ما الذي يحدث في فرنسا؟

 إذا درسنا ماهية الحركات الشعبوية المطلبية في كافة أنحاء العالم وخاصة في العقود الخمسة الأخيرة، نلاحظ أنه يتم إشعالها وتحريضها خارجياً، واستغلال بيئة محلية لها مطالبها المُحقة اقتصادياً أو اجتماعياً أو سياسياً، بسبب ظلم ما يحيق بهذه البيئة.

المُحرّض الخارجي يستغلُ الحراكَ الشعبي لتحقيق أهداف لاعلاقة للحراك بها، عبر الضغط على السلطة السياسية بحدود قصوى لتقديم تنازلات في نقاط بعيدة عن مطالب الشعب، فتتحقق الأهداف الخفية للقادة الحقيقيين لما يجري ويتم وأد أو إسكات “المتظاهرين” بتحقيق شيء بسيط من مطالبهم!

هل ما يحدث في فرنسا جديد؟

كي نفهم ما يحدث في فرنسا دعونا نعود إلى ما جرى في “عصيان” أيار 1968 ضد حكومة شارل ديغول، يومها انتفض الطلاب ثم العمال، وقيل أنها “انتفاضة عفوية”!

المطالب كانت محقة؛ إصلاحات إدارية، رفع الأجور… لكن هذه كانت فقط الواجهة. يومها دخل المثقفون والفنانون معترك “العصيان” وكان تمردٌ شامل ضد كل شيء… سلطة ديغول “الأب” والحزب الشيوعي وضد الرأسمالية والبيروقراطية والنقابات وضد عالم تحكمهُ الشركات التي تستغل الناس كسلع ليس أكثر. أي دخلت الحركات الشعبية تحت تأثيرات خارجية لأحداث كانت تجري آنذاك من فيتنام التي تعاني من همجية القصف الأميركي إلى ثورة ماو سيتونغ الصاعدة إلى الكره للطرفين المتصارعين؛ الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. التأثير الأكبر كان لنبأ اغتيال المخابرات الأميركية لرمز الثورة تشي غيفارا في 9 تشرين الأول 1967،

على مدى شهور ومنذ بدء الاحتجاجات، وصلت الأمور لحد خطير، فقد أضرب 10 ملايين عامل، وحصلت اضطرابات ومظاهرات عمت فرنسا مع أعمال عنف غير مسبوقة، يومها اختفى شارل ديغول خشية انقلاب الجيش ضده…

ما الذي حصل لاحقاً؟ أعلنت الحكومة الفرنسية عن انتخابات برلمانية جديدة، وتفاوضت مع الأحزاب الكبرى واتحادات العمال لإنهاء الإضراب، ورضخَ الرئيس ديغول فرفع أجور العمال وأجرى “بعض” الإصلاحات الإدراية في المصانع والجامعات، وانتهت القصة ظاهرياً… فهل هذا هو السبب الحقيقي لكل ما جرى عام 1968؟

مطالب الطلاب والعمال كانت مُحقّة، لكن التغذية الخارجية جاءت عقبَ بروز سياسة استقلالية يقودها شارل ديغول بعيداً عن واشنطن، ومعهُ كانت بوادر سلوكِ نفس النهج من قِبل ألمانيا الغربية، وهل يجوز هذا؟ ديغول تحدّث عن فكرة الانسحاب من القيادة العسكرية لحلف الناتو ونقل مقره… أيضاً؛ بعد عدوان 1967، أوقف تصدير السلاح للكيان الصهيوني… هذه هي الأسباب الحقيقية لما جرى 1968، ودعكم من مطالب الطلاب والعمال…

فرنسا بين 1968 و2018

يُمثّلُ ماكرون الليبرالية المتوحشة في قصر الإليزيه، وهو مُجرّدُ موظف كبير لدى الشركات الفرنسية العملاقة وشركات روتشيلد الإنكليزي… رؤوساء ماكرون يرفضون سياسة ترامب “النهم” الذي يبتلعُ كل شيء ولا يترك حتى العظام لأتباعهِ وأولهم فرنسا. الشركات الفرنسية ومصالح فرنسا حول العالم باتت رهينة لما يأمر به ترامب الذي لا ينفكُ يُذكر حلفاءه بأنهم لولا الولايات المتحدة لكانوا في خبر كان، وأنّ عليهم دفع المزيد من “الخاوة” لواشنطن.

الولايات المتحدة تُلزم شركاءها الأوروبيين بفرض العقوبات التي تريدها ضد أية دولة، من روسيا إلى إيران إلى الصين، ولتذهب عقودهم إلى الخسارة، المهم تنفيذ الأوامر.

ماكرون بدأ ولو كلامياً بالابتعاد رويداً رويداً عن الحليف الأمريكي الجشع ومحاولة إتباع سياسة مستقلة نوعاً ما. دعوة لإنشاء جيش أوروبي مستقل يكون بديلاً عن الحماية الامريكية، تقاربٌ كبير مع ألمانيا ومحاولة لحل مشكلة أوكرانيا بالطرق السلمية، عدم الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران خاصة وأن مصالح فرنسا الاقتصادية كبيرة مع طهران. أمرٌ آخر؛ فرنسا لا تعارض “صفقة القرن” لكنها تريد أن يكون لها دور أكبر بها. حتى في سوريا، تسعى فرنسا أن يكون لها دور في كل شيء، من إنشاء قواعد لها في الشمال والجزيرة السورية للمشاركة المستقلة في مباحثات ولقاءات بعيداً عن واشنطن… هذا كله تعارضهُ واشنطن.

القادم على فرنسا

القادم على فرنسا تُحددهُ السياسة التي سيتبعها ماكرون ومن وراءه، إن لم يتراجع عن محاولاته الاستقلالية عن واشنطن، “أصحاب السترات الصفراء” مستمرون وبانتشار أوسع قد يتجاوز ما حدث عام 1968… و “الربيع العربي” على أبواب باريس ينتظر…

إن تنازلت فرنسا عن “شبه” استقلاليتها، فستهدأ الأمور بقرارات والأصح “خداع” المتظاهرين بقرارات تُبرّدُ الرؤوس الحامية… ولن ننسى أنّ الانسحاب من الانفاق النووي مع إيران مطلبٌ أميركي، فهل ستكون الدولة التالية للولايات المتحدة والتي تنسحبُ من هذا الاتفاق هي فرنسا؟ إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات. المهندس باسل علي الخطيب. 02.12.2018