أوراق نعوات المسيحيين. المهندس باسل قس نصر الله مستشار مفتي سوريا

كتبَ المهندس باسل قِس نصر الله، مستشار مفتي سوريا لمركز فيريل للدراسات 

عدد القراءات  7622، لا أعرف متى بدأ اهتمامي بقراءة أوراق النعوات المختصة بالموتى المسيحيين في حلب، ولكنني أتذكر حينها أنني كنت أحاول أن أقف على رؤوس أصابع قدميَّ كي أرتفع قليلاً وأستطيع القراءة بشكل أفضل.

كان من العادة، ولا زالت، أن يقوموا بكتابة أسماء زوجة الفقيد (وقد اقتنعت حينها أن كافة المتوفين هم من الرجال فقط)! وأبناء الفقيد إلى آخره، من أقرباء الفقيد، وإذا كان أحد هؤلاء المذكورين في هذه النعوة يقطن خارج حلب، فكانوا يكتبون جانب اسمه: دمشق أو حمص أو اللاذقية أو غيرها من المدن. أما في حال كان مقيماً خارج سوريا، فيكتبون اسم الدولة وكانت فنزويلا تتصدر قائمة الأسماء، ثم تليها أميركا وغيرها.

كنت أنبهر من وجود شخص للفقيد خارج البلاد وأعتبر ذلك ميزة ما بعدها ميزة، وأسرحُ بخيالي الطفولي إلى تلك الدول، وطبعاً أنبهر من ذلك، لأنّ القليل من النعوات كانت فيها تلك الميزة، أي وجود أقرباء خارج البلاد.

 

اليوم وبعد خمسين عاماً، ما زلتُ شغوفاً بقراءة أوراق النعوات تلك، لكنني لا أحتاج للوقوف على رؤوس الأقدام.

الذي لاحظتُهُ خلال السنوات الماضية هو تغيرٌ جوهريٌّ في تلك النعوات. بدأت أقرأ للفقيد الكثير من الأقرباء خارج سوريا، بل أصبحَ للفقيد أبناء خارج سوريا، إلى أن قرأتُ ورقة نعوة أحزنتني جداً…

كافة أبناء الفقيد يعيشون خارجَ سوريا!!

خلال السنوات السبع من الأزمة السورية، غادر الكثير من الأبناء سوريا الى دول المهجر. أسبابهم تتعدد بين الخوف وفقدان الأمن وعدم وجود العمل وغيرها الكثير، وأنا واحد من أولئك الأشخاص الذين غادرهم أبناؤهم وتركوهم…

أجلسُ على مكتبي لأكتبَ لكم مقالتي هذه، وأمامي قصاصة من الورق مكتوبة بخط ابنتي “مي”؛ التي زارتنا أياماً وعادت… كُتِبَ في القصاصة: ” بابي رتّب” أي “أبي قم بترتيب طاولتك”، لأنها تتهمني بأنني فوضوي ومكتبي تتبعثر فيه الأوراق والكتب.

أجل فأنا فوضوي حتى بعواطفي وعندما أرفع رأسي قليلاً أجدُ هذه القصاصة الملصوقة على رفوف المكتب الصغيرة فأقرأها: “بابي رتّب”… أبتسم بغصّة وحرقة…

لن أرتبَ فوضوية حياتي، وقد لامست فوضوية هذه الأزمة…

لن أرتب فوضى حياتي. ولن أفكر بالمستقبل.

ليأخذ البعض ممن يقومون بالشحادة علينا، المالَ الذين يريدون، وليتباكوا على هجرة المسيحيين، وهم يعلمون أنهُ حوالي 40 % من الشارع المسيحي السوري، قد رحل دون عودة…

هم يعلمون أن مشاريعهم في وقت الأزمة، للأمانة، كانت مفيدة، ولكنها لم تمنع الكثير من الهجرة المستمرة حتى الآن، وأنا مسؤول عن كلامي.

كلنا لنا أولاد وأحفاد وأخوة وأخوات وأقارب ومعارف خارج سوريا، ونراهم فقط على شاشات أجهزتنا الخليوية. كلنا لنا مشاكلنا وهمومنا وهي متشابهة في الغربة، وكل يوم نسمع عن فلان أو فلان قد هاجر.

اعذريني يا ابنتي إن لم أنفذ طلبك؛ لن أرتب مكتبي، سأجعل من الفوضى التي تعيث بمكتبي نموذجاً عن الفوضى التي نعيشها في سوريا…

لا أعرف إن كانت ورقة نعوتي سيُذكرُ فيها شخصٌ مازال مقيماً في سوريا…

لكنني سأبقى لأكون:

ناطوراً لمنازلكم…

كتابَ تاريخ عن شوارعكم وحاراتكم…

شاهداً على همجية هجرتنا…

وسأطلبُ أن يتم لصق قصاصتك الورقية “بابي رتّب” على هذه النعوات وحينها فقط، سأقوم بتنفيذها.

اللهم اشهد أني بلغت. ” المهندس باسل قس نصر الله مستشار مفتي سوريا. إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات.