أسقطت تركيا بتاريخ 24 تشرين الأول 2015، طائرة سوخوي 24 روسية… فساءت العلاقات بين الدولتين، وانصبت التوقعات و”التمنيات” أن يحدث تصادم عسكري بينهما، ولم يحدث. اعتذرت أنقرة على اسقاط الطائرة الحربية الروسية، وعادت العلاقات بصورة أفضل من السابق بين موسكو وأنقرة بعد لقاء بوتين بأردوغان.
توقّعات أخرى صدرت آنذاك عن ساسة هنا في برلين بأن ينحسر التدخل التركي الفاضح في سوريا، وتتراجع عن دعمها العلني للجماعات الإرهابية، لكن العكس حصل، فدخلت القوات التركية الأراضي السورية والعراقية أيضاً. احتلت أجزاء من سوريا وبدأت عملية التتريك الممنهج. تضاعفَ غرور أردوغان وتصريحاته العثمانية، فأفصح عن أطماعه بـ الموصل وحلب، وراح يُمعنُ في عدوانيته، فأظهر العداء للاتحاد الأوروبي وتجرأ على قول “لا” لواشنطن، على الأقل إعلامياً… حسب ما سمعهُ مركز فيريل للدراسات: “أرخوا الحبل لأردوغان عسى أن يدفعهُ طمعهُ وساديتهُ للصدام العسكري مع دمشق ثم مع موسكو”… هذا ما قيلَ لنا منذ 2016 ولم يحدث، فهل آن الأوان؟
عدة دول من الشرق الأوسط والعالم، غاصت في المستنقع السوري، جميعها من أجل مصالحها أولاً دون استثناء سواء كانت صديقة أم عدوة لسوريا.
سبقَ أن وُصِفَ أوباما بالجبان وكما أسمته الصحافة الألمانية Obama ist eine lahme Ente، أوباما بطةٌ عرجاء، تظاهر بضبط النفس تاركاً الحِمل على ظهر ترامب، ومتعجّلاً بتسليم الكرسي له أكثر من ترامب نفسهُ…
جاء ترامب السمسار، ولم يكن أشجع من أوباما سوى بفرض الأتاوة على الدول التي يُمارس عليها سلطة “قبضاي الحارة”، وحلبِ بقرات البترول. حتى عندما قرر الانسحاب من سوريا، تراجع تحت ضغط مستشاريه ومنافسيه. كما لم يكن حازماً في خلافه مع تركيا واكتفى بالتهديدات وبعض العقوبات كي تعود لحضنه.
دلال تركيا
أمام هذا “الدلال” تمادت تركيا أكثر، رغم كافة المصاعب والأزمات الداخلية والخلافات الخارجية… حزب العدالة والتنمية الإخواني الحاكم، ومعه “القوميون الأتراك”، راح يمدّ أذرعه في كافة نقاط النزاع من غرب الصين مروراً بالعراق وسوريا إلى ليبيا والسودان وتونس ليصل إلى فنزويلا. والمطلوب: “إعادة الخلافة العثمانية” بشكل أو بآخر، وهنا لا نُفرّقُ بمركز فيريل للدراسات بين الحزب الحاكم في تركيا أو الأحزاب المعارضة، فمن خلال معرفتنا المباشرة بهم هنا في ألمانيا؛ أهدافُ ومبادئ كافة الأحزاب التركية الأساسية واحدة وهي “التمدد والاحتلال“…
يلوم كثيرون روسيا على موقفها الضعيف من تركيا، مطالبين بوضع حدّ للسلطان المغرور.. بعضهم طالبها من وراء شاشات الموبايل بقصف الجيش التركي في سوريا، آخرون تحدثوا عن صفقات بين أنقرة وموسكو على حساب الأراضي السورية. كلام عاطفي لا ينفعُ في السياسة. فهل موقف واشنطن أشد حزماً من موسكو؟
تركيا بحاجة لروسيا، لكن العكس صحيح أيضاً، هي المصالح تحكم العلاقات شرط ألا تصلَ للمساس بالأمن القومي، وتركيا لم تمسّ الأمن القومي الروسي بعد، لهذا لا يتوقع العاطفيّون أن يُشهر بوتين سيفهُ ويقطع رأس السلطان.
