feuerbach على نقد المخيلة الإنسانية التي تنسب الطاقات الطبيعية لله، ويدعو “للأنسنة” بما في ذلك الذات الإلهية، كما تحدثنا في المذهب الإنساني، فالفكر الفلسفي الخاص به أنشأ ثلاث مقاربات لهذه الذات، الأولى تقاربها للإنسان، والثانية لجوهر الطبيعة، أما الثالثة فتكونت على زعم أن الإله هو نتاج رغبة الإنسان، والدّين هو تصور إنساني تنتجه رغبة الإنسان في الاحتماء من الضعف والوهن والفقر والمرض، وهي حال انثبولوجية طبيعية. قال فويرباخ في الإلحاد المعاصر: “نقطة التحول الكبرى في التاريخ ستكون اللحظة التي يعي بها الإنسان أنّ الإله الوحيد هو الإنسان نفسه”. ينتقد مشير عون تلك الفلسفة قائلاً: “ما تجدر الإشارة إليه في تحليل هذه الرؤية الالحادية، أن فويرباخ لا يبرر بشكل وافٍ انتقال الإنسان من الوعي الأول الناقص، وهو الوعي الديني لجوهر ذاتي أسند إلى كائن آخر، إلى الوعي الثاني الصائب، وهو الوعي الفلسفي لجوهر الذات وقد استعاد الإنسان ملكيته وأعاد موضعه الأصلي في صميم كيانه الإنساني”.
-
استعرض مشير عون فكر فريدريك نيتشه المتميز بالغموض في أطروحاته، فقد مرّ فكر نيتشه في ثلاث مراحل تحولية سمى الأولى (الجمل والإكراه الخانع)، إذ كان في بداية حياته خاضعاً للفكر القسّي باعتبار أن بيئته كنسيّة، أما التحول الثاني فكان (الأسد أو الرفض الهدام)، وهنا تجلت بوضوح رغبته في الانتفاض على فكر بيئته، أما الثالث فكان (الطفل أو تثبيت الذات)، فحينما تتحطم معنويات البيئة في فكر الوعي جراء الثورة، يبدأ بعدها حياةً فكرية جديدة أشبه بالولادة الثانية، قادرة على الخلق والإبداع لأنها انعتقت من جميع ما يقيدها. جاءت الثورة الصناعية ليعلن نيتشه موت الإله كدلالة على التحرر من قيود الكنيسة.
-
-
ظهور المذهب الاقتصادي الالحادي وخاصة الشيوعي بمؤسسه كارل ماركس، الذي يستهدف إعلان المبشرين به معالجة المظالم الرأسمالية الفردية والسيطرة على مجتمع اشتراكي يعمل به كل إنسان حسب طاقته ويأخذ حسب حاجته فقط. إلا أن القائمين على المذهب صبغوه صبغة عقائدية وأعطوه أبعاداً أخرى غير اقتصادية، وادعوا أن الحياة التي يعيشها الناس حياة مادية ولا توجد روح ولا بعث أو إله، وأنّ الأديان من صنع الأغنياء ليستغلوا بها الفقراء. وما كان الأنبياء إلا دجالين أرادوا بنشر الأديان، تخدير الشعوب وتنويم قداتهم ووعيهم وتفكيرهم وإبداعهم وعلومهم.
-
يتجاهل الالحاد المعاصر لدى هؤلاء وجود الله ويؤلّه الإنسان، فإذا كان الله موجوداً فليبق في سمائه وليترك الإنسان إلهاً لهذا الكون، قال الشاعر الفرنسي بريفير: “أبانا الذي في السموات، ابق فيها”، برأي هؤلاء الفلاسفة أن الاعتقاد بوجود الله يلغي سلطان وكرامة الإنسان في الأرض. كما يقول إيتان بورن عن الإلحاد المعاصر: “تصميم أولي، يجب أن لا يكون الله لكي يوجد الإنسان”.
-
الإلحاد المبني على الجهل
-
يقول نيافة الأنبا غريغوريوس: “الإلحاد المعاصر المبني على الجهل، ليس إلحاداً منطقياً ولا فلسفياً ولاعقلانياً ولا علمياً، إنما هو إلحاد تصميم بالفكرة لرفض الله، وذلك بسبب خبرة حزينة عند بعض الأفراد أو الشعوب، مؤلمة وقاسية، عن الدين، المتدينين، الحكام والملوك، الذين يتخذون منه غلافاً لتصرفاتهم ويستندون به كذباً وبهتاناً إلى الله”. وهو ما تعاني منه كل الشعوب، وليس معظمها، فبسبب هؤلاء، حدث بالدّين ما حدث. ويوضح الكاتب جورج سميث أن هناك فرقاً بين رجل الشارع البسيط الذي ينكر فكرة الإله لأسباب شخصية أو نفسية أو اجتماعية أو سياسية، والملحد الحقيقي الذي يجب أن يكون غرضه الرئيسي هو الموضوعية والبحث العلمي، وليس التشكيك أو مهاجمة أو إظهار عدم الاحترام للدين. فبعض الملحدين لهم فكر حضاري متطور قائم على العلمانية وحقوق الإنسان.
-
يكون الإلحاد ظاهراً إن أعلنه المُلحد لغيرهِ، أو باطنياً لا يتجرأ الملحد على إظهارهِ بسبب خوفه من ردّة المجتمع عليه.