الحرب النفسية والطابور الخامس. المهندس نقولا فياض. هامبورغ. بحث من مركز فيريل للدراسات.

عدد القراءات 3810 استخدم الإنسان، ومنذ القدم، أساليب ووسائل متعددة للسيطرة على أفكار ومعنويات عدوه وتسخيره وفق مشيئته، ومَن يتصفح كتب التأريخ يجد الكثير من الوقائع التي تدل على ذلك، فالحرب النفسية أو حرب الكلمة، حقيقة قديمة موجودة منذ أن وجد الصراع البشري، ولكنها كمصطلح لم يظهر إلاّ بعد الحرب العالمية الثانية.

يقول نابليون بونابرت عن معنى قوة الكلمة:

“إنني أرهبُ صرير القلم، أكثر من دوي المدافع”.

كان إيمانه قوياً بمفعول الكلمة، فقد كتب عام 1796 يوم كان قائداً عاماً لجيشه في إيطاليا:

“من المستحسن أن لا يتعرض الصحفيون لملك سردينيا، وأن لا ينشروا عنه سخافاتٍ بعيدة عن الواقع، هناك شطحاتٌ ترتكز على إشاعات خاطئة، تسيئ إلينا وتخلق لنا الأعداء من حيث لا نريد.

بعد الحرب العالمية الثانية غدت الحرب النفسية في مقدمة الأسلحة التي تتحارب فيها الدول فيما بينها. لا تستند الحرب النفسية على قواعد علمية ثابتة في ميدان عملها، حالها في ذلك حال الدعاية السياسية وقد أطلق الإعلاميون على “حرب الكلمة” مصطلحات وتسميات أخرى عديدة، منها الحرب النفسية، وهي أكثر شيوعاً من بقية التسميات: غسل الدماغ، حب المعتقد، الحرب الباردة والحرب السياسية، وحرب الأعصاب، ولكن كل هذه المصطلحات تعني جميعها مفهوماً واحداً .

تعريف الحرب النفسية




هي: “الاستخدام المدبر لفعاليات معينة معدة للتأثير على آراء وسلوك مجموعة من البشر، بهدف تغيير نهج تفكيرهم.”

تشمل بمعناها الواسع استخدام علم النفس لخدمة الهدف بأساليب الدعاية والإشاعة والمقاطعة الاقتصادية والمناورة السياسية، وتعتبر أقل الأسلحة كلفة، ولا يقتصر استخدامها على وقت الحرب فقط، بل هي عملية مستمرة، كما لا يمكن معرفة نتائجها إلا بعد أشهر أو ربما سنين. كما يعرفها بعض خبراء الإعلام والدعاية بأنها: “استخدامٌ مخطط من جانب دولة أو مجموعة من الدول للدعاية وغيرها من الإجراءات الإعلامية الموجهة إلى جماعات عدائية أو محايدة أو صديقة، للتأثير على آرائها وعواطفها ومواقفها وسلوكها، بطريقة تسهم في تحقيق سياسة وأهداف الدولة المستخدمة”.

أهداف الحرب النفسية

يمكن إجمال أهداف الحرب النفسية باتباع سياسة أيديولوجية ومعنوية، والعمل على توسيع وقيادة عملية التأثير على الجماعة، سواء في الحرب أو السلم، من خلال استخدام وسائل التأثير على معنويات وأخلاق المواطنينوقد حدّد البروفسور رجيارد أكروس، الذي كان يشغل رئاسة الحرب النفسية في بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية أهم أهداف هذه الحرب بالتالي:

تحطيم قيم وأخلاقيات الشعب الذي توجّه اليه الحرب النفسية، وإرباك نظرته السياسية، وقتل كافة معتقداته ومُثله التي يؤمن بها.

عملية غسل دماغ أولاً، ثم إعطاءُ الشعب مبادئ ودروساً جديدة، ليؤمن بعد ذلك بكل ما نريد أن يؤمن به.

زيادة شقة الخلاف بين الحكومات وشعوبها.

غرس بذور الفرقة بين أبناء الشعب الواحد.

 

تبلغ الحرب النفسية أهدافها بالانهزامات العسكرية، التي تجعل سكان الطرف المنهزم مستعدين نفسياً لقبول أية دعاية، ومع اقتراب نهاية الحرب، يبدأ الشعبُ المُنهزم بالأخذ بتوجيهات الاحتلال.

