ماويا، الملكة والمقاتلة السورية العربية. الدكتور جميل م. شاهين.

عدد القراءات 192703. بحث تاريخي من مركز فيريل للدراسات. الدكتور جميل م. شاهين. 

هناك أمران أساسيان قبل البدء بقراءة البحث:

أولاً: وصفُ شعب كامل له تاريخٌ طويل، بالجهل، هو الجهل بعينهِ، كما أنّ استخدام تعبير”العصر الجاهلي” لحال العرب قبل الإسلام، هو تزوير وتشويهٌ للتاريخ مهما كان سببُ هذا الاستخدام.

كانَ العربُ، وبحيادية تامة، أصحابَ حضارة وقوة وممالك، وصلوا بها إلى حدود فارس ومصر وآسيا الوسطى، وانتصروا على أقوى الإمبراطوريات آنذاك، هذا قبلَ الإسلام. نحنُ في مركز فيريل للدراسات نبتعدُ عن المغالاة والانقياد حسب أهواء الأطراف، فهذا يصفُ العربَ بالجهالة، وذاك يضعهم موضع الآلهة، الإثنان في حقيقة الأمر، جاهلان.

ثانياً: لا نؤمنُ في مركز فيريل للدراسات بوجود رابطٍ بين العرب والإسلام أو العروبة والإسلام، الأمران بالنسبة لنا منفصلان تماماً، فهناك عربٌ من كافة الأديان والاعتقادات، نحترمُ تلكَ الأديان جميعها مهما كانت.

نستعرض لكم اليوم سيرة حياة واحدة من أجمل ملكات الأرض وأكثرهن شجاعةً وبأساً، إنها الملكة العربية السورية ماويا.

نلفت نظركم بأننا نستخدمُ في مركز فيريل للدراسات اسم “سوريا” للدلالة على سوريا الكبرى Great Syria، وهو ما تسخدمهُ المراجع الأجنبية للتفريق عن سوريا الحالية Modern Syria.

مَن هم التنوخيّون أجداد ماويا؟

التنوخيون أو تنوخ  Tanûkhids أوTanukh  باليونانية Σαρακηνός ساراكينوس،  قبائل عربية قطنت جنوب سوريا، من البحر الميت حتى الأنبار، وشمال الجزيرة العربية، منذ سنة 50 للميلاد. أول ملوكهم كان مالك بن فهم حكم سنة 196 للميلاد. يرجعهم المؤرخون إلى أجدادهم الأنباط الذين حكموا النقب وسيناء والبحر الميت والأردن (البتراء) 169 ق.م – 106 م.

أسس التنوخيّون أقوى مملكتين عربيتين آنذاك هما:

مملكة المناذرة

في الحيرة جنوب العراق، 266 حتى 618 للميلاد

تنوخيون من قبيلة لخم، مسيحيون نسطوريون، أول ملوكها جذيمة بن مالك بن فهم (جذيمة الأبرش) حكم عام 233 للميلاد. أسسوا مملكة وحضارة عريقة، وتمّ عالمياً اعتماد فن عمارة مستقل باسم “فن البناء الحيري“، نسبة لعاصمتهم الحيرة مدينة العلم والمعرفة والأدب والصناعة، فيها عشرات المعاهد والمدارس ومعامل النسيج والدباغة والآلات الموسيقية. ضمت الحيرة وحدها 40 كنيسة وديراً وضمنها كانت المدارس والمعاهد تلك.

مملكة الغساسنة في حوران

منذ 220 حتى 638 للميلاد، وهم أيضاً تنوخيون من قبيلة أزد، مسيحيون سريان أرثوذكس، أول ملوكهم جفنة بن عمرو. أسسوا حضارة عريقة ومملكة كبيرة، من آثارهم:

صهاريج المياه في الرصافة 

دار الضيافة خارج سور الرصافة

كاتدرائية الرصافة (الرقة)

مبنى الغساسنة في قلعة عمّان (الأردن)

قلعة القسطل (غرب القدس)

قصر برقع (المفرق، الأردن)

كنيسة مأدبا (الأردن)

دير البرج في قصر الحير الغربي (تدمر)

كنيسة الرفيد (الجولان)

كنيسة بريقة (الجولان)

كنيسة كفر ناسج (الجولان)

كنيسة كفر شمس (حوران)

كنيسة القديس سرجيوس في النتل (الأردن)

تحدّث التنوخيون بالعربية، واستخدموا الأبجدية النبطية من 22 حرفاً، وهي فرع من الأبجدية الآرامية.

عُرفَ عن التنوخيين الاعتزاز بالكرامة وحملوا نفوساً أبيّة، وهذا تمثّل بجدهم الملك الأول مالك بن فهم، الذي لمّ شمل العرب وأسس أول مملكة جنوب العراق، ليأتي أبناؤه وأحفاده من بعده، فيبسطوا من بعده سلطانهم ويتوسعوا في الاتجاهات الأربع، فكانت منهم الملكة ماويا.

