الرؤية الأمريكية حول طريقة إدارة الصراع في سوريا والمنطقة. د. أسامة إسماعيل

وجهة  النظر الأمريكية  حول طريقة ادارة الصراع في سورية والمنطقة، حسب تقرير مدير برنامج الدراسات العسكرية ‏والأمنية في واشنطن – إعداد الدكتور أسامة اسماعيل 

اجتمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة مجموعة العشرين. وكان ‏الصراع السوري من بين المواضيع التي نوقشت، علماً بأنه موضوع يستوجب من كلا الزعيمين مجهوداً من أجل إيجاد ‏أرضية مشتركة, وفي أعقاب مباحثات بوتين وترامب أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يوم الجمعة، أن روسيا والولايات ‏المتحدة مستعدتان للإعلان عن وقف إطلاق النار جنوب – غرب سوريا اعتبارا من يوم 9 تموز: “انتهى اليوم في ‏العاصمة الأردنية عمان عمل خبراء روسيا والولايات المتحدة والأردن، وقد اتفقوا على مذكرة إنشاء مناطق تخفيف ‏التصعيد جنوب غرب سوريا، في محافظات درعا والقنيطرة والسويداء. وسيدخل نظام وقف إطلاق النار حيز التنفيذ ‏اعتبارا من 12 ظهرا بتوقيت دمشق من يوم 9 تموز في هذه المنطقة‎”. ‎ وأشار الوزير الى أن موسكو وواشنطن أخذتا على ‏عاتقهما مسؤولية توفير تنفيذ نظام وقف إطلاق النار‎. ‎وأكد لافروف، أن الشرطة العسكرية الروسية، ستعمل خلال الفترة ‏الأولى على توفير الأمن حول مناطق تخفيف التصعيد بالتنسيق مع واشنطن وعمان.

ماذا بعد ضرب مطار الشعيرات؟

حاول ترامب من خلال الضربة الصاروخية الأمريكية التي استهدفت مطار الشعيرات في تيسان أبريل إظهار نفسه  أنّه ‏أكثر حسما في استخدام القوة من سلفه باراك أوباما ، ويبدو أن الضربة كان لها من الضجة الإعلامية أكثر من مفعولها ‏الحقيقي على الأرض حيث أدرك الأمريكي بعدها حسب محللين أمريكيين وغربيين أن الضربة لم تغير قواعد اللعبة  فلا ‏الحكومة السورية ولا حلفاؤها الروس والايرانيين قد غيّروا استراتيجيتهم في أعقابها . وقد حافظت روسيا على وجه ‏الخصوص على استراتيجية متجذرة في فرض ضغوط عسكرية وسياسية على المعارضة المسلحة  والأطراف الأجنبية ‏الراعية لها بتبني الرؤية الروسية لسوريا في مرحلة ما بعد الصراع. ووفقاً لهذه الرؤية، سيصمد  الرئيس الأسد ، الأمر ‏الذي سيضمن الوجود الروسي النشط في الحياة السياسية والاقتصادية للبلاد بعد انتهاء القتال‎. ‎وكان السبب الرئيسي في ‏حفاظ روسيا على وضعها المتفوق في سورية مقارنة بالأمريكي  هو عجز الأمريكي عن متابعة الضغوط العسكرية على ‏دمشق وعن إحباط أي أمل بالحوار بين الغرب وروسيا بشأن الأسد. فمضى وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيليرسون ‏لزيارة موسكو، حتى مع الغاء نظيره البريطاني بوريس جونسون زيارته لها. ومن جهة موسكو، هدأت المخاوف الروسية  ‏من احتمالات التصعيد العسكري الأمريكي في سورية مع استنتاج الكرملين بأنه بينما قد يكون ترامب مستعداً لاستخدام ‏القوة إلّا أنّه – على غرار أوباما – يريد تجنب التوغل عميقاً في الوحل السوري. وبذلك تستطيع روسيا أن تواصل اعتبار ‏نفسها اللاعب الرئيسي في البلاد‎. ‎وعلاوةً على ذلك، عندما استعمل  ترامب بروباغاندا اتهام الأسد بالاستعداد لاستعمال ‏الكيماوي  مهددا  بتكرار العمل العسكري ضد الرئيس والجيش السوري  مع تلميح أنّ الضربات ستكون أشمل وأكثر قوة ، ‏شعرت روسيا على الأرجح بالثقة في استمرار دورها المؤثر في الصراع. وتنبع هذه الثقة من الشعور بموقعها الأقوى ‏بصورة عامة في الحرب بالمقارنة مع الغرب. وبالتالي، فبينما تسببت حادثة إسقاط قوات التحالف للطائرة السورية مؤخراً ‏بوضع روسيا في حالة تأهب، لم يتأثر الكرملين عموماً بالأعمال الأمريكية المكثفة التي نفّذت في أيار/مايو ‏وحزيران/يونيو. بالإضافة إلى ذلك، يعتقد المسؤولون الروس أن آلية اتخاذ القرارات بشأن سوريا لدى ترامب لا تزال ‏مضطربة وأن الإدارة الأمريكية لم تستقر بعد على استراتيجية بعيدة المدى. وبالنظر إلى هذه الصورة الأكبر، من غير ‏المحتمل أن يتأثر بوتين بالتصريحات الأمريكية العرَضية التي تهدد بالضربات الجوية في سياق الترويج لبروباغاندا  تتهم ‏سورية باستخدام الأسلحة الكيميائية. وأحد التفسيرات المحتملة التي تطرحها موسكو للتهديد الأخير هو رغبة ترامب في ‏استعراض عضلاته العسكرية  (بالقول لا بالفعل) ، مقابل ضعف أوباما المتصوَّر، وذلك قبل لقائه مع بوتين خلال قمة ‏مجموعة العشرين. ولذلك التزم الجانب الروسي الصمت بشأن هذه المسألة، مفضلاً الانتظار للاجتماع الفعلي قبل التلميح ‏إلى الخطوة التالية في الحوار بين الولايات المتحدة وروسيا حول سوريا‎. ‎

مناطق الحد من التصعيد من الخطوات الرئيسية التي تقوم بها روسيا حالياً لتعزيز موقفها التفاوضي هي إقامة مناطق ‏لتخفيف حدة التصعيد، وهي بادرة تكتيكية بحتة لكسب المزيد من الوقت للجيش السوري وحلفائه . ومن وجهة النظر ‏الروسية، تهدف هذه المناطق إلى تحقيق عدة أهداف محددة، وهي:‏

‏1.‏ ‎ ‎من خلال طرح هذه الفكرة، تُظهر روسيا أنها لا تزال تترأس المفاوضات بشأن التسوية السياسية في سوريا. ‏ومن خلال إرغام الأطراف الدولية الأخرى على التركيز على هذه المبادرة وغيرها من المبادرات الروسية، ‏يشتت الكرملين كذلك انتباه هذه الدول عن استراتيجياتها الخاصة‎.

‏2.‏ كانت روسيا قلقة من الشائعات المتداولة حول تقديم إدارة ترامب طروحاتها الخاصة حول مناطق حظر الطيران، ‏التي من شأنها أن تقسّم سوريا إلى أجزاء يُزعم أنها مواتية للمعارضة. ولذلك سارعت روسيا إلى طرح بديل من ‏شأنه أن يوجِد معاقل سنية – بدلاً من تقسيم البلاد – ويُنشئ مناطق لتخفيف حدة التصعيد تكون خاضعة لسيطرة ‏حلفاء دمشق‎.

‏3.‏ ‎ ‎من شأن مناطق تخفيف حدة التصعيد أن تضفي طابعاً إقليمياً على النزاع السوري وتعزل التجمعات العسكرية ‏الأكثر عدائية ضمن مناطق تخفيف النزاع هذه. كما تتوقع روسيا من التجمعات الموالية لتركيا  و(هيئة تحرير ‏الشام-  التي كانت تُعرف سابقاً بـ «جبهة النصرة» –  أو «جبهة فتح الشام») المحاصرة ضمن مناطق تخفيف ‏حدة التصعيد  التي يتوقع أن تفشل في إيجاد قضية مشتركة وتبدأ في القتال فيما بينها. وأفادت بعض التقارير ‏على هذه الجبهة أن دمشق أطلقت سراح المئات من مقاتلي «أحرار الشام» في نيسان/أبريل ونقلتهم إلى إدلب ‏لتعزيز موقفهم ضد «هيئة تحرير الشام». وفي خطوة مرتبطة بالسياق نفسه، أغفلت روسيا مؤخراً عن ذكر ‏‏«هيئة تحرير الشام» في خطاباتها المتعلقة بمكافحة الإرهاب وحوّلت تركيزها نحو تنظيم «الدولة الإسلامية». ‏ويشير بعض الخبراء إلى أن هذا التحول كان متعمدٌاً وهدفه الاعتراف بشكل غير رسمي بـ «هيئة تحرير الشام» ‏كالقوة المسيطرة على مناطق تخفيف حدة التصعيد، وبالتالي وضعها في موقع اشتباك محتّم مع التجمعات ‏الأخرى

