شهدت الشهور الأخيرة من عام 2017 نشاطاً مصرياً قوياً على أرض جنوب السودان، الأمر شغل العديد من أجهزة مخابرات الدول الفاعلة بالمنطقة، حيث حلّت أكثر من مرة وفود عسكرية مصرية رفيعة المستوى جنوب السودان منذ منتصف عام 2017، كما استضافت القاهرة اجتماعاً خلال الفترة من 13 حتى 16 تشرين الثاني 2017 للحركة الشعبية لتحرير السودان بشقيها الحكومي ومجموعة القادة السابقين، فتم التوقيع بمقر المخابرات العامة المصرية على وثيقة “إعلان القاهرة” لتوحيد الحركة الشعبية لتحرير السودان تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس الأوغندى يوري موسيفني.
في بداية شباط 2018 ودون أية مقدمات، صدر قرارٌ مفاجئ من واشنطن يفيد بحظر تصدير السلاح والخدمات الدفاعية لجنوب السودان بسبب الحرب الأهلية، ووضِع عددٌ من الشخصيات بجنوب السودان على القائمة السوداء، من بينها القائد السابق للجيش وعدد من المسؤلين السابقين والحاليين ورجل أعمال ووزير الإعلام. ادعت واشنطن أنهم ساعدوا في إشعال الصراع الذي أثار أكبر أزمة لاجئين في أفريقيا منذ الإبادة الجماعية في رواندا، الأمر الذي جعل الاحتجاجات تشتعل فى جوبا، فاستدعت سفيرها لدى الولايات المتحدة الأمريكية للتشاور.
بعدها بأيام قليلة؛ تقدمت دولة جنوب السودان بطلب الانضمام لجامعة الدول العربية، فردت واشنطن سريعاً بالتلميح بفرض عقوبات جديدة على جوبا، بالتزامن مع وصول وزير الخارجية المصري سامح شكري إليها في 12 آذار 2018 للقاء الرئيس سيلفا كير، والتوقيع على مذكرة لإنشاء آلية للتشاور السياسي بين البلدين، ومقابلة لجنة تسيير الحوار الوطني فقدمت مصر برنامجاً لدعم قدرات أعضاءها مؤخراً، ثم افتتح المركز الطبي بجوبا، وبعدها غادر وزير الخارجية المصري إلى العاصمة الكينية نيروبي لمقابلة الرئيس الكيني أوهورو ثم وزيرتي الخارجية والدفاع الكينيتين، فى واحدة من أهم زيارات سامح شكري الإفريقية على الإطلاق.
بالتزامن مع النشاط المصري المتزايد جنوب السودان، كان الحضور التركي يتمدد فى الشمال بالخرطوم، بعد الزيارة التي قام بها أردوغان في كانون الأول 2017، ومعهُ وفد عسكري وأمني كبير. نتج عن تلك الزيارة اتفاق بين الخرطوم وأنقرة بتنفيذ مشاريع “سياحية”! على جزيرة سواكن بالبحر الأحمر. في 10 آذار 2018 صرّح مدير وزارة الاستثمار والصناعة السوداني بولاية البحر الاحمر (شرق) أحمد محمد طاهر بتوصل بلاده لاتفاق مع الحكومة التركية لتنفيذ منتجع “الرقبة” السياحي 16 كلم شمالي بورتسودان.
لجزيرة سواكن السودانية أهمية خاصّة لدى العثمانييّن الجدد، تصريح أردوغان يوم السبت 19 كانون الثاني الماضي، أثناء أجتماع تعريفي بمرشحي الحزب الحاكم حزب العدالة والتنمية للانتخابات المحلية المقررة في 31 آذار المقبل. قال أردوغان:
“البدايات مهمة دائماً، لذلك قام المسؤولون الأتراك بزيارة منغوليا لحماية المسلات الأورخونية، التي تعد أبرز أقدم أثر مكتوب باللغة والأحرف التركية القديمة، ولهذا نتشبث بميراث الأجداد في كل مكان، بدءاً من آسيا الوسطى وأعماق أوروبا، إلى جزيرة سواكن في السودان، ولهذا أيضا نستميت في الدفاع عن قضية القدس”.
رئيس جنوب السودان سيلفا كير قام بزيارة للقاهرة، لم تُعلن أية تفاصيل عنها سوى تصريحات دبلوماسية رسمية تقال في مثل تلك المناسبات، ولكن برؤية بانورامية للصراع داخل وحول جنوب السودان، بالتزامن مع ما تمر به السودان من تظاهرات حاشدة دموية، قد تقضي لتغيير جذري لنظام الحكم بالخرطوم. هنا تتجلى لنا أهمية التحركات المصرية والتركية من جوبا إلى الخرطوم.
يتعرّضُ نظام الحكم في الخرطوم، الذي يتناغم أيدولوجياً مع تركيا، ويتقارب بشدة في الآونة الأخيرة مع القاهرة، إلى هزات عنيفة، فإلى أيّ جانب ستحسم النتيجة؟
شرعت الحكومة التركية بوضع يدها على جزيرة سواكن، بعد موافقة الرئيس السوداني عمر البشير على تسليم تركيا إدارة الجزيرة التاريخية لفترة لم يحددها! كما بدأ فريق من وكالة التعاون والتنسيق التركية في عملية ترميم الجزيرة السودانية، ضم 30 خبيراً في الدراسات الجيولوجية والجيوفيزيائية وتخطيط المدن والخرائط والإنشاء والترميم فى منتصف كانون الثاني 2018. لا يخفى على أحد رغبة أردوغان فى إقامة قاعدة عسكرية بالسودان على البحر الاحمر، كي تكون نقطة ترانزيت لما هو قادم من مسلحين من الجنوب، من قاعدتها العسكرية بالصومال كي يكتمل الطريق شمالاً متجهاً نحو مصر وجنوب ليبيا عبر دارفور كما هو جارٍ الان، كل ذلك بظل دعم قطري لكافة مشاريع أردوغان العسكرية بمنطقة القرن الافريقي، كما أنّ التواجد الإسرائيلي بجنوب السودان أمر واضحٌ وهو سبب متاعب كثيرة لدول منابع ومصب النيل على كافة الأصعدة.
ما نراهُ في مركز فيريل أنّ السودان بشماله وجنوبه، بالإضافة لدول منابع النيل وصولاً لمصر، ستكون ساحة حربٍ خفية تارة وعلنية تارةً أخرى. هو صراع بين مصر وتركيا مع أصابع أميركية إسرائيلية، وعلى البشير أن يُقرّرَ هل سينضمُ لحلف الإخوان المسلمين بشكل واضح، أم سيبقى يراوغ بين الوهابيين والإخوان! في الحالتين لن يعرف السودان الاستقرار، ومعه وادي النيل كاملاً. فادي عيد، باحث ومحلل سياسي بشئون الشرق الاوسط. إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات.