لاحقا لما نشرت وعلى ضوء ما جرى من إسقاط للطائرة التركية الحربية بتاريخ 22 حزيران 2012، أناقش اليوم احتمالات اندلاع مواجهة مسلحة بين سوريا وتركيا، تكون بوابة دخول نزاع مسلح إقليمي على الأقل.
ساذج مَن يُصدق أنّ طائرة تركية حربية مقاتلة أو حتى زراعية، يعتمد فيها الطيار على الرؤية المباشرة فقط، دون الاستعانة بأيّ جهاز لتحديد وجهة الطائرة، وبالتالي يمكن أن تُخطئ تلك الطائرة مسارها وتدخل الأجواء السورية، خاصة وأن تضاريس المنطقة شديدة الوضوح، والطقس كان صحواً، هذا على فرض أن رادارات الطائرة تعطلت، وأن الطيارين أصيبا بالعمى الجغرافي. العملية مقصودة، وبرأيي أراد حلف الناتو تجريب قدرة الرادار السوري على كشف الطيران المعادي. هذا على فرض أن جهاز الإشارة في الطائرة ليس هو جهاز الميغ 21 التي فرّ بها الطيار السوري إلى الأردن! الناتو استخدم الأتراك كمطية لجس نبض السوريين، ومعرفة رد فعلهم، هذا إن لم يكن في العملية هدف أكبر وأخطر، وأنّ طائرة واحدة فقط هي التي دخلت الأجواء السورية ولم يكن وراءها سرب من الطائرات ينتظر.
تضارب تصريحات الساسة الأتراك وارتباكهم، ابتداء بقائد الأركان الذي قال: (طائرتان حربيتان، كانتا في مهمة قتالية). ثم اختفت تصريحاته من وسائل الإعلام! وانتهاءً بوزير الخارجية أوغلو الذي قال: (طائرة واحدة تدريبية). كل هذا يعكس غموض الهدف، ومحاولة السياسيين الأتراك استغلال الحادث تبعاً لتوجيهات داخلية وخارجية تأتيهم تباعا، وقد لاحظنا ارتفاع وتيرة التهديدات بعد إجراء محادثات بين ساسة أنقرة وحلف الناتو، بينما القادة العسكريون لزموا الصمت وهم المعنيون بهكذا حادث.
إلى أي مدى يمكن أن تمضي حكومة أردوغان في استغلال الحادث؟
كل شيء وارد، بدءا من تصريحات نارية لرد ماء الوجه ومسح الإهانة التي نزلت بهم، ومرورا بتحرشات عسكرية محدودة كإسقاط طائرة مروحية سورية مثلاً، أو قصف موقع ما على أساس أنها لحزب العمال الكردي داخل الأراضي السورية. انتهاءً بحرب شاملة تحصد الأخضر واليابس، وهذا احتمالٌ نراهُ في مركز فيريل ضعيفاً. ماجرى من نشر للجيش التركي على الحدود السورية إلا بداية التحضير لما هو آتٍ. الأمر الآن يحتاج لتأكيدين: مَن سيدفع فاتورة الحرب؟ وهل سيشارك الناتو تركيا في مخططها؟
ـ فاتورة الحرب ضد سوريا، تتكفل بها السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة دون شك.
ـ الناتو؛ وهنا المشكلة القانونية، على فرض أنه للحروب قانون. لابد من تحقق شروط المادة الخامسة من ميثاق الناتو /تركيا عضو هام فيه/ تنص على الدفاع عن أي بلد يتعرض لهجوم.
لم يتحقق هذا الشرط كون الطائرة دخلت أجواء سوريا، إذاً على تركيا انتظار خطأ سوري في المستقبل واستغلاله، ولعل تحذير الناتو وإدانته لرد الفعل السوري، هو الخطوة الأولى لتبرير أية خطوة مستقبلية يقوم بها الحلف منفرداً دون العودة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن، للحفاظ على العضو التركي.
معظم أعداء سوريا يريدون أن تكون تركيا رأس الحربة في أية مواجهة مسلحة مع دمشق، وهي المرشح الوحيد لذلك من بين جيران سوريا الخمسة. ومثلها مثل الثور الذي دفعته الضباع لدخول عرين الأسود، فإن خرج سالماً، أضفوا عليه صفة المفترس رغم أنهُ ثورٌ!