‏4.‏ ‎ ‎بشكل عام، من شأن إقامة أربعة مناطق صالحة نسبياً أن تُبقي المعارضة السورية منشغلة بالصراع على القوة ‏داخل هذه المناطق. وفي الوقت نفسه، ستتمكن موسكو من التركيز على الصراع ضد تنظيم داعش الارهابي.‏ وإذا تم تنفيذ الاستراتيجية المتعلقة بمناطق تخفيف حدة التصعيد بنجاح، سوف يشن الجيش السوري وحلفاؤه  والطيران ‏الحربي الروسي هجوماً واسع النطاق على مواقع تنظيم داعش الإرهابي في دير الزور، وسيشكل الانتصار  انتصار على ‏تنظيم «داعش» فيها انتصارا للحلفاء وإنجازا رسميا  للأهداف الروسية في سوريا. وستعمل الحملات الدعائية الروسية ‏على إظهار موسكو بأنها الرابح الواضح، مقارنةً بـ “التقدم البطيء والمشبوه ” الذي يسجله الغرب في (حربه) ضد تنظيم ‏‏«الدولة الإسلامية» في العراق.  وقد تستخدم روسيا أيضاً هذا الانجاز كذريعة للانسحاب جزئياً من المستنقع السوري .‎وأخيراً، ترى موسكو أن المناطق المقترحة لتخفيف حدة التصعيد هي ثمرة ناتجة عن تجربتها السابقة في إبرام اتفاقات ‏محلية لوقف إطلاق النار بين دمشق وما يسمى بالمعارضة المسلحة.

وبالفعل، تتناقض هذه النجاحات بشكل صارخ مع فشل المحادثات السياسية العالمية في جنيف وأستانا، الأمر الذي يشجّع ‏روسيا على المضي قدماً في مساعيها نظراً للمقاربة الروسية الموضحة أعلاه، فمن المتوقع أن يسارع الغرب في وضع استراتيجية جديدة بشأن سوريا تعبّر عن ‏رؤية واضحة  لمستقبل البلاد تخدم مصالحه،  وتُظهر استعداد الولايات المتحدة لحمايتها،  فغياب مثل هذه الاستراتيجية ‏الأمريكية سيُظهر لروسيا أن الولايات المتحدة غير مستعدة للاضطلاع بدور جدي في سوريا. وفى حالة ركود الحوار بين ‏الولايات المتحدة وروسيا حول سوريا، من الممكن أن تتقدم موسكو أكثر في خطوات أكثر حسما لصالحها ولصالح حلفائها ‏في سورية والمنطقة ، فتبتعد أكثر عن الموقف الأمريكي.

إن الخلفية الموجزة لهذه الأحداث هي أنه في أعقاب فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، توقّع الكرملين بدء ‏حوار مستدام حول احتمالات تسوية الصراع في سوريا، والنضال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، ومستقبل البلاد بعد ‏انتهاء الصراع. وعلى الرغم من عدم توهّم موسكو بشأن الطبيعة الحافلة بالتحديات لهذه المحادثات – كانت تخطط لإقناع ‏واشنطن بخطورة رؤيتها الخاصة – إلا أن روسيا كانت ستعتبر إن مجرد بداية الحوار حول قضايا محددة هو بمثابة تقدم ‏بحد ذاته. ولكن مثل هذه البداية تستوجب رؤية القيادة الروسية أجندة أمريكية جديدة في سوريا يتم تحديدها بوضوح من ‏قبل البيت الأبيض. وهذا أمر لم يحدث بعد بنظر موسكو‎. ‎وفي ظل الغياب المستمر لسياسة أمريكية واضحة في سوريا، ‏من المحتمل أن يتضاءل اهتمام موسكو بمزيد من الحوار مع واشنطن. ومن شأن مثل هذه النتيجة أن تؤدي إلى عدم ‏احتفاظ السلطات الروسية إلا بالحد الأدنى من الاتصالات مع نظيرتها الأمريكية عوضاً عن محاولة تعزيزها..‏

