صلاح الدين الأيوبي

 حين نقرأ اسم شخصية تاريخية أو حدث تاريخي، يتجه الكثير لتصنيفه ضمن خَيارين؛ التقديس أو الشيطنة وهو ما يدفعنا للوقوع في كثير من المغالطات في كيفية تناول القضايا التاريخية.

ضمن هذين الخيارين نجدُ أنّ اسم صلاح الدين الايوبي من أكثر هذه الشخصيات جدلاً في الآونة الاخيرة، وهو ما يتطلب قراءة أمينة لهذه الشخصية، التي سوف نلقي الضوء على أهم ست نقاط مثيرة للجدل تتعلق بها.

نلفتُ انتباهَ القراء لأمرين؛ الأول: التالي هو عرض مختصر مُبسط نقدمهُ كما وردنا من الكاتب الأستاذ سهيل لاوند، أستاذ التاريخ القديم وتاريخ الفكر الديني في روسيا.

الأمر الثاني: لدينا بحثٌ حول نفس الموضوع بشكل أوسع، وتفاصيل تحملُ التأويل والجدل، قد ننشرهُ لاحقاً.

نتمنى قراءة ما سيرد بحيادية دون تشنج وتجنب أية عبارة مُسيئة.  

صلاح الدين من وجهة نظر الأوروبيين وأصحاب الديانات الأخرى غير الإسلامية

 يمدح معظم هؤلاء صلاح الدين في كتاباتهم عنه ويتغنون بخصاله الحميدة، ويقدرونه لتسامحه معهم في حقبة حكمه. وهذا ما جسده الإمبراطور الألماني غليوم الثاني عند مجيئه لدمشق سنة 1898، ففي ضريح صلاح الدين بدمشق حاليا قبران، أحدهما خشبيٌّ متواضع مدفون فيه جثمانه والآخر من الرخام الفاخر لكنه فارغ، أهداه الامبراطور ليوضع فيه صلاح الدين تكريماً له.

قصة الجنرال الفرنسي غورو بأنه وقف امام قبر صلاح وقال: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”، فهي رواية شعبية ليس لها أي أساس تاريخي.

 




على المستوى الحضاري

قام صلاح الدين الأيوبي بالتخلص نهائياً من مكتبة القاهرة الضخمة ومن مخطوطاتها النفيسة. كما قام بتدمير 18 هرماً صغيراً ليستعمل حجارتها في بناء قلعته و سورها. حاول فيما بعد مع أسرته والمماليك الذي حكموا من بعده، هدم الهرم الأكبر “خوفو” و الهرم الأوسط “خف رع” (وكان الهرم الثالث “منكو رع” مدفوناً آنذاك تحت الرمال فلم يروه)، وبذلوا مجهوداً جباراً لإتمام هذا، لكنهم فشلوا لضخامة البناء وتماسُك الأحجار.

 

علاقته مع الصليبيين

انتصر في معركة حطين على الصليبيين بقيادة “غي” عام 1187م، واستثمر هذا الانتصار بسيطرته على بعض المواقع والمدن على الساحل السوري. كما دخل القدس صلحاً بعد حوالي الثلاث أشهر من تلك المعركة، فغادرها على الفور المسيحيون الأوروبيون اللاتين، وبقي المسيحيون من المذهب الأرثوذكسي في المدينة. على إثر ذلك جهز الصليبيون لحملة صليبية ثالثة، لكنها فشلت أيضا في تحقيق هدفها الأساسي والمتمثل بالسيطرة على بيت المقدس وذلك رغم انتصار ريتشارد قلب الأسد على صلاح الدين في معركة “أرسوف” عام 1191م.

في العام التالي عقد صلح الرملة و اتفق الطرفان أن يكون الساحل من يافا حتى صور بيد الصليبيين، بما فيها قيسارية و حيفا و أرسوف. بينما بقيت القدس للأيوبين مع إعطاء الأوروبيين حرية القدوم للمدينة وممارسة شعائهرهم الدينية وأعمالهم التجارية أيضاً، دون فرض الضرائب عليهم. لم يسيطر الصليبيون على المدينة إلا عندما منحها ابن أخ صلاح الدين “الكامل” كهدية لفريدريك الثاني بموجب اتفاقية يافا سنة 1229م.

