عندما زرتُ المقابر لأول مرةٍ، لسببٍ لا أذكرهُ، بدأتُ أقرأ أسماء الموتى على القبور، وكنتُ أربط أسماء عائلاتهم بأسماءِ أصدقائي المسيحيين، فأسألهم بعدها عن موتاهم. فهمتُ أن المقابر بغالبيتها هي حسب القول “أهلية محلية” فالكلّ يعرف الكل. انتابني إحساس بالراحة لم أفهمه حينها، قد يكون بسبب اطمئناني أن في المستقبل، وأرجوه بعيداً، لن أكون مدفوناً بين غرباء.
هاجَرَ من هاجَرَ من أهل حلب، بسببِ هذه الحرب المجنونة. غادر مدينته وحيطان أبنيتها وأرصفة شوارعها وأحياءها، هرباً من عصف القذائف وخوفاً من مستقبلٍ مجهول ومن تهديدات تنادي بتهجير المسيحيين تحديداً إلى بيروت.
توقّفَ هذا المكوِّن المسيحي في بيروت لالتقاط الأنفاس ثم… تشتَّت في أصقاع العالم.
لا ألومُ أحداً، فلكلِّ إنسان خياراته، كما أنني لا أدَّعي البطولة ببقائي في حلب، لأن الأمر بكل بساطة أني أخافُ أن يتمّ دفني، بعد عمر طويل، في أرضٍ غريبةٍ وبين موتى لا أعرفهم.
بطبعي أحبُّ الناس، فعندما أسيرُ في شوارع مدينتي أو أسافرُ لأماكن متعددة، تنتابني البهجة عندما يُسلَّم عليّ وأسلِّم على الكثيرين.
لا أتخيل نفسي أستطيعُ العيش في بلد لا يعرفني ناسه وأرصفته.
في حلب… هذه المدينة التي عاشت مع التاريخ، يعرفني الناس وأعرفهم.
أرصفتها وحجارتها تعرفني. شوارعها …مزاريب أسطحتها …
باعتها المتجولون مع عَرَباتهم الممتلئة بالخضار والفواكه. ماسحو السيارات والأحذية
أشجارها المهملة وحدائقها
عمّال نظافتها وعناصر شرطة المرور… حتى ذبابها وبعوضها أصبحت معتاداً عليها
كيف لي أن أموتَ في مدينة ليست لي بها كل هذه الذكريات؟
ليس لي في مقابرها أقربائي وأصدقائي؟
الكثير من المدن أجمل من حلب… بنظرهم.
لكن أيضاً؛ الكثير من الأمهات أجمل وأحسن وأكثر ثقافة من أمي. لكني… أحبّ أمّي…
سوريا بأرضها ومدنها وقراها… سوريا بكلّ ما فيها، هي أمي…
أحبها… وكفى …
لأجل أمّي… لم أغادر
اللهم إشهد أني بلغت. المهندس باسل قس نصر الله مستشار مفتي سوريا. Firil Center For Studies FCFS