سياسة روسيا هي التعامل بهدوء وروية لامتصاص فورة الخصم والبحث عن نقاط ضعفه، كما أنها، بحيادية، أضعفُ عسكرياً من الناتو في الشرق الأوسط، وقد سبق وتحدثنا عن ذلك. مواجهة تركيا عسكرياً تعني مواجهة الناتو وهذا ما تتجنبهُ موسكو. لو كانت المواجهة العسكرية فقط بين روسيا وتركيا، فالنتيجة محسومة خلال ساعات، ساعات وحسب.
أردوغان فقاعة صوتية
مع بداية الحرب على سوريا، وبتاريخ 5 أيلول 2012، أكد أردوغان أنه سيصلي قريباً في الجامع الأموي وسيزور قبر صلاح الدين الأيوبي بدمشق…
تشرين الثاني 2016، وفي كلمته أمام المؤتمر السنوي الأول لرابطة “برلمانيون لأجل القدس” في مدينة إستنبول، ولأنّهُ المُدافع الأشرس عن القدس، قال: “الهدف من دخول القوات التركية شمالي سوريا هو الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد.”. موسكو طلبتْ فوراً من أنقرة توضيح ما قالهُ، واصفة هذا الكلام، على لسان المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف؛ بأنه “خطير للغاية”.
أردوغان سيسحق الإرهابيين الأكراد… سيحرر القدس… أردوغان خليفة المسلمين…
ماذا نفّذَ منذ وصوله لكرسي الحكم حتى الآن من كافة تهديداته؟ هل حرّر القدس؟ هل صلى في الجامع الأموي، وهل أطاح بالرئيس السوري؟ هذه تصريحات يسوقها دائماً للسذج الذين يصدقونه دائماً…
لم تتجرأ تركيا في السابق على الانخراط في مواجهة عسكرية لوحدها في سوريا دون مساعدة الناتو المباشرة، ولن يُساعدها لأنّ الناتو أيضاً يتجنّب مواجة روسيا.
تحرير حلب كان أول مسمار في نعش أحلام أردوغان التوسعية. لم ييأس، عاد وجدد ذلك بتوسيع سيطرته في إدلب وريف حلب الغربي، والآن “المنطقة الآمنة” شمال سوريا…
بالطبع أردوغان هو الواجهة، هناك دولٌ كبيرة الولايات المتحدة وبريطانيا وبريطانيا وفرنسا وحتى ألمانيا تريد بقاءهُ واستمرار سياسته، فهو سليلُ الإخوان المسلمين، بالإضافة لوجود مئات الآلاف ممن باعوا وطنهم من أجل أحلامٍ باقتطاع أجزاء من سوريا، هناك مسؤولون وأثرياء يحنّون للاحتلال العثماني ويتبوأون مناصبَ هامة، لهذا لم ولن ييأس إلا بمواجهة حاسمة، فهل ستأتي؟.
تحرير شمال حماة وأجزاء من جنوب ريف إدلب، أزعج تركيا لكنها أجبرت على الرضوخ واكتفت بالتنديد والوعيد كالعادة. المضي في عملية التحرير سيضعه في موقف أصعب، فإما أن يظهر كـ “فقاعة صوتية” كالعادة، ويخسر ما جاء لأجله، أو يواجه الجيش السوري بتدخل عسكري لجرّ الناتو إلى هذه الحرب، وهنا سيكون الصدام مع موسكو. وهذا ما يريدهُ الناتو ومعهُ الاتحاد الأوروبي.
المطلوبُ من أردوغان وجيشهِ أن يقوم بضربة ولو شكلية للجيش السوري تُعيدُ لهُ جزءاً من كرامتهِ التي هدرها الطيران السوري والروسي بقصفه قربَ الرتل التركي جنوب معرة النعمان. ضربة عسكرية ما ثم ينتظرُ ردة فعل دمشق ومن ورائها موسكو. موسكو لن ترد بشكل مباشر إلا إذا هاجم جنودها، وهذا أمرٌ مستبعد، عندها قد يحدثُ الصدام بين روسيا وتركيا؟
لا نتوقعُ أن يُحقّقَ أردوغان ما يُريدهُ الغرب منهُ، فهو أضعفُ من أية مواجهة عسكرية ستطيحُ به.
القادم على المنطقة حسب رأي مركز فيريل للدراسات
تتمحور التحليلات منذ سنوات حول وجود صفقة بين تركيا وروسيا، وصفقة بين الولايات المتحدة وروسيا، صفقات وصفقات وكله على حساب سوريا. هل ما يحدث الآن يدل على وجود صفقة؟ ماذا حصل في الصفقات الماضية المزعومة التي تحدّث عنها نفس المحللين، بالإبقاء على غوطة دمشق ثم ريف حماة الشمالي تحت سيطرة تركيا؟
مانراهُ هو وجود تفاهمات “مؤقتة” تتغيّر بتغيّر المعطيات على الأرض، بينما الصفقة ثابتة لا تتغير. من مصلحة روسيا أن تعود كافة الأراضي السورية تحت سيطرة الدولة السورية ويخرج كل جندي أجنبي ومسلح منها، كي تتفرّغ لمشاريعها، أي هي تعملُ لمصلحتها التي تقتضي عدم الشراكة مع دولة أخرى…
أن تبقى نقطة مورك ومعها نقاط مراقبة تركية مستحدثة، للإشراف على الطريق الدولية حلب ـ دمشق، كلامٌ وتوقع ليس أكثر، والذي يؤكد ذلك ربما كان يحضر اجتماعات بوتين بأردوغان! فليخبرنا بالمزيد…
ما نشرناهُ قبل أيام على صفحتنا على الفيس بوك أنّ اتفاقات سوتشي باتت من الماضي، والوضع الآن يقتضي اتفاقاتٍ جديدة ونُصرّ أنها “مؤقتة”. فهل سنرى اتفاق سوتشي جديد؟
قصفُ الطيران الروسي المستمر لمناطق محيطة بمدينة معرة النعمان بشكل عنيف، ومنها قرية “حيش” قرب الرتل التركي، هل هذه صفقات؟ نعم هناك اتصالات بين موسكو وأنقرة لاحتواء الوضع، لكن لا اتفاق حتى ساعة كتابة هذه المقالة في مركز فيريل للدراسات، تركيا تريدُ الاحتفاظ بنقاط المراقبة وزيادتها، بل تطالبُ بانسحاب الجيش السوري كي تتولى الإشراف لوحدها على الطريق الدولية. روسيا ترفضُ ذلك… لكن الجواب النهائي لدى دمشق مهما حاول “المحللون” تهميش دور دمشق…
ما يقوم به الجيش التركي الآن هو تزويد الإرهابيين بأسلحة حديثة، لوقف زحف الجيش السوري، ولن يُحاربَ عنهم.
لماذا لم يدخل الجيش السوري خان شيخون، هناك صفقة!! مورك، اللطامنة… هناك صفقة. هذه أمور عسكرية يعود تقديرها للقادة العسكريين على الأرض، إنها معركة شرسة فيها دماء وفقدان أرواح، وليست لعبة مراهقين على الإنترنت… دمشق ومعها موسكو تريدان تحرير إدلب كاملة، وخروج تركيا نهائياً، لهذا لن يكون مفاجئاً فتح جبهة أخرى بطريقة جبهة خان شيخون، والإطباق على مناطق أخرى في عمق محافظة إدلب.
الوقت مناسبٌ ووضع أردوغان سيء و “خطير” بعد القطيعة التامة مع رفاقه الثلاثة الكبار: عبد الله غول، أحمد داوود أوغلو، وعلى بابا جان. شعبية حزبه في الحضيض، الوضع الاقتصادي متدهور، وأردوغان بحاجة لنصر خارجي لإشغال الداخل وتوحيده بعد هزائمه المتتالية، لهذا قد يتصرفُ بحماقة مع اهتزاز كرسيّ حكمه، اهتزازٌ قد يطيح به. الأمور تسيرُ لصالح سوريا حالياً، فاتركوا الشؤون العسكرية لأهلها، وانزعوا فكرة الصفقات، إنها سياسة الممكن في حرب لو كانت تركيا وحيدة فيها، لانتهت قبلَ بدئها… الدكتور جميل م. شاهين. مركز فيريل للدراسات. 22.08.2019.