الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب. هادي ميّاسة

الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب. هادي ميّاسة. إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات. 05.07.2020

مع انتشار الإنترنت، أصبح وصول الأخبار لكل منزل لا يحتاج لمشاهدة فضائيات أو قراءة صحف، مزيج من الأخبار الصحيحة والكاذبة يطرق الباب كل صباح، فيجعل القارئ في حيرة تصل إلى التشويش وعدم معرفة حقيقة ما يجري.

في سوريا كغيرها، نقرأ تصريحات المسؤولين، بعضها صحيح وآخر مُلفّق، لكن حتى الصحيح منها بعيد تماماً عن هموم المواطن ومنفصلٌ عن الواقع. هنا يبرز السؤال: الوزراء والمسؤولون هم من حملة الشهادات الجامعية وما بعد الجامعية، فلِمَ هذا الجهل بالواقع والتغابي عن مشاكل الشعب؟ والسؤال الأهم: هل قام ويقوم هؤلاء بما عليهم فعلهُ ضمن الظروف الحالية لحل الأزمة الخانقة التي تمر بها سوريا؟

 هل تكفي الشهادة الجامعية للمنصب؟

يحصل الخريج الجامعي على معلومات نظرية عن الحياة العملية القادمة، ثم ينخرطُ في العمل ليكتسبَ خبرة تعادل أهميتها الشهادة بل تتجاوزها. لنفترض أنّ معظم المسؤولين لديهم خبرة عملية طويلة وقسم منهم عُيّن في منصب ضمن إختصاصه، إذاً أين يكمنُ الخطأ؟

خطأ الإدارة

الإدارة: هي الطريقة المثلى للسير بالمؤسسة على طريق التطوّر وتحقيق أهدافها والتزاماتها، باستخدام العديد من الأدوات التي تبدأ بالتنبؤ ومن ثم التخطيط والتنسيق، وأخيراً التنفيذ والتوجيه والرقابة.

المدير: هو الشخص الذي يدير المؤسسة ويقودها لتحقيق أهدافها والتزاماتها بأفضل السبل وأقل التكاليف الممكنة آخذا بالاعتبار مصلحة المؤسسة ومصالح كافة الأطراف المرتبطة بها.

اعتماداً على التعريفين السابقين لكل من الإدارة والمدير، دعونا نحاول استنباط المواصفات التي يجب توفُّرها بالمدير لكي يقوم بالإدارة الصحيحة. يجب أن يكون المدير ملمّاً بتفاصيل مؤسسته والمجال الذي تنتمي إليه، وهذا يفرض بأن يكون المدير متعلّماً. ولكن هل يكفي التعلُّم؟ فالمتعلم لغةً هو الشخص الذي نال علماً منحه إياه المعلّم، أي أنّ مفهوم المتعلّم واسع جدّاً وأنّ صفة “متعلّم” لا تعني شيئاً من دون النظر إلى المعلّم والعلم الذي منحه، فالكلّ متعلّم بما فيهم المتطرّف الديني. وعلى العموم ما يهمّنا من فئات المتعلّمين هو فئة محدّدة تتمثل بفئة المتعلّمين الأكاديميين. هل يكفي أن يكون الشخص متعلّماً أكاديمياً لكي يصبح مديراً ناجحاً؟

المسؤول مُفكّر مبتكر وليس فقط مُتعلّم

الجواب هو لا، فمهما بلغ حجم المعلومات التي تمنحها مناهج الجامعة فإنّها لن تكون كافية لتشمل كل المواقف والظروف التي قد تعترضنا في الحياة الواقعية أو في الإدارة على أرض الواقع.

بالخلاصة: التعليم وحده ليس كافياً ولا بد من توفّر صفات أخرى بالمدير. في الحقيقة يجب على المدير أن يكون منفتحاً على الآخرين وقادراً على مراعاتهم والتفكير من خلال منظورهم. فمدير لا يراعي احتياجات العمّال والموظّفين وظروف عملهم سيؤذي العمال والمؤسسة معاً، لأن وضع العامل ووضع بيئة العمل عاملان أساسيان بتحديد إنتاجية العمّال والموظّفين. وكذلك فإنّ المدير الذي لا يراعي عملاء وزبائن المؤسسة أفراداً أو شركات سيؤذيهم بعدم تحقيق مصالحهم واحتياجاتهم وسيؤذي مؤسسته بتقليل عدد المتعاملين معها والحطِّ من سمعتها ومكانتها.

