في الـ25 من آذار 2019 وقّع الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” مرسوماً يعترف بسيادة الاحتلال الاسرائيلي على هضبة الجولان التي احتلتها من سوريا عام 1967. جاء التوقيع في بداية اجتماع مع رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” في البيت الأبيض. ولم يكتفِ “ترامب” بهذا بل أكد أن أيّ اتفاق للسلام في الشرق الأوسط يجب أن يتضمن حق كيان الاحتلال في الدفاع عن نفسه، قائلاً “الولايات المتحدة تعترف بالحق المطلق لـ “اسرائيل بالدفاع عن نفسها”.
أثارت تلك الخطوة عدداً من التساؤلات بشأن توقيتها في ظل عدم وجود مستجدات طارئة تدعو إليها، حيث لم يتعرض العدو الإسرائيل لضغوط لإنهاء احتلالها للجولان، إلا إنها لم تكن أمراً مفاجئا في ظل سياسة الدعم الثابت التي يتبعها “ترامب” تجاه إسرائيل منذ وصوله إلى الحكم. فقد سبق أن أعلن العام الماضي انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، واعترف بالقدس كعاصمة لكيان الاحتلال، وقام بنقل السفارة الأمريكية إليها، كما أغلق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وأخيراً وليس آخرا إغلاق مكاتب الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في الضفة الغربية وقطاع غزة العام الجاري 2019.
وعلى هذا النحو، من المتوقع ألا تكون خطوة الاعتراف بسيادة الإسرائيلية العدو على الجولان الخطوة الأخيرة في مسار السياسة الترامبية لدعم الاحتلال. ما يطرح تساؤلاً هاما بشأن الخطوات المقبلة التي قد يقدم عليها “ترامب”؟
كيان الاحتلال الاسرائيلي والجولان
احتل العدو الإسرائيلي جزء كبير من الجولان من سوريا خلال حرب 1967، إلى جانب قطاع غزة وسيناء والقدس الشرقية والضفة الغربية، ورد مجلس الأمن بتمرير ما يسمى بقرار “الأرض مقابل السلام” ، أو القرار 242، الذي نص على قيام كيان الاحتلال بتبادل الأراضي المحتلة من أجل السلام والاعتراف من الدول العربية المجاورة. وافق جميع أعضاء مجلس الأمن على القرار ، بما في ذلك الولايات المتحدة.
بنهاية الحرب، تم الاختلاف، إذ رفضت الدول العربية التفاوض قبل انسحاب العدو من الأراضي المحتلة، بينما رفض الاحتلال الانسحاب حتى تفاوض الدول العربية على اتفاق سلام. نتيجة لذلك، واصلت سلطات العدو احتلالها للمناطق الخمس وبناء المستوطنات عليها بعد فترة وجيزة من انتهاء الحرب.
بعد الانتصار بحرب تشرين الأول 1973 توسطت الولايات المتحدة في المحادثات بين كيان الاحتلال ومصر وسوريا، أعادت اتفاقات كامب ديفيد رسمياً شبه جزيرة سيناء إلى مصر مقابل السلام، وفقاً للقرار 242. لكن المناطق الأربعة المتبقية ، بما فيها مرتفعات الجولان، بقيت تحت الاحتلال.
في عام 1981 أعلنت حكومة العدو الإسرائيلي أنها ستضم القدس الشرقية ومرتفعات الجولان، وتمدد حدودها بشكل دائم لتشمل المنطقتين. رداً على ذلك ، أصدر مجلس الأمن القرار 497 الذي أدان ضم الأراضي السورية، وأعلن أنها تشكل انتهاكاً للقانون الدولي .
منذ ذلك الحين أجريت بعض المفاوضات التي لم تؤتِ ثمارها بين الطرفيين وواصلت سوريا مطالباتها باستعادة الجولان كاملة، لكن الاحتلال لا يبالي بهذه المطالبات، حيث استمر في إدارة المنطقة كجزء منه، ووسّع من نشاطه الاستيطاني في الجولان فأوجد نحو 30 مستوطنة، يعيش بها نحو 20 ألف مستوطن من بين 50 ألفاً من سكان الجولان السوريين وفقا للأمم المتحدة.
