مازالت نتائج الانقلاب في تركيا تتسارع وتتوالى، والرئيس التركي يفعل ما يريدهُ بأعدائه دون حسيب أو رقيب، وكأنّ الانقلاب جاء من تدبيره كي يتخلص من خصومه، فيقضي على العلمانية قضاءً مبرماً، ويحوّل تركيا إلى دولة الحزب الأوحد، حزب العدالة والتنمية “الإخوان المسلمون الأتراك”.
كنا نشرنا في مركز فريل للدراسات خط سير رحلة أردوغان، واتصاله مع أوباما حيث حطت بعدها طائرتهُ في قاعدة أنجرليك. تكشفت الحقائق لاحقاً لأردوغان، وسواء كانت حقائق أو أكاذيب يسوقها نظامهُ، فهو التف 180 درجة على أوباما، بعد أن بدأ الوضع يستقر لصالحهِ وبدعم كبير من المخابرات الروسية. ربما أيقن الرئيس التركي أنّهُ ليس أكثر من “كلب” بيد الناتو، كما صورتهُ الصحافة الألمانية يوماً، فأراد أن يصبح فهداً، فاتجه شرقاً.
الاتجاه شرقاً جاء بعد أن تأكد من صدق المخابرات الروسية، والتي اتصلت برئيس الاستخبارات التركي هاكان فيدان، عند الرابعة مساء 15 تموز 2016، وأخبرتهُ: “تمّ اعتراض اتصالات عسكرية بين عدة قادة في سلاح الجو التركي، تؤكد أنهم يدبرون انقلاباً خلال ساعات. وأنّ هجوماً سيحدث على مكان إقامة أردوغان في مدينة مارماريس بمروحية، بهدف قتله… وأنّ الانقلابيين على علاقة بالمخابرات الأميركية.”
صحيح أنّ هاكان فيدان لم يُصدّق المعلومات الروسية، بل شكك بأنها قد تكون لعبة استخباراتية لإبعاد تركيا عن الولايات المتحدة، لكنه تعامل معها بجدية، وتحقق من الأمر فأخبر أردوغان بعد ساعات من الاتصال الروسي.
انقلبَ أردوغان على أوباما بعد أسبوعين من محاولة الانقلاب، فحاصرت قواته الأحد 31 تموز قاعدة “أنجرليك” العسكرية، المشتركة من ناحية الاستخدام بين الناتو وتركيا، والحجة؛ معلومات عن محاولة انقلابية في مدينة أضنة المجاورة. في الحقيقة لم تكن هناك معلومات أو محاولة انقلاب، بل المقصود استقبال رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية جوزيف دان فورد برسالة قوية مفادها: “أنتم الذين دبرتم الانقلاب في غرف البنتاغون المغلقة.”. بل تمّ تسمية الجنرال Joseph Votel قائد القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط، كمخطط للانقلاب التركي، وهو نفسه الذي زار شمال سوريا سرا واجتمع بزعماء المسلحين بمساعدة المخابرات التركية، ويقود غرفة “أنطاكية” التي تحدثنا عنها سابقاً.
أردوغان لم ينقلب بعد، بل يراوغ ويساوم ولسان حاله يقول للناتو: “إما أن أعود الطفل المدلل للناتو، أو أصبح الطفل المدلل لروسيا.” في الحقيقة والأصح: “إما أن يعود أردوغان الكلب المدلل للناتو، أو يصبح كلب بوتين المدلل.”، المعروف عن بوتين أنه يحب تربية الكلاب.
- ثمن المساعدة الروسية: لم يخبر الروس أنقرة بمحاولة الانقلاب محبة بأردوغان، بل طلبوا منه مقابل ذلك إغلاق حدوده بوجه المسلحين، والتوقف عن دعمهم. أردوغان وعدَ، لكنه لا يفي بوعده، والحدود التركية تشهد بذلك. كما طلب منه الروس إغلاق “غرفة أنطاكيا”، أيضاً وعد، وصرّح مغازلاً الرئيس السوري: “رغم العداء الذي وصل حد الدم بيني وبين الرئيس السوري بشار الأسد، إلا أنه أدان الانقلاب، بينما طعننا حلفاؤنا الذين كنا بحاجة لدعمهم في الظهر.”. وكان يقصد السعودية والناتو.
ما يقوم به أردوغان هذه الأيام على الصعيد الخارجي هو عمل استعراضي؛ يهدف منه إلى القول بأنّ تركيا سيدة نفسها، دولة قوية مستقلة القرار ولا تصغي لأحد، بما في ذلك واشنطن والناتو. بيدهِ أوراق ضغط كثيرة:
- كونه عضو هام في حلف الناتو، يمكنه اللعب بورقة قاعدة أنجرليك، وتحديد الطلعات الجوية لطائرات الحلف. أما مسألة انسحابه من حلف الناتو، فهي مستبعدة جداً. الناتو بدأ يخسر الجيش التركي، ثاني أكبر جيش فيه، فما يفعلهُ أردوغان هو تخفيض عدد جنوده، وتحجيم دور هذا الجيش، وعندما ضرب دواعش أردوغان الجيش التركي بالسياط، فقد أهانوا جيشاً في الناتو،
- ورقة اللعب باللاجئين السوريين، والتهديد بفتح باب بحر إيجة أمامهم كي يصلوا إلى شواطئ اليونان، وإثارة أزمة اللاجئين من جديد في أوروبا.
