هيلاريون كابوتشي: مطران سوري وُلد في مدينة حلب الشهباء، 2 آذار 1922، وتوفي في إيطاليا 1 كانون الثاني 2017، أصبح مطراناً لكنيسة الروم الكاثوليك في القدس عام 1965. عُرف بمواقفه الوطنية المُشرّفة، قاوم الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، وعمل سراً على دعم المقاومة الفلسطينية بشكل عملي بشجاعة الأبطال… لروحك الرحمة أيها الكبير.
كتبَ المهندس باسل قس نصر الله مستشار مفتي سوريا
لا يزالُ صوتك يعيشُ في كياني، كل ذرةٍ فيه، وعندما أقرأ كلماتٍ لك، أتخيلك تقولها لي.
كنتُ أستمتعُ بحديثك الهاتفي في الصباح الباكر، عندما تتصل بي من روما، وتتابع معي بعض المسائل، فتنتابني الخيلاءُ كل ساعات اليوم بأنّ “سيدنا المطران كبوجي” يكلمني.
كنتُ أتذكر ذكرياتك – التي رويت بعضها لي – عن القدس، تلك الجوهرة التي يحاول الكثير من الناس أن ننساها.
كيف أنّ الإسرائيليين حاولوا منذ العام 1970 الضغط على البطريرك مكسيموس الخامس حكيم (بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك) لكي يرسلك الى أيّ مكان خارج فلسطين، ولكنه رفض.
كيف اعتقلوك مرتين، الأولى في 8 آب 1974 واستمرت 17 ساعة، والثانية في 18 آب 1974 واستمرت حتى 6 تشرين الثاني 1977، أي مدة ثلاث سنواتٍ وثلاثة أشهر وستة عشر يوماً. وكيف أنك كنتَ تنتظر اعتقالك الثاني فأتلفتَ كل الأوراق والمستندات، واقتادوك “مكبل اليدين بالأصفاد” إلى سجنك الأول “بيت شميش”، حيث قمتَ بالنوم بثيابك الكهنوتية على الأرض الرطبة، وكيف كان التحقيق معكَ بوحشية خلال أوقات مختلفة وحتى بعد منتصف الليل.
كيف أنكَ خلال محاكمتك، كنتَ تستخدم خطة إثارة أكبر قدر من الضجيج، لأن أخبار ذلك ستنتقل الى العالم وسيكون لها وقع إيجابي.
كم ضحكتَ كثيراً عندما ذكرتَ كيف كنتَ تستخدمُ في المحكمة عبارة: “إني أعزلُ محامي الدفاع”، فتتوقف جلسة المحاكمة لأنه لا يجوز أن تستمر من دون محامي دفاع، وكيف كنتَ تفتعل القصص لكي يتوقف مسار جلسة المحاكمة بهدف تسخيف المحكمة والضحك من سلطاتِ الاحتلال.
ألم تبلغ مجموع الأحكام عليك سيدنا المطران 59 سنة؟ ثم حُكم عليك بالعقوبة القصوى وهي 12 سنة.
كم كنتَ تتذكر كيف نقلوك إلى سجن للمجرمين فأهانوك وكنتَ ترفض خلع ثوبك الكهنوتي، وكيف نقلوك بعد ضغوطات كثيرة إلى سجن الرملة، حيث كان السجناءُ الفلسطينيين يشكلون معكَ عائلةً واحدة.
كيف لا، وسجائر الدخان من نوع LM كان يطلبها السجناء من أهاليهم ليعطوك إياها.
كيف لا، وعندما سرقَ السجّانون لباسك الكهنوتي والبسوك لباس السجناء، قام السجناء الفلسطينيون بخياطة ثوبٍ جديد لك وبسرية كاملة.
كيف لا، وهم الذين كانوا يهرّبون رسائلك التي كنتَ تكتبها على أي نوع من الورق، إلى خارج السجن فتنشرها الصحفُ، وعندما أجبتَ آمر السجن عن كيفية نقلها، قلتَ: “أنك كمسيحي مؤمن يأتيك الروح القدس فيأخذها إلى خارج السجن”. وكم ضحكنا طويلا عندما كنتَ تتذكر كيف جنَّ جنون آمر السجن.
ما كتبتُه هو قليل مما سمعته منك…
ومع ذلك هاجمك بعض رجال الدين المسيحي وخافوا منك لأنك كبير…
هل تذكر كيف كنا نذهب إلى سماحة الشيخ الدكتور أحمد حسون، وكان حينها مفتياً لحلب والذي ما انفك يقول أنك بمثابة عمّ له، فطلبتَ من أحد المطارنة أن يعيرك الثوبَ الأسقفي لأن ثوبك لم ينته من التنظيف … فرفض.
وكيف كان لك لقاء مع أحد المطارنة فتركنا لوحدنا وغاب عنا ربع ساعة، بحجة أنه يجري لقاء صحفي على الهاتف، فما كان منك إلا أن رفعت صوتك وقلتَ لي “باسل … خلينا نمشي، هاد ما بيحترم حدا”.
وبالمقابل أخبرتني عن رسالة الرئيس السوري الخالد حافظ الأسد لك، يدعوكَ فيها “إلى بيتك طالما أن سوريا هي وطنك”
سيدنا الحبيب الغالي …
أنت عظيم وسيرة حياتك ومواقفك وأبناء فلسطين وحلب نفتخر بك.
كم انتابتني الخيلاء وأنا أقرأ رسالتك الأبوية لي والتي وقّعتَ عليها بصفتك “مطران القدس في المنفى” وكم كنت أفتخر بأنني عرفتك.
سيدنا أنا أشعر بك معي وأكلمك وتوجهني.
سيدنا المطران كبوجي … إن العظماء لا يموتون…
الله اشهد أني بلغت.
المهندس باسل قس نصر الله مستشار مفتي سوريا. مركز فيريل للدراسات. 03.03.2018