في هذا السياق جاء قرار “ترامب” بالاعتراف بسيادة الاحتلال على الجولان السورية ليمنح العدو الاسرائيلي فرصة أخرى للتوغل بالمنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية. فعلى الرغم من أن مساحة الجولان تبلغ نحو 1860 كليو متر مربع فقط، إلا أنها تتمتع باستراتيجية استثنائية لمن يسيطر عليها، إذ تسمح جغرافيتها وقممها المرتفعة بالإشراف على العاصمة دمشق شرقاً، وعلى سائر المدن وسط وغرب فلسطين المحتلة وكانت المدفعية السورية تدك منها مواقع قوات الاحتلال شمال فلسطين بين عامي 1948 و1967. وتطل الجولان على مناطق في الأردن ولبنان، ومن يسيطر عسكرياً عليها يُمكنه أن يطال أي مكان حتى بأبسط الأسلحة التقليدية. كما تضم حوض نهر الأردن وبحيرة طبريا ونهر اليرموك ومستودعات المياه الجوفية. وتستخرج سلطات الاحتلال الإسرائيلي منها نحو ثلث مياهها ما يجعل السيطرة عليها لا يُقدر بثمن. هذا بالإضافة لما ذكره مركز فيريل للدراسات من احتياطي الجولان الكبير من البترول والغاز.
الاعتراف بسيادة الاحتلال… مؤشرات ودوافع
لم يكن القرار الأمريكي بالأمر المفاجئ إذ سبق أن أشار إليه “ترامب” قبل أربعة أيام من توقيعه بيان الاعتراف الرسمي بسيادة العدو، وذلك في تغريدة على موقع “توتير” حيث كتب “بعد 52 عاماً حان الوقت لاعتراف الولايات المتحدة الكامل بسيادة “إسرائيل” على هضبة الجولان التي لها أهمية استراتيجية وأمنية حيوية لدولة إسرائيل والاستقرار الإقليمي”.
كما كانت هناك دلائل تشير إلى أن الإدارة الأمريكية تتحرك في هذا الاتجاه، من بينها التقرير السنوي العالمي لحقوق الإنسان لعام 2018 الذي أصدرته الخارجية الأميركية مارس الجاري والذي أسقط صفة الاحتلال عن مرتفعات الجولان مستخدما عبارة “الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية” بدلاً من “التي تحتلها إسرائيل” لوصف مناطق مرتفعات الجولان والضفة الغربية وغزة. تصويت الإدارة ضد قرار الأمم المتحدة الرمزي الذي يدين سنوياً وجود الاحتلال في مرتفعات الجولان، وهي المرة الأولى التي تقوم فيها الولايات المتحدة بذلك.
تم تبرير قرار نقل السفارة إلى القدس قبل ذلك، عبر عدد من التصريحات الرسمية، إذ أكد مسؤولو الإدارة الأمريكية أن قرار الجولان هو مجرد حقيقة معترف بها، وأشار “جاسون جرينبلات” مبعوث “ترامب” لشؤون الشرق الأوسط: “تحت أي ظرف يمكن تصوره، لا يمكن لإسرائيل أن تتخلى عن الجولان، فالقيام بذلك من شأنه أن يعرّض وجودها ذاته للخطر. وما فعله الرئيس ترامب اليوم هو الاعتراف بهذا”.
رغم هذه التبريرات الرسمية، إلا أن توقيت القرار الذي يأتي كامتداد للسياسة الأميركية في عهد “ترامب”، التي تتبنى بالكامل مواقف حكومة “نتنياهو” اليمينية، يشير إلى أن الأهداف وراءه لا تنحصر في الاعتراف بالأمر الواقع. فالقرار يأتي في وقت يسعى فيه “نتنياهو” لإعادة انتخابه لولاية خامسة في انتخابات الغد. حيث يواجه منافسة شرسة من جانب رئيس الأركان السابق “بيني جانتز”، فضلاً عن سلسلة من المزاعم بشأن الاحتيال والرشوة.