- الاستمرار بأسلمة أوروبا، وهو ما استنتجهُ “عباقرة” الاتحاد الأوروبي أخيراً. وارسال المزيد من الإرهابيين إليها.
- إثارة أعمال الشغب وتطويرها إلى أحداث عنف في الدول الأوروبية، بين مؤيدي أردوغان ومعارضيه من الأكراد والأتراك أنفسهم.
- المصالحة مع سوريا، وإدارة ظهره للمعارضة السورية السياسية والمسلحة، وتحقيق طلبات روسيا، وحتى زيارة دمشق، وهذا لم يعد مستبعداً، فرغبات قيصر روسيا باتت أوامر ودَين برقبة أردوغان. ونتائج 9 آب قريبة.
- المصالحة العقائدية مع إيران، ولو كانت بعيدة الانجاز، لكنها تقضّ، بالإضافة للناتو، مضاجع السعودية.
- سوف يجتمع أردوغان مع بوتين بعد أيام، والهدف سياسي واقتصادي، فمشروع نقل الغاز الروسي تحت البحر الأسود عبر تركيا إلى جنوب أوروبا، كذلك مشروع بناء روسيا لمحطة الطاقة النووية في تركيا، على طاولة المباحثات، أما سياسياً؛ فتستمر محاولة سحب السلطان العثماني نحو روسيا، واستخدامه ضد الناتو، والروس بارعون في صناعة الفزّاعات.
- نجح أردوغان حتى الآن في عزل واعتقال 92 ألف؛ موظف رسمي وصحافي وعميد جامعة وأستاذ وضابط وجندي ولاعب كرة قدم، واقفال ألف مدرسة وحل الحرس الرئاسي، وقضى على جمهورية أتاتورك العلمانية، وها هو يسير بخطى سريعة نحو دولة ذات نظام إسلامي أخونجي، تحميه ميلشيا الذراع العسكري للإخوان المسلمين. وقريباً سيتم إعلان “دولة الإخوان المسلمين داعش التركية”، واختصارها: “دامدت” حسب مركز فيريل للدراسات، وسيأتي التمدد الجديد نحو الدول المجاورة، العراق وسوريا ولبنان، لكن بلبوس جديد هو ما تحدثنا عنه في المركز: “الأخوان المسلمون الجدد”. نجح أردوغان في المصالحة مع إسرائيل وروسيا، فهل سينجح مع مصر وسوريا؟
- دولة سنية في تركيا، دولة شيعية في إيران، ودولة يهودية في فلسطين، لِمَ لا. لهذا إسرائيل أشد أعداء الدول العلمانية في المنطقة، وستحارب أيّ دولة لا تستند في دستورها لكتاب ديني، ولا تطبق شعائر دينية.
- ما لم يحسب حسابهُ أردوغان، أنّ ردة فعل دول الناتو لن تكون الاستسلام لأحلامه العثمانية، فهو سلطان عثماني في بلاده وعلى العرب، لكنه في بلادهم حاجبٌ على باب الملوك. ما يمكنهم فعلهُ بتركيا ورئيسها مبدئياً:
- ضغط اقتصادي متنامي، وزيادة عزلة تركيا غربياً، وتحريك منظمات حقوق الإنسان في العالم ضد الديكتاتورية العثمانية. وضخ إعلامي غير مسبوق بدأ بتصوير أردوغان ككلب جزار ثم غوريلا ثم سفاح…
- إلغاء النظر نهائياً بطلب تركيا الانضمام للاتحاد الأوروبي، وإلغاء اتفاقية تأشيرات الدخول للأتراك، وكذلك اتفاقية اللاجئين. وكتصريح مختصر قال رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني: “إمكانية عمل أردوغان مع الأمريكيين والأوروبيين باتت محدودة.”
- دعم الأكراد الانفصاليين في سوريا وتركيا، لتحقيق غايتهم بدولة مستقلة على حساب دول المنطقة.
- انقلاب آخر، وإن فشل، سيكون تحذيراً جديداً له.
- من مركز فيريل للدراسات نقول: لن ينفع مع أردوغان شيء مما ورد، وسوف تجد دول الناتو نفسها أمام خيار واحد لردع العثماني… رصاصة قنّاص. وما نتمناه، ألا يكون هذا القنّاص موجوداً في دمشق، إن فكر العثماني بزيارتها.
- الكاتب: د. جميل م. شاهين ـ برلين