رغم المنافسة العسكرية الشرسة بين صلاح وريتشارد إلا أن العلاقة الشخصية بين الطرفين كانت ودية، فعلى سبيل المثال قُتِلَ حصان ريتشارد في معركة أرسوف بسهم، فحزن عليه ريتشارد جداً، عندئذٍ أرسل له صلاح الدين بحصان عربي أصيل. أيضاً؛ ريتشارد اشتهى الإجاص والخوخ فأرسل يطلبها من صلاح الدين، الذي لم يتأخّر عن تلبية هذا الطلب وبعثها له مثلجة بالثلج الذي كان المسلمون يجلبونه من أعالي جبال لبنان ويحفظونه من الذوبان بإحاطته بالملح الخشن. كما اتفق ريتشارد و صلاح في عام معركة أرسوف نفسه عام على تزويج أخت الأول بأخ الآخر، وكاد الأمر يتم لولا أن العروس رفضت في اللحظات الأخيرة بضغط من رجال الدين.

 

في مصر وبلاد الشام

 كان صلاح الدين وزيراً لدى الخليفة الفاطمي العاضد، لكنه انقلب عليه وقطع الخطبة له وأقامها للخليفة “العباسي” المستضيئ. وقد نكل ببعض الشخصيات النافذة من الأرمن و النوبيين. كذلك فعل بالشيعة الذي عزل قضاتهم. اضطهد أيضاً بعض الاتجاهات السنية التي لم تكن على مذهبه الأشعري، أو لم تكن “قادرية” كما كان فى بعض فتراته، ومنهم الفقيه والمُحدّث والأديب عمارة اليمني، الذى قتله وصلبه على باب بيته. كما قطع نسل الخليفة الفاطمي وأسرته بأن فرّق الرجال عن النساء، و سلّط عليهم معاونه المريع “قراقوش” حتى اختفى الفاطميون من مصر. لكن لم يختفِ التأثير السلبي لهذه الشخصية في ذاكرة المصريين وسكان بلاد الشام، حيث بقوا يستعملون ليومنا هذا عبارة “حكم قراقوش” للتعبير عن حاكم مستبد أو ظالم، وأغلب الظن أنه من كلمة “قراقوش” هذه استوحيت شخصية آراغوز (الدمية) في مصر وكراكوز وعيواظ في سوريا.

يذكر المقريزي في كتابه “خطط المقريزي” أن السلطان صلاح الدين استولى على ما بالجامع الأزهر من فضة قدر ثمنها بـ5 آلاف درهم، ثم استولى على كل ما وقعت عليه يداه من فضة في بقية المساجد وبقي المسجد الأزهر معطلاً لا تقام فيه صلاة الجمعة مائة عام. من جهة أخرى؛ ذهب صلاح الدين على رأس جيش قوامه سبعمائة فارس إلى دمشق واستمال بعض قواد السلطان نور الدين الزنكي، وحارب بعضهم الآخر وقتلهم شر قتل (وهم مسلمون سُنة) واستولى على الحكم وتزوج أرملة السلطان عصمة خاتون، وحارب ابنه الذي تحصن بالعاصمة الثانية للسلطنة حلب، ومثلما مات السلطان نور الدين فجأة قبل خلعه لصلاح الدين (بيوم واحد فقط)، مات الخليفة الفاطمي الأخير العاضد لدين الله فجأة، وهو شاب، بعد أن جرده صلاح الدين من ممتلكاته، ومات ابن السلطان نور الدين فجأة، وهو صبي، فاستولى صلاح الدين على حلب.

يشترك عدد كبير من المصادر التاريخية بذكر قتل صلاح الدين لعدد كبير من سكان حلب بمن فيهم الأخ الأصغر لهُ “تاج الملوك”.




في حادثة أخرى منفصلة أمر صلاح الدين بقتل الفيلسوف الصوفي الحلبي شهاب الدين السهروردي، وبسبب أهمية ومكانة هذا العالم الجليل، يعتبر البعض أنّ كل ما فعله صلاح الدين بكفه وقتله لهذا العالم الجليل الذي يقدره الحلبيّون بكفة ثانية. له ضريح في حلب ومسجد باسمه في أول جادة الخندق.

