المخابرات السورية تُحلّق في خداع تركيا. د. جميل م. شاهين




الكاتب: الدكتور جميل م. شاهين

سياسة “فقع المثانة” هي التي تتميّز بها السياسة السورية منذ أوائل السبعينات، والتي أسسها وبرع فيها الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وباعتراف كبار الساسة في واشنطن… وقصة القهوة المُرة معروفة والتي ذكرها جيمس بيكر وزير الخارجية في مذكراته 1999. وتتجلى في الصمت والعمل وراء الكواليس بعيداً عن الضجة الإعلامية، وترك العدو يتخبط منتظراً فيما يرمي إليه هذا الصمت، وماذا بعده؟ فيظنّ العاطفيون أنّ ما يجري هو خطأ أو حتى غباء، ليكتشفوا لاحقاً أنهم على الأقل كانوا متسرعين بحكمهم، أما الأعداء الصغار فيصفون القيادة السورية بالجبن، أو بالبيع والصفقات، لكنهم يدركون لاحقاً أنهم هم الصفقة التي تلهو بها كافة الدول. قلنا ذلك عن “حشر” آلاف المسلحين في إدلب، وكانت النتيجة لصالح سوريا، وها هي الفصائل تتقاتل بوحشية فيما بينها، بينما الجيش السوري يتفرج، بل ويستمتع.

إدلب هي أذكى خطّة للمخابرات السورية. د. جميل م. شاهين

الأمر ذاته حصل مع تركيا، عندما تدخلت في الشمال السوري، لنقل “عِظام” سليمان شاه في شباط 2015، وبعدها دخول الجيش التركي لمساندة عصابات “درع الفرات”، هنا هبّ أبطال “الفيس بوك” من كافة الألوان والأحجام، ليتحدثوا عن انتهاك السيادة الوطنية وحرمة الأراضي السورية، الآن وبعد مرور سنة على التدخل التركي العسكري، ما هو الوضع هناك، بل ما هو وضع تركيا بشكل عام؟

لعبة الشمال السوري

التدخل التركي جاء لعدة أسباب وأهداف تخصّ أنقرة، أهمها: محاربة الأكراد ومنع إقامة كيان متصل لهم في شمال سوريا، ونتيجة أطماع عثمانية باقتطاع أجزاء من سوريا وضمها لتركيا على مبدأ لواء اسكندرون، وأخيراً محاولة تغيير القيادة السورية بقيادة إخونجية تابعة لها، توقف الهلال الشيعي المفترض، فماذا حققت تركيا من هذه الأهداف؟

لعبة الشمال السوري من أخطر الألعاب، والخوض فيها يحتاج للسير بين نقاط المطر، وهذا ما برعت به القيادة السورية. لا نقول هنا أنّ التدخل التركي جاء بعد موافقة دمشق، كي لا نبالغ بالوصف، بل جاء بموافقة موسكو أولاً، لكن الأهم “جاء بإيحاء من دمشق”، والإيحاء هو فنّ استخباراتي بحد ذاته…

لقد سعت دمشق لجرّ أنقرة إلى “بحر رمال الشمال السوري”، ونجحت بجدارة. وهذا كان مدار نقاش بين مركز فيريل للدراسات وعدة خبراء في السياسة الألمان هنا في برلين، وكانت النتيجة:

“حتى اللحظة، تركيا هي كلب صيد عند دمشق، تنفذ مخططاتها دون أن تدري، وهذه قمة البراعة في أن يعمل عدوّك لصالحك، والبراعة الأكبر أن تضرب أعداءك ببعضهم، تماماً كما فعلت في إدلب، والقادم أخطر مع الانفصاليين.”.

القادم أخطر مع الانفصاليين، هذا ما أكده لنا قوميون يمنيّون أتراك هنا في برلين، والذين شعرتُ وأنا اتحدث معهم عن رغبة الانفصاليين بتشكيل كيان شبه مستقل شمال سوريا، بأنّ أردوغان هو ملاكٌ رحيم أمام هؤلاء الأتراك القوميين، والذين أكدوا لي أنّ سحق الأكراد سيكون شغلهم الشاغل، وإن تراخى أردوغان في ذلك سوف يتهمونه بخيانة أتاتورك، ويثورون عليه.

بإيحاء استخباراتي، شعرت أنقرة أنّ دمشق قد توافق على فيدرالية كردية، هنا ثارت ثائرة السلطان المريض، فتدخل لضرب الأكراد. ضربُ الأكراد الانفصاليين مباشرة من قبل الجيش السوري هو هدف صعب المنال، كون واشنطن تقف وراءهم وتدعمهم، إذاً فلنجعل عضو الناتو تركيا يضربهم، وهو ما حصل ويحصل. لكن كي لا نغرق بالتفاؤل نكرر: “لعبة الشمال السوري خطيرة جداً”.

فوائد التدخل التركي في الشمال السوري

أجمل لكم الأهداف القريبة والمتوسطة من التدخل التركي وفوائدها لسوريا، لافتاً النظر أنّ المجريات على الأرض تتغيّر، فما هو ضرر الآن قد يصبح فائدة أو العكس:

  • محاربة الأتراك للأكراد الانفصاليين، ومنع إقامة كيان مستقل لهم، أي ضرب رأس الأفعى بيد عدوك، بما في ذلك المسلحين من “درع الفرات، الذين أصبح الأكراد أعداءهم بالدرجة الأولى. وأردوغان يجد نفسه الآن على شفير حرب تمتد من المالكية إلى عفرين، وهذا سينعكس على الداخل التركي بانتقام كردي وتفجيرات، عدا عن احتمال تحرك أكراد تركيا بصورة أكبر وأعنف.
  • ضرب الأكراد الانفصاليين ببعضهم، البداية كانت البارحة باشتباكات بين عصابات البيشمركا ومقاتلي حزب العمال الكردستاني، والسبب تنافر التحالفات بين مدعومين من تركيا وأعداء لها، أي أنّ الأكراد أنفسهم غير متفقين!

هذا هو ما يفكر فيه الغرب حول أردوغان وداعش والأكراد، الصورة:

  • تشويه صورة تركيا أكثر مما هي عليه الآن أمام العالم الغربي، كونها تقتل الأكراد الأبرياء، واحراجها أمام الناتو، وهو ما نراه الآن هنا في ألمانيا خاصة بعد سجن تركيا للصحفي الألماني من أصل كردي Deniz Yücel  الذي يعمل لصحيفة Welt الألمانية، وما تلاه من منع مهرجان تأييدي لتعديلات الدستور ومنح صلاحيات واسعة لأردوغان في مدينة غاغنو الألمانية، مما دفع وزير العدل التركي بكر بوزداغ إلى العدول عن زيارة ألمانيا، الخطوة التركية جاءت رداً على سماح السلطات الألمانية لعدة زعماء أكراد بالتحدث إلى مؤيديهم عبر الإعلام، ولتأييد برلين لإقامة كيان فيدرالي حتى في قلب تركيا، وهذا سبب جنون القيادة التركية.
  • إرباك تركيا بضربها للأكراد المدعومين من الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يحصل كل يوم، لكنه قد يتطور فجأة نتيجة خطأ عسكري، فتأتي ضربة ما للجيش الأميركي أو للتركي، وهنا ستكون النقطة الفاصلة.
  • ضرب داعش وجبهة النصرة عن طريق الجيش التركي وأتباعه من مسلحي درع الفرات.
  • إجبار تركيا على إغلاق حدودها بوجه الإرهابيين في الاتجاهين، وهو ما رفضته لست سنوات، حتى بطلب من موسكو.
  • إضعاف الاقتصاد التركي أكثر بزيادة تكاليف تدخل جيشها في سوريا، ونقدرها بـ 3,5 مليون دولار يومياً، أي أنّ الاقتصاد التركي تكبد حتى الآن قرابة مليار دولار منذ آب 2016، فقط للأعمال العسكرية. بينما يتضاعف الرقم بسبب تراجع السياحة وهروب رؤوس الأموال الأجنبية، نتيجة الخلل الأمني والتفجيرات الناتجة عن تدخل تركيا في سوريا، سواء من الإسلاميين المتطرفين الذين دعمتهم أنقرة، أو من حزب العمال الكردستاني.
  • اتساع رقعة الخلاف بين قيادة الجيش التركي وقيادته السياسية. هذا ما علمناه من برلين؛ رقعة الخلاف بدأت تتسع حتى بين القيادات الجديدة وأردوغان بسبب خسائر الجيش التركي، ومعلومات مركز فيريل للدراسات تؤكد سقوط أكثر من 650 جندياً تركياً في سوريا منذ تدخله، بينهم 127 سقطوا على أبواب مدينة الباب السورية، ففي شهر كانون الأول لوحده لقي 16 جندي تركي مصرعهم، رغم كافة الأرقام التي يكذب فيها الإعلام التركي.
  • كشف قوة الجيش التركي وفضح أسطورته، فإذا كان تحرير مدينة الباب يحتاج لتسعة أشهر، فما هذا الجيش “العرمرم”!!
  • طالما أن الأتراك يُشاغلون داعش والنصرة والانفصاليين، إذاً يمكن للجيش السوري أن يُركز قواته ليحرر مناطق أخرى، وكأن الجيش التركي “يُساعدهُ”.

 

سوريا الوسيط بين الأكراد وتركيا

حدث هذا الأمر أسرع من المتوقع، فالانفصاليون صاحبو الأحلام العريضة، والذي أتحفونا بأحلام صهيونية بدولة من شمال إيران إلى الجولان!! والذين تطاولوا على الدولة السورية، ويتخذون من زعيم مافيا كردستان العراق المدعو “مسعود البرزاني” قدوة لهم! هم اليوم تحت حماية الجيش السوري في مدينة منبج، نعم الجيش السوري يحمي الوحدات الكردية في مدينة منبج، والتي “استغاثت” وبكل ما لكلمة “استغاثة” من معنىً بالجيش السوري، لوقف زحف الجيش التركي على هذه المدينة، ما نتمناه أن تحفظ هذه الوحدات العهد وتتعلّم معنى الوفاء لسوريا…

تطاول زعماء الأكراد على سوريا، وتطاولت معهم عصاباتهم في الجزيرة السورية وقصفت الجيش السوري في مدينة الحسكة، بل تواقح كثيرون منهم عندما قال أحد الخونة:

لنا الفخر أن تكونَ الولايات المتحدة الأميركية هي حليفنا في مواجهة الدولة السورية”.

أين هذا الوقح الآن؟ وأين هي واشنطن كي تحميكَ وعصاباتك من أردوغان، لماذا توسلتم الجيش السوري وبخنوع لدخول منبج؟!. لم يتعلّم الانفصاليون الدرس ولن يتعلموا، أنّ ثمنهم لا يساوي زجاجة كوكا كولا في سوق الإدارة الأميركية. للعاقلين منهم إن وجدوا أقول:

عندما تضربُ تركيا الأكراد الانفصاليين: العراق سيتفرج ويبتسم، إيران ستفرح وربما تدعم تركيا، روسيا ستهزّ برأسها أسفاً، الولايات المتحدة ستدين وتنصح بالتهدئة، الاتحاد الأوروبي سيصبح كالجامعة العربية: اجتماع عاجل ثم شجب واستنكار وإدانة وصمت.

وحدها سوريا ستحميكم وتدافع عنكم لأنكم أولاً وأخيراً سوريون وسوريون فقط، ولكم الفخر إن كنتم تعلمون. وسيأتي اليوم الذي نسمعُ فيه الفضائيات الإخبارية العالمية تقول:

“بناء على قرار مجلس الأمن، وطلب موسكو وواشنطن؛ قبلت سوريا أن تتوسط بين الأكراد الانفصاليين وأنقرة، لفض الاشتباك وإيقاف شلالات الدماء، ودعوة المتحاربين إلى طاولة التفاوض في دمشق.”…

الكاتب: الدكتور جميل م. شاهين

فكرة زيد م. هاشم

مركز فيريل للدراسات ـ برلين 04.03.2017