مَن هي ماويا التنوخية؟

وُلدت الملكة Mavia أو Mawiya ماويا حوالي 345 للميلاد جنوب سوريا (الأردن)، من قبيلة تنوخ العربية. توفيت عام 425 للميلاد في مدينة خناصر Anasartha جنوب حلب. كانت تُدينُ بالمسيحية الأرثوذكسية. تزوجت من الملك التنوخي الملقب بالهواري، الذي توفي عام 375 للميلاد، فاستلمت الحكم بعدهُ لعدم وجود وريث له، وقادت تحالف القبائل العربية في ثورة ضد الرومان، وطردتهم من حدود مصر إلى شمال سوريا وشرقها وشمال الجزيرة العربية.

ما روي أنّ قبيلة عربية قامت باختطافها وهي طفلة تلهو في الشارع، وتزويجها لشيخ عشيرة… إلخ، لا وجود لها في التاريخ العالمي، وهي موجودة في أفكار الأطفال فقط.

في البداية أقامت في منطقة جبل الأحص جنوب حلب، قرب خناصر، وبنت قلاعاً وحصوناً، وهي مجموعة هضاب حولها أرض زراعية.

السبب المباشر للثورة كان دينياً، التي اعتبرتْ أهم ثورة مسيحية ضد روما، والبداية الحقيقيّة لتحرير سوريا من الرومان.

حيثُ قام الإمبراطور الروماني Valens، بتعيين أسقف أرثوذكسي للعرب من أقربائه، من الآريوسيّين (الآريين) أتباع روما، وهو ما رفضته ماويا ورجال الدين المسيحي آنذاك، لأنهم أرثوذكسيون ويريدون أسقفاً عربياً مشرقياً يُدعى موسى. قام الإمبراطور الروماني بنفيه  مع عدد من الأساقفة العرب وطردهم إلى الإسكندرية، وحشد جنوده لقتال التنوخيين.

سبب آخر للثورة هو إجبار الرومان الشبابَ في سوريا على الذهاب لقتال القوط وأعداء روما في كل مكان، بما يمكن تسميه “التجنيد بالقوة”، بينما كانت معاملتهم كمواطنين درجة ثانية في الإمبراطورية الرومانية.

أمام التهديد العسكري الروماني، تراجعت ماويا وجيشها ومعظم شعبها بعيداً عن خناصر وحلب باتجاه الجنوب، وأقامت تحالفاً مع الإمارات الصغيرة وعرب البادية السورية لقتال الرومان.




ماويا أجمل الملكات وفارسة الفرسان

كانت ماويا وريثة للتنوخيين من حيث القوة والبأس والشجاعة، مقاتلة وفارسة من الطراز الأول، وقائدة ومخططة عسكرية ذات شخصية قوية، وفوق هذا؛ بارعة الجمال.

خلال فترة قصيرة، تمكنت من تشكيل جيش قويّ يضم جنودها مع القبائل التي انضمت إليها. أشرفت على تدريبهم شخصياً. شكّلت وحدات عسكرية مقاتلة، مهمتها شن غارات خاطفة على حصون الرومان، بطريقة حرب العصابات، وهو تعبير وجدناه يستخدم هنا في ألمانيا لدى بحثنا في مركز فيريل عن الملكة ماويا (Guerilla Blitzkrieg).

وصل الجيش الروماني لمرحلة اليأس، بعد أن عجز عن إيجاد مدينة أو قلعة لجيش ماويا، يهاجمها فيها… بالمقابل اكتسبت محبة الشعب في كافة الأراضي السورية، فكان السكان يساعدون جيشها بكافة السبل.

ضمن معاركها ضد الجيش الروماني في فلسطين، استطاعت هزيمته وبسط سلطانها حتى حدود مصر.

بعدها تابعت حرب العصابات موجهة ضربات موجعة في غرب سوريا وصولاً إلى الساحل.

يقول المؤرخ والراهب اليوناني Tyrannius Rufinus، الذي عاصر ماويا:

“هزّت ماويا عرش روما، وشنت هجماتٍ شرسة على الرومان، حتى وصلت بقواتها إلى فلسطين وفينيقيا والجزيرة العربية ومصر… قضت على الجيش الروماني هناك، وقادت جيشها بنفسها، فخاضت معارك كثيرة وقتلت الكثيرين منهم…”.

يقول المؤرخ الفلسطيني الشهير Sozomen، من مواليد بيث إيليا (بيت إيليا) قرب غزة 396 للميلاد. طبعاً لم نجد أي أثر لهذا المؤرخ في الكتب العربية!! يقول:

“قادت ماويا جيشها بنفسها حتى وصلت أرض النيل، وسيطرت على شمال أرض العرب وفلسطين وفينيقيا. من المزري أن يُقال عن جيش أنه خاسر لأن قائدته امرأة. ماويا المرأة انتصرت على جيوش يقودها رجال.”