الأتراك ليسوا لقمة سائغة، لديهم جيشٌ قوي، لكنهم لن يتدخلوا بشكل واسع ومباشر في سوريا لتجنّب الوقوع في كماشة رباعية الرؤوس، لهذا أرى أنهم سيدفعون بمَنْ ينوب عنهم من الغوغاء مغسولي الأدمغة إن وُجِدت
الجيش التركي هو السادس عالميا، مدعوم أمريكياً بغير حدود، بما في ذلك القواعد الأمريكية في تركيا والأسطول السادس في المتوسط، هذا إذا ترك حلف الأطلسي تركيا تحارب لوحدها
يدرك قادة الجيش التركي أنّ دخول مثل هذه المغامرات سيكلفهم الكثير، والانتصار لن يكون مضموناً، ليس بسبب قدرة الجيش السوري وهو الأضعف، لكن لاحتمال توسّع الحرب وانعتاقها من محلية إلى إقليمية ثم عالمية، لهذا يلزمون الصمت. أما الساسة فهم على درجة من الجهالة العسكرية، بحيث ينجرون وراء جهلهم وتعليمات ناصلة اللون ودولارات الخليج. الذي سيحسم الحل هنا: المنتصر بين السياسيين والعسكريين الأتراك.
أردوغان اليوم وغداً وبعد عشر سنوات، يريد أن يُسجّل اسمه في تاريخ تركيا قبل أن يُقعده السرطان، كما يُشاع دون دليل طبّي، عن مواصلة مسيرته، لهذا هو مستعجل في خلق انتصار تركي محدود تجعله بروباغاندا وسائل الإعلام، كانتصارات المجرم فاتح سلطان محمد خان ثاني، الذي غزا أوروبا ودمر حضارتها.
الدولة المرشحة لمشاركة تركيا هي بريطانيا طبعاً. المقاتلات البريطانية وضعت على أهبة الاستعداد منذ أسبوع، تحسباً لشن هجوم على سوريا، أي أن أية ضربة انتقامية تركية يمكن أن تعني زج بريطانيا بمقاتلاتها لدعم حليفتها في الناتو، لهذا قد تكون انكلترا أول الداخلين في معمعة حرب إقليمية، إن حصلت.
سوريا باسقاطها الطائرة أرسلت عدة تحذيرات لمن يهمه الأمر، ومخطئ مَن يعتقد أن قرار التصدي جاء وليد اللحظة. تحذيرات وصلت إلى دول الخليج وحلف الناتو وإلى المسلحين في الداخل، بالإضافة للدولة المعنية مباشرة وهي تركيا. لكن الذين وصلتهم الرسائل التحذيرية ماضون في خط سيرهم، وسوف يحاول حكام الخليج ضرب سوريا بيد تركية وداخلية:
المال عربي والسلاح أطلسي، والصرعى أتراك
الغرب يريد اسقاط الدولة السورية بأقل التكاليف، لكن التوقيت الحالي سيء للقيام بأي هجوم، السوريون يدركون ذلك، وقد يجرّون الغرب لحرب محدودة لفرض شروطهم في التسوية، خاصة وأنّ الواقع الميداني يؤكد قيام الجيش السوري بسحق إرهابيين أجانب، ونُكرر هنا، إرهابيّون أجانب، من دول عربية “شقيقة” وأخرى آسيوية وحتى أوروبية. مَنْ يظنّ أننا نتخيّل، سيأتي يوم وننشر حقائق نجمعها حالياً.
ما يعمل عليه الغرب والخليج حاليا هو الحفاظ على اضطراب الأوضاع في سوريا، بانتظار نهاية العام. بعدها يعتقدون أنّ الاقتصاد السوري سينهار والجيش السوري سيتفكّك، حسب توقعاتهم، وستأتي الضربة مزدوجة: إيران وسوريا معاً وبمشاركة واسعة من 35 دولة… هكذا يُخططون وعلى أصحاب المعالي الانتباه…
السيناريو السوري هو مزيج من السيناريو الصربي والعراقي، وانهيار مبادرة كوفي عنان سيكون أول رصاصة في هذه الحرب الإقليمية.
روسيا لن تشارك في الحرب علناً، رغم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعتبر بقاء القيادة السورية معركته الشخصية، ولهذا قاوم كافة الضغوط الامريكية، رغم المغريات الاقتصادية العديدة التي عرضها الأمريكان ودول الخليج الغنية.