على المدير أن يكون منفتحاً ومدركاً لظروف الآخرين ومقدِّراً لها، وهذا يتحقّق في حال كان المدير مثقَّفاً غير مكتفٍ بما تمّ تعليمه إيّاه، بل حاول التعرّف بالأشياء التي هي حوله وبحث عن المعلومات التي تخصّها ليتمكّن من فهمها وإدراكها سواء أكانت أشخاصاً أم مجالات علمية أخرى أو أي شيء آخر. فإذا كان المتعلّم هو الذي نال معلومات منحه إيّاها شخص أو مجموعة أشخاص بشكل مخطّط له ومتّفق عليه، فإنّ الذي بحث عن معلومة بشكل تلقائي وفردي لا يكون متعلّماً وإنّما مستكشفاً، والاستكشاف هو الصفة التي تُميّز المثقّف عن المتعلّم.

أخيراً لا بد من الذِّكر بأنّ المدير المثقّف العارف بتفاصيل المجالات الخارجة عن مجاله الذي اختصّ به، هو شخص قادر على ابتكار وخلق مجالات عمل جديدة تساهم بتطوير المؤسسة وتوسيع مصالحها وأعمالها وتخفيض التكاليف اللازمة لتحقيق أهدافها.

الصّفة الأهم التي يجب أن تتوفَّر بالمدير، هي صفة المفكّر، فلا حلّ يأتي بدون تفكير، وأن يتمتّع بالقدرة على التفكير الخلاّق. التعليم يصبح بلا جدوى إلا إذا كان قادراً على تحديد الحلول لكل المشاكل، وإلا فلا حاجة للتعلُّم بل يكفي أن يتمّ البحث عن الحل المحدّد سابقاً متى ما طرأت مشكلة ما. إذاً لا بدّ من التسليم بأنّ التفكير لا يقلّ أهمية عن التعلّم الذي هو وسيلة لتفعيل القدرة على التفكير، والتعليم المقتصر على التلقين والحفظ من دون الدعوة إلى التفكير ليس إلّا شكلاً من أشكال الأدلجة.

إذاً مدير يحملُ أعلى الشهادات الجامعية وبمراتب أولى، لن يستطيعَ إدارة مؤسسة إلا إن كان مثقفاً مُفكّراً خلّاقاً منفتحاً على الآخرين، وقادراً على تفهُّمِهم وفهم ظروفهم وحاجاتهم ومراعاتها، ويجدُ أفضل الحلول التي تحقق أهداف تلك المؤسسة وحاجات عمالها وزبائنها وكل المرتبطين بها.

وزيرا كهرباء

واجهَ وزير كهرباء، رقم واحد، خللاً في موازنة وزارته ناتجاً عن إرتفاع أسعار حوامل الطّاقة وزيادة الاستهلاك وضعف التوليد، فلجأ إلى تطبيق تقنين كهربائي يتوافق مع الكميات المستوردة من حوامل الطّاقة، والتي تمّ تخفيضها بما يتوافق مع السعر الجديد وفق الاعتمادات المالية المحددة مسبقاً على أساس الأسعار القديمة، ريثما تعود أسعار حوامل الطاقة وإنتاجها إلى ما يتناسب مع تقديرات الموازنة.

وزير كهرباء، رقم إثنان، في دولة أخرى، لم يلجأ إلى التقنين الكهربائي بسبب إدراكه أنّ تحقيق الأهداف المالية لوزارته وتجاوز العقبة المستجدة من خلال التقنين، ليس إلّا إلقاء للعبء على الغير، وسيؤدي إلى، لاحظوا ماذا سيؤدي تقنين استخدام الكهرباء ولا تستغربوا:

مشاكل أكبر ضمن مؤسسات أخرى، كتعطيل عجلة الإنتاج على مستوى المشاريع الصغيرة، وإرتفاع أسعار منتجات المشاريع المتوسطة والكبيرة بسبب استيرادها لحوامل الطاقة حتى تحافظ على دوران عجلة الإنتاج، والإخلال بالمزاج العام ضمن أفراد المجتمع ووهن نفسية الأمة، والإخلال ببرامج الدراسة والاستذكار للطلاب، وخسارة القطع الأجنبي من أجل استيراد المولدات الكهربائية والبطاريات وما يرافق ذلك من ارتفاع باستهلاك المشتقات النفطية التي تتطلب المزيد من توريدات النفط الخام، وارتفاع فاتورة صيانة تجهيزات الشبكة الكهربائية والمحولات بسبب زيادة الضغط والاختناقات الكهربائية، وغيرها الكثير…