يتابع المؤرخ الفلسطيني Sozomen:

“عندما هاجمت ماويا فينيقيا وفلسطين، طلبَ القادة الرومان مساعدة من قائد جيش المشرق الروماني يوليوس، الذي تولى منصبه منذ 371 حتى 378… فسخر منهم قائلاً: قاتلوا لوحدكم، فعدوتكم امرأة!…”. سوف نرى ماذا حدث لقائد جيش المشرق الروماني هذا بعد قليل.




أمام انتصاراتها، وخسارته فينيقيا وفلسطين وصولاً إلى مصر، قرر الإمبراطور الروماني Valens إرسال جيش روما في المشرق كاملاً، ورمي كافة أوراقه. قبلتْ ماويا التخلي عن حرب العصابات للمرة الثانية، كي تثبتَ أنها سيدة معارك أيضاً. التقى الجيشان في معركة كبيرة، يقول بعض المؤرخين أنها كانت غربي حلب.

قادت الملكة ماويا جيشها. بينما قاد جيش الأعداء، قائدُ جيش المشرق الذي سخر منها يوماً يوليوس، بعد قتال مرير، وجد نفسه محاصراً من قِبل مجموعة من الفرسان العرب على رأسهم ماويا، واستطاع الفرار من سيفها عبر البحر المتوسط بسفينة إلى آسيا الوسطى.

 خسر الرومان المعركة الكبرى، فاضطر الإمبراطور Valens للرضوخ لشروطها وعقد هدنة معها، بل استنجد بها لمحاربة Gothi، وهي قبائل جرمانية حاربت روما من الشمال الأوروبي. قبلت الملكة ماويا الهدنة بعد تنفيذ شرطين لها:

الشرط الأول: ترسيم القس موسى كأول قسّ عربي على أتباع الكنيسة في سوريا.

الشرط الثاني: اعتبار مواطنيها من الدرجة الأولى، أي مواطنين متساوين من الرومان بكافة الحقوق.

سوريا تعرفُ السلام فترة طويلةً نسبياً!

عمّ السلام سوريا كاملة، بعد قتال استمر قرابة 4 سنوات، وزوّجت ماويا ابنتها Chasidat من قائد عسكري روماني مسيحي يدعى Victor، كبادرة لتعزيز التحالف الجديد.

بعد اتمام الاتفاق، أرسلت، بحسن نية فرقة من الفرسان والمشاة، لمساندة الرومان في حربهم ضد القوطيين، واستطاعوا دحرهم عن القسطنطينية. إلى أن جاءت معركة Adrianople. حيث لاقى الإمبراطور Valens حتفهُ على يد القوط حرقاً في نهاية المعارك، وعادت المأساة والغدر الروماني…

خليفتهُ الإمبراطور الروماني ثيوذوسيوس الأول من إسبانيا، تحالف مع القوط وطرد أتباع ماويا من وظائفهم ووضع مكانهم حلفاءهُ الجدد… ليأتي عام 381 المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية، رافضاً مشاركة أيّ أسقف سوري فيه…  فعادت الثورة من جديد عام 383 ميلادية، وانتهت الهدنة وفُسخ الاتفاق، بعد أن وجدَ الرومان حليفاً عربياً هم قبائل بدو “بنو صالح”، يرجعهم بعض المؤرخين لقبائل ثمود… قام الرومان باستخدامهم ضد التنوخيين وشعب ماويا، دون أن يسمح لهم بالتمدد كثيراً.

أمام تآمر حتى الأصدقاء، انكفأت الملكة ماويا، وتراجعت إلى موطنها الأصلي، لكنها حافظت سنواتٍ على حكمها وبلادها، وسط مناوشات عسكرية متباعدة ضد الرومان، وقامت بتوسيع مدينتها خناصر، فبنت ديراً أطلق عليه دير توما، ثم اعتزلت الحياة العامة وقطنت الدير حتى وفاتها 425 في مدينة خناصر.

لا يتم تسليط الضوء على الملكة ماويا وغيرها من نساء عربيات وسوريات أو حتى ملوك ومفكرين وعظماء، في المناهج الدراسية أو الكتب العامة. لماذا؟ نتركُ الإجابة لكم. الدكتور جميل م. شاهين. مركز فيريل للدراسات. ماتت ماويا وما بقي منها نقش صغير على قبرها، هذا على فرض أنّ أحداً لم ينبش القبر بحثاً عن الآثار، أو… لمحو كلّ أثر…  

المراجع:

Ball, Warwick (2001), Rome in the East: The Transformation of an Empire

Bowersock, Glen Warren; Brown, Peter; Brown, Peter Robert Lamont; Grabar, Oleg (1999), Late Antiquity: A Guide to the Postclassical WorldHarvard University Press

Anne Jensen (1996), God’s Self-confident Daughters: Early Christianity and the Liberation of Women, Westminster John Knox Press