تركيا تلعب بالنار، ومعها كل الأطراف العربية والأجنبية المتورطة في مستنقع الحرب في سوريا. وستكون أولى نتائج الحرب الإقليمية هي تراجع اقتصاد الأتراك من المرتبة السابعة عشرة عالمياً ليُصبحَ مماثلاً للاقتصاد السوري. سوريا ليست ليبيا ولا صربيا ولا العراق، وهذا يعرفه القاصي والداني، وخرابها سيطال الجميع دون استثناء، كما ستطال الصواريخ السورية رؤوس دافعي الرواتب للمسلحين.
عسكرياً
تركيا السادسة عالمياً من حيث قوة الجيش، حسب الترتيب الأميركي. وبدون “عنتريات” تتفوق على سوريا في كافة النواحي: بحرياً وجوياً و برياً. لكن لدى سوريا أوراقٌ تجعلُ التفوّقَ التركي ليس بتلك الدرجة الحاسمة، بل تفوقاً مؤقتاً يتراجع الإنخراط بعملية عسكرية واسعة في سوريا، وأكرر إن حصلت، لهذا ستكون الضربة التركية مشابهة للطريقة الإسرائيلية الأميركية: سريعة قصيرة مدمرة، فالحربُ الطويلة ليست لمصلحة دول الناتو، التي أسميهم “دول الوجبات السريعة”.
مقارنة بين سوريا وتركيا عسكرياً بالأسلحة التقليدية
القوات
تركيا
سوريا
عالمياً
تركيا
سوريا
الجيش النظامي
1,370,407 جندي
501,410 جندي
8
17
الاحتياط
429,000
450,500
18
16
الطيران
1,940
830
8
21
صواريخ مضادة للطيران
5,547
3,310
2
5
الهيلوكوبتر
874
208
2
36
قطع السلاح البري
69,774
25,406
3
8
الدبابات
4,246
4,950
8
6
مضادات الدروع
47,546
8,490
2
6
المدرعات
6,592
6,610
10
9
راجمات الصواريخ
559
1200
9
5
القطع البحرية
265
19
المدفعية
1,838
2,160
فرقاطة
19
2
االبرمائيات
55
3
موازنة الجيش السنوية
25 مليار دولار
1,8 مليار دولار
16
46
التفوق السوري يأتي بالترسانة الصاروخية، حيث تحتل سوريا المرتبة الخامسة عالمياً، وهناك من يصنفها في الرابعة من حيث الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى.
السوريون لم يكونوا يضيعون الوقت، لقد أتخموا مستودعاتهم بالأسلحة الدفاعية تحديداً، والتي ستلعب دوراً أساسياً في تقرير مصير أي عدوان عليها. ولعل التقرير الاستخباراتي الأميركي الذي صدر بداية هذا العام 2012 يلخص ما يجري: قالت مصارد فرنسية مطلعة /لا يمكن أن تشارك فرنسا أو الولايات المتحدة في أيّ عمل عسكري ضد سوريا مادام الأسد ممسكا بمفاتيح ترسانته الصاروخية/
لن أستطيعَ استعراض تفاصيلَ عسكرية “غير مسموح بها”، وسأترك هذا لأصحاب الشأن، لكن باختصار تتضمن الترسانة الدفاعية الصاروخية السورية:
ـ منظومة إس 300 بنوعيها البري والبحري، والذي يمكنها اعتراض صواريخ كروز، وتدمير أية طائرة على ارتفاع حتى 27 كلم ولمسافة 150 كلم. وبنوعها الحديث، من أفضل المنظومات الدفاعية الحالية.
ـ صواريخ أرض ـ جو من طراز بوك م2.
ـ صواريخ مضادة للسفن (باستيون) يبلغ مداها 250 كلم
ـ بطاريات متطورة مضادة للطائرات تُدعى (قذائف ستالين).
ـ منظومات بانتسير، وهي المسؤولة عن إسقاط الطائرة التركية.
ـ صواريخ قصيرة، متوسطة وبعيدة المدى، قادرة على حمل رؤوس غير تقليدية.
يستطيع الجيش التركي تدمير البنية التحتية السورية وايقاع خسائر كبيرة في صفوف الجيش السوري وبفترة ساعات، وقد يصل بفترة قصيرة إلى إدلب وحلب، وسيسعون للوصول إلى دمشق. هنا على السوريين إطلاق 600 صاروخ متوسط وبعيد المدى يومياً، وعدم الاحتفاظ بحق الردّ، لأنها مسألة حياةٍ أو موت. يمكن الصواريخ أن تطال قصر /دولما باشا/، والدفاعات التركية لن تستطيع اعتراضَ سوى الدفعة الأولى من الصواريخ، لكنّ الدخان الكثيف الناتج عن حرائق العمق التركي، ستجعلُ اللاهثين وراء التهدئة أكثر من الداعمين للمزيد من الدمار على الجانبين.
لا يُمكننا في مركز فيريل التأكيد على السلوك المتوقع للقيادة السورية في حال دخول الجيش التركي، وزحفه باتجاه دمشق، إن حصل طبعاً. لكن “يجب” ألا تتردد القيادة العسكرية السورية في استخدام كافة أنواع الأسلحة. شعور الأتراك بتردد القيادة السورية سيجعلهم، حتى وإن لم يركبهم الجنون، سيحاولون اقتطاع أجزاء من الشمال السوري وتوطين آلاف الإرهابيين من التركمان مثلاً، والأيام ستُبتُ صدق أو خطأ تحليلاتنا في مركز فيريل.
أمرٌ آخر وبحرياً؛ يستطيع الجيش السوري قصف الموانئ التركية حتى أنطاليا، وهنا ستصاب هذه الموانئ بالشلل التام وستصبح السياحة في خبر كان.
على مَن يبدأ الحرب أن يُجيب على هذا السؤال:
سيمدُّ الناتو تركيا بالدعم اللامحدود مبدئياً، وربما تشارك الأفعى بريطانيا منذ البداية. إسرائيل ستتفرج بابتسامة عريضة، فخصومها يتقاتلون، ولن تكون مسرورة بفوز أحدهما على الآخر.
سيحاول الأطلسي وتركيا حصر الحرب بمنطقة واحدة، لكن على القيادة العسكرية السورية:
ـ إشعال شرق تركيا عن طريق حزب العمال الكردستاني.
ـ محاولة شقّ المجتمع التركي خاصة طائفة معيّنة وإن كان صعباً، والقصد واضح.
ـ توسيع رقعة الحرب بإشعال جبهة الجنوب اللبناني، وجر اسرائيل إلى الساحة، وهنا سيهرع الجميع لإطفاء نيران قد تصيب العالم بأسره، وأولهم أثرياء الخليج “الشرفاء”
أسئلة كثيرة لا يمكن لأحد الإجابة عليها بحزم:
ـ هل ستقف إيران متفرجة؟
ـ هل هل سيكون للدب الروسي والتنين الصيني رأي آخر؟
ـ هل سيسمح الناتو بانكسار شوكة تركيا بعد أن كُسرت هيبتها بإسقاط الطائرة؟
السيناريو المتوقع على المدى المنظور
رأي مركز فيريل للدراسات
ـالصورة القاتمة السابقة هي احتمالٌ ضعيف، لكن لابدَّ من ذِكرهِ كتحليل لما يجري، أمّا ما نُرجّحُ حدوثه في مركز فيريل وقد نُخطئ:
تحرشات تركية بالجيش السوري وتشكيل عصابات مسلحة إرهابية تعمل ضده.
عمليات إنتحارية وتفجيرات واغتيالات تطالُ شخصيات سياسية وعسكرية ومدنيين داخل المدن السورية الرئيسية
مجازر ضد الأقليات، مع تحفظنا في مركز فيريل على هذا التعبير، لأنّ الأقليات هم اصحابُ الأرض الحقيقيين، هنا يجب الانتباه من محاولة تفجير كنيسة أو دار عبادة، واغتيال رجل دين نافذ لطائفة ما، لإثارة فتنة طائفية.
الضغط على مجلس الأمن من قبل الخليج لتطبيق البند السابع.
ضخ مالي غير محدود للإرهابيين وللمنشقين من السوريين، وفتح الأبواب من المخابرات التركية والقطرية لجلب المزيد من الإرهابيين العرب والأجانب.
كلمة أخيرة:
تبدأ الحرب الكبرى ضد سوريا، عندما يتأكد الغرب من نجاح الجيش السوري في إعادة الوضع لما كان عليه قبل آذار 2011، فإن كان هذا النجاحُ محدوداً، سنرى سنواتٍ من الحرب الطاحنة في سوريا، وأتمنى ألا تصدق توقعاتي. مركز فيريل للدراسات، الدكتور جميل م. شاهين ـ برلين 28.06.2012