يمنحُ الاعتراف الأمريكي نتنياهو مزيداً من الأدلة التي يؤكد بها على أنه مدعوم من الإدارة الأمريكية وعلى علاقة وثيقة بها يستطيع من خلالها الحفاظ على سلامة كيان الاحتلال، ويكسبه نقاطاً سياسية كونه أخذ علاقات الكيان الخارجية إلى مستويات غير مسبوقة.
على غرار الطريقة التي اتبعها “ترامب” في اعترافه بالقدس، يهدف الاعتراف إلى تعزيز فرصة “ترامب” نفسه في إعادة انتخابه عام 2020، من خلال استهداف المجموعة الواسعة من المسيحيين الإنجيليين الأمريكيين والذين صوت الكثير منهم لصالحه عام 2016.
ربما هذا ما بدأ يؤتي ثماره، فالمجموعة الليبرالية الأمريكية من أجل السلام الآن والتي تعارض تحول سياسة ترامب الخارجية، أيدت بالفعل تلك الخطوة مؤكدة أن لإسرائيل أسباب مشروعة للحفاظ على سيطرتها على مرتفعات الجولان في الوقت الحالي في ظل حالة الفوضى بسوريا واكتساب إيران موطئ قدم بها.
ماذا بعد الجولان؟
تشير القرارات الأمريكية المتتالية وفي مقدمتها نقل السفارة الأمريكية للقدس، والقرار الحالي بشأن الجولان، إلى أنّ الأمر لن يقف عند هذا الحد، وسيمتد إلى ما هو أبعد؛ إلى المناطق التي تقع تحت السيطرة الاحتلال أي الضفة الغربية.
من المحتمل أن تكون الخطوة القادمة هي الاعتراف بسيادة الاحتلال عليها وخاصة المنطقة “ج” منها. فالضفة الغربية وفق اتفاقات أوسلو (1993-1995) تنقسم إلى 3 مناطق وهي: المنطقة “أ” تمثل 18% من مساحتها، وتسيطر عليها السلطة الفلسطينية أمنيا وإدارياً.
المنطقة “ب” وتمثل 21 % من مساحة الضفة وتخضع لإدارة مدنية فلسطينية وأمنية للاحتلال.
أخيراً المنطقة “ج” والتي تمثل 61% من مساحة الضفة تخضع لسيطرة الاحتلال أمنيا وإدارياً، وتبقى هذه المنطقة “ج” هي الأكثر احتمالاً لاحتوائها على المستوطنات الكبرى، فضلاً عن مصادر المياه والأراضي الخصبة.
اعتراف “ترامب” بالجولان يمهد الطريق لليمين الصهيوني للضغط من أجل ضم الضفة والاعتراف بالسيادة عليها. وقد أدرك اليمين قبل غيره، هذا الأمر، ورأى القرار الأمريكي كـ”خطوة أولى وحاسمة على طريق الاعتراف بضم الضفة الغربية”، وبالفعل أشار لهذا رئيس الكنسيت اليميني “يولي أدلشتاين” تعقيباً على تغريدة “ترامب” المتعلقة بالجولان.
“أدلشتاين”، هو أحد الذين يؤمنون ب “إسرائيل الكبرى”، ولا يرون حقاً لغير اليهود في تقرير المصير فوق فلسطين. صحيح أن خطابه وغيره من اليمينيّين المتطرفين، لم يكن يجد رواجاً في واشنطن، لكن مع مجئ إدارة “ترامب” مُدعّمة بتلك الأصوات اليمينية المتطرفة، صار بالإمكان إتمام التعاون بين اليمين الصهيوني واليمين الشعبوي الأمريكي المتطرفَين.
أما عن ثمار هذا التعاون فكانت القدس والأونروا واللاجئين من قبل، واليوم الجولان، وغداً الضفة الغربية. فالقرار الامريكي أحيا الآمال بإمكانية ضم الاحتلال للضفة الغربية. فبعد ساعات منه كتب عضو الكنيست من حزب “البيت اليهودي” اليميني “بتسلئيل سموتريتش” في تغريدة على “تويتر” للرئيس الأمريكي: “منذ 52 عاما، ازدهرنا في يهودا والسامرة، وهي أيضا ذات أهمية استراتيجية وتاريخية وأمنية، لقد حان الوقت لنعترف بسيادتنا. سنعمل على التقدّم بهذا الأمر قريباً، ونأمل دعمكم أيضاً”. “يهودا والسامرة” هو الاسم التوراتي الذي يستخدمه المتشددون الإسرائيليون للضفة الغربية.