وزير الكهرباء رقم إثنان؛ رفض تطبيق التقنين وقام بتعديل موازنة مؤسسته وفق دراسةٍ بحَثَ من خلالها عن أفضل السُّبل لتقليل التكاليف الإضافية، ثمّ توجّه إلى رئيس الوزراء ليقنعه بضرورة وأهمية جدوى خطّته المعدّلة، ويقنعه بمنح وزارته زيادة في الاعتمادات المالية من أجل تنفيذ الخطّة المعدّلة. في النهاية وجّه بإجراء دراسة تحدّد بشكل دقيق كميّة الكهرباء اللازمة لتحقيق الاحتياجات الأساسيّة للأسرة دون أي خلل، وأضاف على الكميّة التي اقترحتها الدراسة نسبة 10%، وحدّد هذه الكميّة كشريحة أولى تُحافظ على أسعار الكهرباء كما في السابق وفرض تعرفة أعلى على الشرائح التي تليها، أي (كلما زاد استهلاك الكهرباء ازدادت التعرفة).

هذا الوزير لم يعمل بغموض بل أوضح للناس ما يقوم به بنشر نتائج الدراسة التي اعتمدها عبر وسائل الإعلام، فأدركَ المُستهلك أنّ القرار الجديد جاء لخدمته ولم يفرض عليه أيّة تعرفة إضافية أو تقشف في حاجته الأساسية من الكهرباء.

 هنا تصبح المسؤولية مشتركة بين المسؤول والشعب، كيف؟ نعود لمثال الكهرباء، عند وضع حدّ معين للاستهلاك، يعلمُ كلّ مستهلك هذا الحدّ، يعلم درجة حرارة المكيّف المثلى التي حدّدتها الدراسة وعدد ساعات تشغيل سخانات المياه بدلاً من تركها تعمل على مدار اليوم، ولا يتركُ المصابيح الكهربائية مشتعلةً طوال الليل. أي يشترك الشعب والوزارة في الحلّ…

المثال السابق مُطبّقٌ هنا في ألمانيا، فالمواطن الألماني لا يترك المصباح مضاءً في غرفة لا يستخدمها، ولا يتركُ التدفئة بمنزله وهو في عمله، استهلاك الكهرباء مثالي. أمّا مَن يريد أن يستهلك أكثر فعليه أن يدفع أكثر، هذا المستهلك الأخير هو الغني أو المعامل الكبيرة، وبذلك يتحقق نوعٌ من العدالة دعونا نُسميها “العدالة الكهربائية“.

الوزير الأول هو وزير متعلّم فقط، لأنّه اكتفى بتطبيق ما تعلّمه سابقاً في شكله وصيغته الخام واختار أسهل الحلول متجاهلاً كفاءة الحل. لم يُطوِّر شيئاً في وزارته بل ألقى بأعباء إضافية وإرث من السمعة السلبية للوزارة على خَلَفه، كما أنّه كرّس النموذج الإداري الروتيني وغير الخلّاق

الوزير الثاني يصنَّف هو وزير مفكّر لأنّه درس الواقع الذي هو فيه وفكّر بصيغة تحقق المواءمة بين ما تعلَّمه وبين واقعه، ولأنّه أدرك أنّ ما تعلّمه ليس هدفاً بحد ذاته وإنّما وسيلة لتحقيق الهدف الحقيقي المتمثّل بخدمة المجتمع والاقتصاد، فقام بتعديل الموازنة لتحقّق أهدافها الحقيقية ولم يتعامل معها على أنّها هدف بحدّ ذاتها. حوّل العقبة التي واجهت عمل وزارته إلى نقطة مضيئة دلَّته على بعض مكامن الضعف والخلل في الوزارة وما يرتبط بها، فطريقته المبتكرة لحملة الترشيد ومشاركة التفاصيل والواقع مع الناس، منحت الحملة الكثير من القبول والاستجابة الشعبية مما أدّى إلى تحقيق وفورات كبيرة في الاستهلاك خفّفت على الناس فواتيرهم وحققت للوزارة فائضاً ووفورات مالية على الرغم من ارتفاع التكاليف، ونجاح خطته بترشيد الاستهلاك ساهم بتخفيض كل من حجم الاستهلاك الكهربائي ومعدّلات نموّه ونتج عن ذلك تقليل الضّغط على الموازنات التالية ضمن البند الذي يضم مشاريع إنشاء محطات توليد كهربائية جديدة لمواكبة نمو الاستهلاك، وأخيراً ألقى على خَلَفِه عبئاً من الإرث الجيّد والسمعة الطيبة أجبراه على العمل الجاد والخلاق في سبيل محاولة تحقيق إنجاز يساعد على رسوخ اسمه إيجابياً في ذاكرة الناس مثل سلفه المفكّر الخلّاق.