أساليب الحرب النفسية

اعتمدت الحرب النفسية أساليب وصيغاً مختلفة، إلا أنها تتداخل مع بعضها البعض لتصل بالنهاية لتحقيق غرضها. من أهم هذه الأساليب:

 

الدعاية

تُعتبرُ الدعاية من أسلحة الحرب النفسية الفتاكة، مما حفّز الدول على التفنن في كيفية استخدامها في الحروب، وتستهدف تحطيم معنويات السكان وتهيئتهم نفسياً لقبول فكرة الحرب وما يترتب عليها وما ينجم عنها من ويلات، بالإضافة لتثبيط عزيمة العدو ومحاولة التأثير على الدول المحايدة. ولابد هنا من الإشارة الى أنّ الدعاية تشمل كافة وسائل الاتصال الجماهيري وهي في الوقت الحاضر الفضائيات والإذاعات والصحف والانترنت.

الإشاعة

يصنف علماء النفس الإشاعات إلى ثلاثة أصناف رئيسية هي:

إشاعة الخوف، إشاعة الأمل، وإشاعة الحقد.

مع التأكيد على أنّ الإشاعة تسري في جسد الشعوب ضعيفة التكوين النفسي، والحماسية ذات الشخصية الفوضوية، كسريان النار في الهشيم. لهذا نرى أنّ الإشاعات تنتشرُ بصورة متباينة بين شعب وآخر، تبعاً لبنيته النفسية. كمثال بسيط؛ يكفي أن يُنشر “بوست” صغير عن “إعصار مدمر” يقترب من دولة ما، حتى ترى الشعوب الضعيفة تتناقلُ الخبر دون أن تحاول كشف حقيقته، بينما تجد قلائل يبحثون عن مصدر موثوق لهذا الخبر. 

 

الضغوط الاقتصادية

تُمارس تلك الضغوط بطرق متعددة منها الحصار الاقتصادي والمقاطعة الاقتصادية، بهدف منع وصول الأطعمة والمواد الضرورية للشعب، وتجميد إمكانيات البلد الإنتاجية، مما يؤدي إلى الجوع والحرمان الذي من شأنه أن يخلق أزمات نفسية ونقمة متزايدة.

 

المناورة السياسية

تتكامل فعاليتها وترتبط بالعوامل المذكورة سابقاً، كالدعاية والاشاعة، وتبرز المناورة السياسية بشكل خاص وقت السلم، وبمظاهر متعددة منها التهديد المستمر بالحرب كالتهديد الذي مارسه هتلر منذ عام 1936، والذي جعل تشكوسلوفاكيا آنذاك تتنازل عن منطقة السويدات، دون أن يُطلق طلقة واحدة. هذا الأسلوب تستخدمهُ الولايات المتحدة الأميركية كثيراً ومعها العديد من الدول، فهي تُهدد وتهدد دون أن تُحارب كي تحصل على تنازلات من الطرف الآخر. وهذا يرتبط تماماً بالفقرة التالية.

استخدام القوة العسكرية

ضمن سلسلة تهديدات متتالية، تلجأ الدول للقيام بأعمال عسكرية تصفها بـ “الرادعة”، وتأتي استكمالاً لأقسام الحرب النفسية الأخرى وتأخذ أشكالا متعددة منها شن الغارات الجوية والحركات الاستنزافية واستخدام الاسلحة بكل أنواعها.

 

كيف تُواجهُ الدول والشعوب الحرب النفسية؟

 




أولاً: مكافحة نشاط الجماعات المعادية في الداخل أو ما اصطلح على تسميته بالطابور الخامس، ولكن ما هو الطابور الخامس؟

ظهر هذا التعبير خلال الحرب الأهلية الإسبانية، عندما قال الجنرال (مولا) أحد قادة فرونكو:

“إن أربعة أرتال تتقدم باتجاه مدريد للاستيلاء عليها، ولكن هناك رتل خامس كامل داخل المدينة، لديه القدرة على إنجاز ما لا يستطيع أي رتل انجازه”.

الرتل الخامس “الطابور الخامس”؛ سلاحٌ فعال مهمته تحطيم كيان الأمم من الداخل، بإضعافها وتفتيت شملها بالإشاعات لإثارة الفزع بين صفوف المواطنين والنعرات القومية والطائفية والعرقية، والقيام بأعمال الشغب والتخريب التي تخلق الفوضى.

ينبغي مواجهة الطابور الخامس بشدة وصرامة، واتخاذ التدابير اللازمة لوقف نشاطه بالتنسيق مع فعاليات الحرب النفسية الأخرى وفي مقدمتها الإعلام…

الإعلام…

تقع عليه المسؤولية الأولى بالكشف عن أهداف العدو أمام الرأي العام المحلي والعالمي، كوسيلة من وسائل الدعاية المضادة بالإضافة لاعتماد التالي:

1. منهاج توعية شامل يهدف لتنمية الشعور بالمسؤولية لدى المواطنين، مع توضيح دقيق للدور الخطير للمجموعات المعادية وإيضاح وسائلهم وأساليبهم التخريبية.

2. تحقيق الوحدة الوطنية، وقطع الطريق على محاولات زرع بذور الفرقة، وقد أثبتت الحرب على العراق 2003 أن الشعب المفكك الأواصر، خير مرتع للأعداء.

3. اتخاذ تدابير كفوءة لمواجهة الإشاعة من أهمها؛ إطلاع الشعب بشكل صادق على ما يجري بعيداً عن أساليب الخداع والمراوغة التي سرعان ما يكتشفها الشعب.

4. وضع سياسة إعلامية وطنية موحدة للشعب، والتحذير من محاولات إشاعة عوامل الفرقة والتناحر بين أبناء الوطن الواحد، والتصدي لمثل تلك المخططات التي تسهل للأعداء تحقيق مآربهم .

5. مد جسور الثقة بين الشعب والسلطة، وتعميقها والتواصل الحقيقي مع المواطنين والاستماع الى شكواهم وآرائهم ومناقشتها معهم.

ثانياً : اتخاذ تدابير عملية بالاعتماد على علم النفس والاجتماع والسياسة والسوق العسكرية، لمجابهة ما يخطط له العدو حالياً ومستقبلاً. يتطلب ذلك دراية ومعلومات واسعة عن الجانب الآخر (العدو) يمكن استحصالها من خلال مواطني البلد في الخارج. بالتالي؛ تحصين الشعب نفسياً ضد أية حربٍ نفسية تنال من ثباته.

إنّ مقولة: “ضعف إمكانيات الإعلام” مقارنة بإمكانيات إعلام الدول المعادية، باتت هزلية… فبعد انتشار الانترنت، لم يعد الإعلام بحاجة لتلك الإمكانيات الهائلة، ما نراهُ وخبرناهُ في مركز فيريل أنّ صفحاتٍ “مجانية” على الفيس بوك، كان لها تأثيرٌ أكبر من وسائل إعلام تمتصُّ عشرات الملايين من الدولارات من خزينة الدولة، كما أنّ انتشار “فيديو” لا يُكلّفُ دولاراً واحداً، أسرعُ وأعمقُ تأثيراً في الدول والشعوب، من انتشار وتأثير برامج ولقاءات “سفسطائية” تُكلفُ مئات الآلاف.

مواجهةُ الحرب النفسية التي يشنها عدوّ على دولة ما، لا تأتي من برامج تقليدية “خشبية” أو تكرار ممل ينفرُ منه المواطنُ، ويجعلهُ يهربُ إلى إعلام الدول المعادية. بل من برامج متجددة صادقة مع كشف لما يجري دون “مغمغة” أو صمت شيطاني. فعند حدوث أمر جلل، انفجار أو هجوم أو تفشي مرض أو كارثة طبيعية، على السلطات كشف حقيقة ما يجري مع مراعاة طبعاً لعدم نشر “الترهيب”، إذا صمت الإعلام عن ذلك، سيهرب المواطن إلى أقرب وسيلة إعلامية رخيصة فيصدقُ كلّ ما تقوله حتى لو كان كاذباً، هنا يكون إعلام الدولة هذه مساهماً في الحرب النفسية ضد الشعب أيضاً، ويصبحُ فعلياً “الطابور الخامس”.

تحيا سوريا بأبنائها فقط… المهندس: نقولا فياض. هامبورغ، ألمانيا. مركز فيريل للدراسات.