 

مع اليهود

كان صلاح الدين حنونا ورقيقا مع اليهود بشكل مبالغ فيه، لدرجة أن طبيبه الخاص كان موسى بن ميمون، الذى يراه بعض اليهود أهم يهودي بعد النبي موسى، فقد كان له دور أساسيّ فى تمتع اليهود بمكاسب كبيرة فى فترة حكم صلاح الدين، سواء فى مصر أو الشام أو القدس، فقد أصدر السلطان مرسوماً يمنح اليهود حق الإقامة والتملك فيها وابتناء كُنُسٍ ومدارس لهم هناك، في حين كان المسيحيون أنفسهم يمنعون هذا خلال سيطرتهم على المدينة.

 

صلاح الدين من وجهة نظر العالم العربي والإسلامي

بسبب تآمر صلاح الدين و قتله لمسلمين مختلفين عنه مذهبيا أو سياسياً، نلاحظ أن هناك بعضا من المذاهب الدينية الإسلامية والتيارات السياسية تصل بالأمر لتكفيره واعتباره من أسوأ شياطين التاريخ، ويعتبرونه سفاحا ومجرم حرب وشخصا ملعوناً. (وهذا أمر مرفوض ويتجاوز الأدب).

بالمقابل هناك مذاهب إسلامية و تيارات سياسية معاصرة، تعتبره ملاكاً وبطلا قوميا مغوارا لم يسبقه أو يدانيه شخص، (وهذا الرأي مرفوض كسابقه تماما).

عموماً؛ تم الربط بين شخصية الناصر صلاح وشخصية عبد الناصر بشكل غير مباشر كبطلين قوميين، ويؤكد هذا بعض الكتاب والمفكرين المصريين كما يؤكده الممثل أحمد مظهر بنفسه وهو الذي جسد شخصية صلاح الدين في الفيلم المصري الذي عرض عام 1963 بقوله خلال حوار أجراه معه الصحفي أحمد عفيفي”، أنه أحسّ بمبالغة كبيرة في تناول الفيلم لشخصية صلاح الدين الأيوبي كما كتبها الأديب يوسف السباعي، وأنه كان يشعر في قرارة نفسه أن الفيلم لا يتحدث عن بطل عربي قديم ولكن: (“بنرمي” على عبد الناصر ومطلعينه السما. يعني كنت حاسس إنه فيلم مطبوخ وأنا مجرد أداة في أيد المخرج). يضيف أنه كان يشعر بأن صلاح الدين لم يكن بكل تلك العظمة: “كنت حاسس إننا بنطبل لعبد الناصر؛ وأنا طول عمري مابحبش أطبل لحد؛ ولا أكون طبلة في إيد حد عشان الرقاصة تهز وسطها والكل تحت رجلها بيصفق).

 

 

ختاماً

رغم وضوح تاريخ شخصية صلاح الدين بحسب ما أوردتها المصادر التاريخية إلا أن المثقفين والمؤرخين وأتباع التيارات السياسية والدينية والمذهبية، مازالوا مختلفين فيما بينهم في تقييم هذه الشخصية. فهو في نظر البعض قاتلا، ومغتصب سلطة، وصديقاً للأعداء وعدواً للأصدقاء، وهو العكس في نظر البعض الآخر.

صلاح الدين هو في التاريخ؛ سياسي وقائد عسكري وحاكم وحسب، ليس شيطاناً ولا ملاكاً، ليس حقيراً ولا مقدسا، فلا تقدسوه ولا ترفعوه لمصاف الآلهة، كي لا يُنزله ناقدوه لمنازل الشياطين. الأستاذ سهيل لاوند، أخصائي التاريخ القديم وتاريخ الفكر الديني، روسيا. تقديم الصحفي وسام عبد الله.

المراجع:

تقي الدين المقريزي: “المواعظ و الاعتبار بذكر الخُطط و الآثار” الكتاب المعروف بخُطط المقريزي

الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن قايماز ، المُلقّب بالذهبي “سِيَر أعلام النبلاء”

ابن الأثير (2008). الكامل في التاريخ

حسن الأمين “صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين” وهو الكتاب الذي اعتمد فيه على كتاب «الفتح القسي في الفتح القدسي»، للعماد الأصفهاني، أحد المُشاركين في «جماعة الإعلام» الذي كان يصطحبهم صلاح الدين في تنقلاته ليُذيعوا على الناس أخباره، و كل ما يخص شؤون الحكم.
الدكتور أيمن فؤاد سيد “التطور العمراني لمدينة القاهرة منذ نشأتها وحتى الآن”.