ماذا عن الوزير السوري؟

بالعودة الى الواقع السوري؛ على فرض أنه لا يوجد فساد والمسؤول الموجود على الكرسي يحمل نفس الشهادة الجامعية المناسبة لمنصبه، دعونا نتخيّل فقط… هل يشعر النّاس بأنّ الإجراءات التي تُتّخذ تنطلق من هدف تحقيق حاجاتهم ومطالبهم؟ أم يشعرون بأنّهم خارج المعادلة؟ هل يلمس الناس أي قدرٍ من الشفافية لدى المسؤول السوري؟ هل يشعرون بأنّهم شركاء باتخاذ الإجراءات والحلول؟ أو على الأقل هل يتم وضعهم بصورة المشكلة وطبيعة الحل والإجراء المتَّخذ لمجابهتها؟ هل يوجد تخطيط للمستقبل؟ هل وهل…

الحكومات المتعاقبة تقعُ دائماً في ذات المشكلة المُتنبئ بها، فتُكرر ذات الأخطاء حتى وصلنا لمرحلة “استنساخ الحكومات والمسؤولين“. مسؤول سوري مُتعلّم غير مُفكّر وغير مُبتكر يُكرر أخطاء أسلافه ويقع بذات الحفرة.

الحلول دائماً تكون بالتقشف وليس الترشيد، حتى قبل الحرب. وتتبع نمطاً تقليدياً مُكرراً، فحلّ مشكلة اليوم هو نفس الحلّ الفاشل الذي اتبعهُ المسؤول السابق والذي قبلهُ. كيف يكون الابتكار إذا كان استلام المنصب الإداري في سوريا لم يعد بحاجة إلى أيّة شهادات أو قدرات تفكيرية، بل بحاجة لتزكية من قبل جهات نافذة.

عندما قلنا مراتٍ في مركز فيريل للدراسات أنّ الوضع بات بحاجة لانقلاب شامل، هذا أيضاً يدخل ضمن هذا الانقلاب الذي نتحدثُ عنه. إنقلابٌ على المفهوم والطريقة التقليدية التي يُعيّن فيها المسؤول وطرق حلّ المشاكل والمصاعب. إنقلاب على طريقة التفكير العقيمة المُتحجرة التي تقتلُ كل ابتكار وتجديد وإبداع.

مُعظم الحلول، لا نريد أن نقول كافة، التي تلجأ لها الحكومة تكون على حساب المواطن ولصالح التاجر. من أزمة الغاز والمشتقات النفطية، التقنين الكهربائي، باقات الانترنت، المواد الغذائية، إرتفاع الأسعار… الحل الأسهل لدى المسؤول السوري هو “حرقُ نفس المواطن”. يظنّون أنّهم ابتكروا طريقة للمعالجة؛ مثلاً: في محاولة لحل أزمة الغاز وللتخلّص من الازدحام المرافق، جعلوا التوزيع وفقاً للرسائل النصية. خفّ الازدحام، صحيح، لكن هل تمت معالجة الأزمة؟ الناس جعلت من الكهرباء بديلاً عن الغاز، فزاد الاستهلاك وزاد التقنين… حل المشكلة يتم بخلق مشكلة جديدة، فهل هذا حلّ؟

حوّلوا الخبز إلى البطاقة الذكية مع تقييد الكميات بطريقة غير مدروسة. قطعوا الانترنت والاتصالات أثناء الامتحانات الثانوية لمعالجة الغش على حساب حرية الناس وراحتهم وحالاتهم الاضطرارية. رفعوا سعر السكر والأرز ثم خفضوه دون أن يعود لمستواه السابق… هل تعرفون نظرية “الخنزير في الزنزانة“؟

ختاماً

تكمن المشكلة الرئيسية في الأسس التي تُعتمدُ لتعيين واختيار المسؤول. ما كان يصلح في الثمانينات لا يصلح الآن. مع احترامنا لمبادئ حزب البعث وكي لا يتصيد الصغار، نقول: هل كان المسؤولون الذين تمّ تعيينهم من قبل قيادات الحزب ناجحين؟ هل التقارير الأمنية التي زكّت فلان لمنصب ما، كانت صحيحة؟ كم مسؤول حزبي أو أمني انشق أو كان فاسداً؟ كم عدد المسؤولين المُفكرين المبتكرين غير المصفقين؟ تعلّم التصفيق لا يحتاج إلا لنفاق، والذي يُصفقُ لكَ اليوم، يُصفقُ لغيركَ غداً. ما أكثر المصفقين وما أقل المُفكرين… هادي ميّاسة. جامعة تشرين. إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات. د. جميل م. شاهين.