وفي الوقت نفسه، سوف يركز المسؤولون الروس اهتمامهم على الحوار مع الأطراف الإقليمية، وتحديداً تركيا وإيران، من ‏أجل ضمان إقامة مناطق تخفيف حدة التصعيد الخاصة بهم. وبالتالي فإن قدرة الولايات المتحدة على التأثير على المقاربات ‏الروسية في سوريا سوف تتضاءل إلى حدٍّ أكبر‎. ‎إن ازدياد التركيز الروسي على التعاون مع القوى الإقليمية على حساب ‏تعميق الحوار مع الولايات المتحدة سوف يخدم بالمثل مصالح طهران ويجعل الكرملين أكثر اعتماداً على وكلاء إيران فيما ‏يتعلق بإقامة مناطق تخفيف حدة التصعيد. وغني عن البيان أن إيران قد اكتسبت بالفعل الكثير من التدخل الروسي في ‏سوريا من حيث تأثيرها في سوريا والمشرق. وعلى الرغم من أن الأهداف المتباينة على المدى الطويل لكل من روسيا ‏وإيران في سوريا تثير قلق موسكو دون شك، إلا أن توقف المحادثات مع الغرب سيجبر الكرملين على الاعتماد على ‏طهران وتوابعها من أجل تحقيق أهدافه‎.‎‏ ‏
خلال الأسابيع الأخيرة، اشتبكت القوات الأمريكية في سوريا مع قوات من الجيش السوري وأخرى تابعة لحلفائه تدعمها ‏إيران في ما لا يقل عن ست حوادث. وقد أثارت تلك الاشتباكات مخاوف من أنه في ظل الهزيمة العسكرية الوشيكة لـ ‏تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا والصراع السائد لملء الفراغ الناتج، ربما تقف الولايات المتحدة على مسار التصادم ‏مع سوريا وحلفائها – إيران و «حزب الله» وربما روسيا. وقد أدت التوترات المتصاعدة في أماكن أخرى من المنطقة بين ‏الولايات المتحدة وحلفائها وإيران إلى تفاقم هذه المخاوف. وفي حين تواصل الولايات المتحدة بذل جهودها غير الرسمية ‏لـ”تجنب المواجهة” مع روسيا، إلّا أنّها بحاجة إلى بذل جهود موازية لمنع اندلاع صراع أوسع نطاقاً مع الجيش السوري ‏والقوات الموالية التي تدعمها إيران .‏

انتشار نقاط الاحتكاك

شملت أحدث التحركات العسكرية الأمريكية في سوريا إطلاق صواريخ موجهة على “قاعدة الشعيرات الجوية” في أعقاب ‏بروباغاندا مزعوم عن هجوم كيميائي شنه  النظام على المدنيين في (7 نيسان/أبريل)؛ والحظر الجوي على الميليشيات ‏الموالية للحكومة السورية والمدعومة من إيران (18 أيار/مايو، 6 و8 حزيران/يونيو) و[عمليات] الطائرات المسلحة بدون ‏طيار (8 و20 حزيران/يونيو) التي هددت المتمردين السوريين ومستشاري التحالف الغربي قرب بلدة التنف الحدودية؛ ‏وإسقاط مقاتلة سورية من طراز “سو- 22” كانت قد شنت هجوماً على وحدات «قوات سوريا الديمقراطية» قرب الطبقة ‏‏(18 حزيران/يونيو).‏ وبالإضافة إلى ذلك، يساور المسؤولين الأمريكيين القلق من أن تحرير الموصل قد يدفع بطهران إلى الاستنتاج بأنها لم تعد ‏تستفيد من الوجود الأمريكي في العراق، و[تستطيع] أن تشجع عملاءها العراقيين على مهاجمة القوات الأمريكية هناك.‏

تشمل بؤر التوتر المحتملة الأخرى:

الخليج العربي، حيث يحدث الاحتكاك بين  السفن الحربية الإيرانية  و القوات ‏البحرية الأمريكية.

–  مرتفعات الجولان حيث تنشئ إيران و «حزب الله» بنية تحتية لمهاجمة الكيان الضهيوني  (علماً ‏بأن طائرة إسرائيلية بدون طيار كانت قد شنت غارة هناك في كانون الثاني/يناير 2015 استشهد على إثرها جنرال إيراني ‏وعدد من المسؤولين في «حزب الله»).

والسعودية والبحرين، حيث أن التورط السعودي في اعتداء تنظيم «الدولة ‏الإسلامية» في 7 حزيران/يونيو في طهران حسب ما صرحت به طهران،  أثارت مخاوف بشأن قيام إيران بالانتقام .

– ‏وكذلك مضيق باب المندب، حيث نجحت المقاومة اليمنية والجيش اليمني في ضرب  عدة سفن حربية أجنبية باستخدامهم ‏صواريخ موجهة إيرانية مضادة للسفن فضلاً عن قنابل محملة في قوارب يجري التحكم بها عن بُعد.‏

ـ أثار وجود العديد من نقاط الخلاف مخاوف من أن يؤدي أي صدام (سواء كان متعمداً أو عرضياً كما حصل حين ‏قصفت طائرة أمريكية جنوداً سوريين في أيلول/سبتمبر 2016) إلى اندلاع صراع أوسع نطاقاً مع إيران. ‏

فما العبر التي يحملها التاريخ حول تجنّب التصعيد مع إيران ووكلائها وضبطه؟
حسابات المخاطر بالنسبة لطهران

في‎ ‎الوقت الذي تتّبع فيه إيران سياسات مناهضة للهيمنة الأمريكية وتساعد في صمود سوريا ولبنان ضد الكيان الصهيوني ‏، فهي حساسة عموماً تجاه المخاطر والتكاليف، وتتوخى‎ ‎الحذر أثناء الأزمات وعند تعاملها مع خصوم أكثر نفوذاً منها مثل ‏الولايات‎ ‎المتحدة. وقد شدّدت بشكل عام على “المعاملة بالمثل” (أي الرد بنفس الأسلوب‎ ‎على مستوى الاعتداء المفترض) ‏فضلاً عن “الغموض” و”الصبر” (عبر‎ ‎الاعتماد على الوكلاء لتوفير المواجهة ودرجة من الإنكار) من أجل إدارة‎ ‎المخاطر ‏والحدّ من إمكانات التصعيد‎.‎ وهكذا، سعت طهران مراراً وتكراراً إلى تجنّب خوض أي مغامرات خارجية مكلّفة، برغم تألمها من بعض الأحداث  مثل  ‏ما حدث من قمع  خلال انتفاضة الشيعة في العراق عام 1991، وعندما قتلت حركة “طالبان” الأفغانية آلاف الشيعة الهزارة ‏وثمانية مسؤولين إيرانيين عام 1998، ومثل عدوان الكيان على جنوب لبنان في حرب تموز  عام 2006 ، ومثل قمع ‏المتظاهرين الشيعة في البحرين عام 2011. وفي جميع هذه الحالات، ردّت إيران بشكل غير مباشر من خلال وكلائها أو ‏تحركت بعد وقوع الحادثة – فأرسلت «فيلق بدر» العراقي للمساعدة خلال انتفاضة عام 1991 في العراق، وسلّحت ‏‏”التحالف الشمالي” الأفغاني ضد “طالبان”، وأعادت بناء «حزب الله» بعد حرب 2006، وخلال مواجهة خصومها الأجانب، ‏تحركت إيران بشكل مباشر حين أمكنها ذلك، وبشكل غير مباشر (من خلال وكلائها) أو عبر وسائل أخرى (الوسائل ‏الإلكترونية) عندما لم تتمكن، أو عندما أرغمها المنطق على التصرف خلاف ذلك. ولطالما اختبرت حدود خصومها، ‏وتراجعت عندما كان الرد حازماً وأعادت الانخراط في ظل ظروف أكثر مؤاتاة في وقت لاحق. وبالتالي، خلال الحرب ‏الإيرانية- العراقية (1980-1988)، واجهت طهران القوافل البحرية الأمريكية في الخليج بوسائل غير مباشرة (الألغام) ‏وعبر مهاجمة سفن بدون مرافقة، وعندما انخرطت بشكل حازم، قاتلت بما أوتيت به من قوة. ولم تردع التدخلات ‏الأمريكية إيران لكنها أرغمتها على تغيير مقاربتها وتقليص أنشطتها في النهاية بعد سلسلة من المواجهات المؤلمة مع ‏البحرية الأمريكية.‏

خلال الاحتلال الأمريكي للعراق، قامت إيران بتسليح الجماعات الشيعية الخاصة – وساعدت المتمردين السنّة – التي ‏استهدفت القوات الأمريكية. وقد ردّت على سلسلة من الهجمات بقنابل لاصقة على علمائها النوويين من خلال محاولة شنّ ‏هجمات بقنابل لاصقة على دبلوماسيين إسرائيليين في جورجيا والهند وتايلندا خلال شباط/فبراير 2012. وبين عامي 2011 ‏و2013، تصدّت للهجمات الألكترونية على برنامجها النووي وللعقوبات الاقتصادية التي فُرضت عليها بهجمات إلكترونية ‏على القطاع المالي الأمريكي وشركة “أرامكو” السعودية. ومؤخراً، ردّت على الدعم السعودي للارهابيين  المناهضين ‏للحكومة في سوريا وغيرها من الاستفزازات الملموسة من خلال تكثيف دعمها للحوثيين في اليمن.‏
غير أنه من الناحية التكتيكية أظهرت طهران مرونة أيضاً؛ فعندما تفوق المخاطر الفوائد المرجوة، تتراجع عن التهديدات – ‏رغم أنها قد تعيد إحياء تحدٍ في مكان أو زمان آخر. وبالتالي، عندما أعادت الولايات المتحدة حاملة طائرات إلى الخليج في ‏كانون الثاني/يناير 2012 بعد أن حذرتها طهران من القيام بذلك، عجزت هذه الأخيرة عن اتخاذ أي خطوة رغم أنها حاولت ‏لاحقاً إسقاط طائرة أمريكية بدون طيار في الخليج العربي خلال تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه ومرة أخرى في ‏آذار/مارس 2013. وفي الآونة الأخيرة، لم ينفذ وكلاء إيران في العراق التهديدات السابقة بمهاجمة القوات الأمريكية المقاتلة ‏إذا عادت إلى العراق، لأنهم كانوا بحاجة إلى مساعدة الولايات المتحدة لدحر تنظيم داعش الارهابي.

على الرغم من توخي طهران الحذر عموماً، لا تزال تميل أحياناً إلى اعتماد سلوك عالي المخاطر – يشمل تفجير ثكنات ‏قوات البحرية الأمريكية [الـ “مارينز”] في بيروت عام 1983 (الذي قامت بتسهيله)، ولهذا السبب، دائماً ما تنطوي ‏التفاعلات مع إيران درجة من عدم القدرة على التنبؤ. وعندما ترى أنها قادرة على بسط سيطرتها (كما يبدو عليه الحال ‏حالياً بفضل النجاحات التي حققتها في سوريا)، تميل إلى الاستفادة القصوى من ميزاتها – وربما إلى التمادي. ‏

بؤرة الصراع السوري

إن تدخل إيران في سوريا أمر غير مسبوق؛ فلم يسبق لطهران أن أرسلت مثل هذه الأعداد الكبيرة من القوات لدعم العمليات ‏القتالية خارج حدودها. ومع ذلك، كان أداؤها متّسقاً مع بعض المبادئ الثابتة، وعلى وجه التحديد: تجنبت بشكل عام ‏المخاطر الكبيرة، حتى حين بدا أن التطورات تعرّض مصالحها الأساسية للخطر. وبالتالي، لم تلتزم إيران بتاتاً بأكثر من ‏الحد الأدنى من القوة اللازمة لإبقاء سيطرة الجيش السوري على المناطق الحساسة وضمان ثبات الموقف العسكري لدمشق ‏‏. فقد كان عدد رجالها في سوريا يناهز 700 جندي قبل الزيادة الطفيفة في أواخر عام 2015 – عندما أصبح عدد القوات ‏يقارب الثلاثة آلاف جندي – لتعود وتسحب معظمهم بعد ذلك بوقت قصير عقب تكبدها خسائر ملحوظة. ويُعتقد أن عددهم ‏يبلغ حالياً حوالي 1500 جندي، أي نسبة 1 في المائة من قواتها البرية. (في المقابل، نشرت الولايات المتحدة نحو ثلث ‏قواتها البرية خلال زيادة عدد جنودها في العراق بين العاميْن 2007 و2009).    ‏
حاولت إيران تقليص خسائرها الخاصة في سوريا من خلال القتال حتى آخر وكيل شيعي غير إيراني، حتى عندما كان ‏بإمكان قواتها الخاصة أن تكون أكثر فعالية. وعندما تَحوّل تيار الحرب في عام 2015 إلى شكل يهدد دمشق، عمدت طهران ‏إلى إقناع موسكو بالتدخل، حيث حثّت فعلياً روسيا باعتبارها “وكيل من القوى العظمى”. ومع ذلك، فحتى لو كان صناع ‏القرار في طهران يعزفون عن المخاطرة من الناحية الاستراتيجية، كان الجنود الإيرانيون على الأرض يقبلون بالمجازفة ‏من الناحية التكتيكية. يُذكر أنه استشهد للجمهورية الإسلامية ما يقرب من 500 عسكري في أكثر من خمس سنوات من ‏القتال في سوريا – رغم أن هذه الخسائر لا تقارن نسبةً لما تكبدته ميلشياتها الوكيلة، والتي تتضمن، وفق الخبير علي ‏آلفونه، 1900 عراقي ونحو 1100 عنصر من «حزب الله» اللبناني ، وحوالي 700 أفغاني وما يقارب من 150 ‏باكستانياً.    ‏

على الرغم من اتّباع طهران سياسة إقليمية أكثر حزماً، إلّا أنّ تعاملها مع المواجهات الأخيرة في سوريا يعكس حذراً ‏إيرانياً تقليدياً. ونتيجة لذلك، اعتمدت إيران على وكلائها من الميليشيات الشيعية لمواجهة المتمردين وقوات التحالف في ‏التنف. وما أن تم استهداف هذه القوات من قبل الطيران الأمريكي، عمدت طهران إلى سحبها واستخدمت الطائرات المسلحة ‏بدون طيار للاستمرار في ممارسة الضغط. وفي نهاية المطاف، قررت الالتفاف حول الجيوب التي يسيطر عليها ‏المتمردون والتحالف لتجنبهم . وخلال تصعيدها ضد المصالح الأمريكية في سوريا، خاطرت إيران بأصول يمكن الاستغناء ‏عنها فقط. وقد أدّى الميل الأمريكي إلى الاستجابة بشكل نسبي، ومتوقّع بعض الشيء، إلى تمكين إيران من اختبار الحدود ‏الأمريكية دون تعرّضها لمخاطر كبيرة.       ‏

ما هي الاستنتاجات التي خلص اليها  مدير برنامج الدراسات العسكرية والأمنية في واشنطن؟‏

طالما لا تزال القوات الإيرانية فعّالة في سوريا وتشجع وكلاءها على استهداف قوات المسلحين المتمردين ومستشاريهم في ‏التحالف، فلابدّ من وجود درجة من الاحتكاك والمواجهة. غير أنه لعقود من الزمن، تجنّبت الولايات المتحدة وإيران ‏صراعاً مفتوحاً، بإظهارهما أن احتمال التصعيد قد يكون مبالغاً فيه – حتى وإن لم يكن هناك ما يدعو إلى الشعور ‏بالاطمئنان. ولزيادة الحد من احتمال التصعيد، يجب على الولايات المتحدة أن تتخذ عدداً من الخطوات للتأثير على طهران ‏‏- وكذلك على دمشق – وتجنّب نزاع أوسع نطاقاً مع أي منهما: ‏

أولاً…..يجب على الولايات المتحدة وقف الرسائل المتباينة التي قد تدفع بسوريا أو إيران إلى إساءة التقدير. وقد أعلنت إدارة ‏ترامب بأنها لا تسعى إلى رحيل الأسد ولا تعارض العمليات العسكرية التي تمكّن النظام من استعادة السيطرة على جزء ‏كبير من سوريا. ومع ذلك، هدّدت واشنطن بالقيام بعمل عسكري إذا استأنفت دمشق الهجمات الكيميائية التي تعزّز مثل هذه ‏العمليات، كما عارضت الأنشطة الإيرانية التي، من وجهة نظر طهران، تدعم هذين الهدفين. ويشجع مثل هذا الغموض ‏نوع الاختبار الذي قد يؤدي إلى مزيد من المواجهات مع الجيش السوري وداعميه الإيرانيين. ‏

ثانياً….. يتوجّب على الولايات المتحدة أن تسعى للحصول على دعم دولي واسع النطاق لخطوطها الحمراء في سوريا. ومن ‏ناحية إيران، فقد يكون تحدّيها للمصالح الأمريكية أقل احتمالاً إذا كان ذلك قد يساهم في نفور جهات فاعلة أساسية في ‏أوروبا وآسيا والتي كان الرئيس الإيراني حسن روحاني يحاول استمالتها. وينبغي أن تواصل واشنطن إشراك موسكو ‏كجزء من جهودها الرامية لتطبيق عمليات “تجنب المواجهة” والتأثير على سوريا وإيران من أجل تجنّب نزاع أوسع نطاقاً ‏مع روسيا وشركائها.‏

ثالثا…… لا بدّ من إيلاء أهمية متواصلة للخطوط الحمراء لكي لا يتمّ التشكيك في تركيز الولايات المتحدة والتزامها. وعند ‏اختبارها من قبل طهران ودمشق، يجب على واشنطن أن تردّ بحزم، لئلا يؤدي التقاعس إلى مزيد من التحديات وخطأ ‏محتمل في الحسابات.‏

رابعاً……. إن الردود الأمريكية التي يمكن التنبؤ بها تجعل من السهل على طهران ودمشق معايرة المخاطر وتقليص تكاليف ‏اختبار الحدود الأمريكية. ولذلك ينبغي أن تكون الردود الأمريكية غير متوقّعة، ويجب أن تستهدف أصولاً ذات قيمة حقاً ‏بالنسبة إلى طهران ودمشق كي يكتنف الغموض حساباتهما الخاصة بالتكلفة والمنافع وانتزاع ثمن غير مقبول لقاء ‏خياراتهما السياسية. ‏

خامساً…..تمثل الطريقة الأفضل لمواجهة إستراتيجية الوكالة التي تنتهجها إيران في سوريا في اعتماد إستراتيجية أمريكية ‏بالوكالة تنطوي على برنامج متجدد لتدريب المسلحين  المتمردين السوريين غير الإسلاميين وتجهيزهم. وهذا من شأنه أن ‏يمكّن الولايات المتحدة من الضغط على طهران ودمشق بوسائل غير مباشرة. وسيكون الهدف من ذلك إيقاع القوات ‏الموالية لدمشق في تمرّد على مستوى منخفض في المناطق التي تسيطر عليها حالياً؛ وعرقلة الهجمات الجديدة ضد المناطق ‏الخاضعة لسيطرة المتمردين في الشرق، أوالجنوب، أو محافظة إدلب وفي الوقت نفسه تقليص احتمال إثارة إيران للمشاكل ‏في أماكن أخرى في المنطقة؛ وكذلك تقويض المساعي الإيرانية الرامية إلى بناء جسر بري يصلها إلى البحر ‏المتوسط.‏

سادساً…… ينبغي أن تنظر واشنطن في اتخاذ تدابير مكلّفة ضد إيران في أماكن أخرى في المنطقة، مثل اليمن، من أجل جعل ‏تدخلها هناك أكثر تكلفة، وممارسة ضغوط أكبر على قواتها المرهقة. وقد يقلل ذلك من استعداد طهران لتحدّي المصالح ‏الأمريكية في سوريا. ‏

سابعا……..وأخيراً، على الولايات المتحدة تعزيز التنسيق السياسي مع حلفائها العرب الخليجيين لمنع اتخاذ خطوات أحادية الجانب ضد ‏إيران وحلفائها التي يمكن أن تخل بديناميات التصعيد الأمريكية-الإيرانية في اليمن أو سوريا أو في أي مكان آخر. وبالفعل، ‏تشير مساعي الحوثيين في تشرين الأول/أكتوبر 2016 لاستهداف السفن الحربية الأمريكية باستخدام صواريخ مضادة ‏للسفن على الشاطئ إلى أن ذلك قد يكون قد حدث بالفعل. وبالتالي، فمن مصلحة الولايات المتحدة منع تكرار ذلك.‏
نقلاً عن سيريا-إن (شبكة آرام الاخبارية)