لم تكن هذه المحاولة الاولى؛ فقد سبق لـ” سموتريتش” وأحزاب يمينية في مقدمتها حزب “الليكود” اليميني الذي يتزعمه “نتنياهو” أن دعت لضم المنطقة (ج) من الضفة. كما طالب “نتنياهو”، أركان حزبه وأحزاب الائتلاف بالتريث، انتظاراً للَّحظة المواتية لتشريع ما تسمى قوانين ضم الضفة الغربية وفرض السيادة عليها. حيث أشار إلى أن الفرصة المناسبة، تأتي بعد أن يرفض الفلسطينيون صفقة “ترامب” للتسوية.
ولعل ما يزيد من خطورة تلك المطالبات ما سبق أن أشار إليه مستشار ترامب والسفير الحالي لدى الكيان “ديفيد فريدمان” عام 2016 من أن “ترامب سيعترف بسيادة إسرائيل على الضفة الغربية بأكملها إذا رأت إسرائيل أن ذلك ضروري”.
هذا إلى جانب سياسات الاحتلال بالضفة والسعي لتغيير المكون السكاني بها، عبر هدم المنازل الفلسطينية وتوسيع الاستيطان. فطبقا لتقرير وكالة “أسوشييتد برس”: النشاط الاستيطاني ازداد بشكل كبير بعهد “ترامب” بعدما تراجع في عهد الرئيس السابق “باراك أوباما”. حيث أظهرت بيانات لحركة “السلام الآن” حدوث انخفاض في حركة البناء الاستيطاني من حوالي 3066 وحدة سكنية العام 2016 إلى 1643 وحدة العام 2017 نتيجة تراجع مشاريع الاستيطان في العامين الأخيرين من فترة “أوباما”، وما لبث أن قفز هذا العدد بنحو 2.5 ضعف إلى 6712 وحدة في الأشهر التسعة الأولى من العام 2018 مقارنة مع العام 2016.
أخيراً
يمكن القول أنه في ظل هذه الخطط المحكمة من اليمين وحكومة الاحتلال والدعم المطلق من “ترامب”، لن ينحصر الأمر عند الجولان أو الضفة الغربية ويمكن أن يمتد إلى الجنوب اللبناني. وهذا ما أشار إليه الكاتب “روبرت فيسك” حيث قال “إذ كانت الولايات المتحدة منحت اليوم دعمها الكامل والعلني للاحتلال الاسرائيلي وإذا أصبح الجولان جزءاً منها بسبب تهديد إيران، فإن جنوب لبنان تحت سيطرة حزب الله يشكل أيضا تهديدا لللاحتلال، وعليه ستمتد المطامع الصهيونية إليه ليكون جزءا منها”. وهكذا فحتى لو قرر “ترامب” الاعتراف بالضفة الغربية على أنها “إسرائيلية”، فمن غير المرجح أن يتوقف اليمينيون المتطرفون في سلطات الاحتلال عن النظر إلى طموحاتهم به. كما أن الأمر لن يتوقف عند هذه الطموحات فقط، فربما يؤثر على مسار القضية الفلسطينية، ولعل ما يدعم هذا تصريح وزير الخارجية الأميركي “مايك بومبيو” في الـ27 من مارس الجاري بأن “خطة السلام للشرق الأوسط التي تعتزم الولايات المتحدة طرحها ستتخلى عن المعايير القديمة التي تتعلق بقضايا مثل القدس والمستوطنات، وتأكيده فشل المقاربة القديمة”. سيريا-إن شبكة ارام بريس الاخبارية. مركز فيريل للدراسات. 08.03.2019.
وتستمرُ صفقة القرن خطوة بخطوة.