مسـيحيّو سـوريا، لماذا؟ وإلى أين؟ مركز فيريل للدراسات ـ برلين د. جميل م. شاهين

 

أتجنّبُ الكلمات التي تدلّ على الطائفة أو القومية، لكنني أضطرُ لذلك أحياناً لتوضيح مسألة ما، فمعذرةً.

يُطلقُ البسطاء والخبثاء، على المسيحيين وغيرهم اسم أقليات، رغم أنّ هذه الأقليات هي الأصل والجهلاء هم الدخلاء. فسوريا أول دولة اعتنقت الديانة المسيحية، وسكانها الآراميون أول شعب آمن بالسيد المسيح الذي كان سـورياً، وتحدّثَ بلغتهم الآرامية، كما اعتنقت القبائل العربية التي وجدت يومها في سوريا الديانة المسيحية، كالغساسنة في حوران وبني تغلب وبكر في حلب والجزيرة، ومنهم الزير سالم.

عندما غزا العرب سوريا في القرن السابع، نفذّوا بعض المجازر بالمسيحيين، وإن كانت كتبنا تزوّر التاريخ وتنفي ذلك، ثم جاء الحكم الأموي، وعلى يد الخليفة عمر بن عبد العزيز، الذي وُصف بأنه عادل، ثم على يد الخليفة المتوكل على الله، بسلسلة إجراءات تمييزية طائفية عنصرية ضد المسيحيين، فأجبرهم على ارتداء ملابس سوداء فقط، ومنعهم من السير على الأرصفة، واستخدام ألفاظ شائنة، ومنذ ذلك الحين انتشرت كلمة “طــورِق” أي امش وسط الطريق مع الدواب، لكل مَنْ يشكّون بأنه مسيحي من لباسه الأسود، هذا عدا عن الجزية. طبعاً كتبُ تاريخنا المُشرّف التي تُدرّس لا يمكن أن تذكر ذلك… دفعَ ذلك المسيحيين للتقوقع في أحياء وقرى كباب توما وباب شرقي في دمشق.

رغم هذا التمييز، فالمسلمون الأوائل كانوا أكثر رحمة من العثمانيين والأكراد، الذين قتلوا 3 ملايين مسيحي، تحت أعين فرنسا وبريطانيا وألمانيا، لتحدث أكبر هجرة للمسيحيين في تاريخهم، كانت نسبة المسيحيين في عام 1900 في سوريا 39%، تراجعت بعد المجازر العثمانية إلى 30%.  

بعد طرد المستعمر العثماني ثم الفرنسي؛ عاد نجم المسيحيين للمعان، فخرج عشرات المفكرين والسياسيين، وأسسوا أهم أحزاب سياسية، مثل ميشيل عفلق وإلياس مرقص / الاشتراكية والقومية العربية، وأنطون سعادة / القومية السوريّة، فارس الخوري / الرأسمالية السورية المعتدلة، الذي كان أول وآخر رئيس مسيحي للوزراء.

اقتصادياً، سيطر المسيحيون على 75% من الصناعات والتجارة والأراضي الزراعية والاستثمارات وسوق الذهب والفضة، حتى جاء عام 1963، واستلام حزب البعث الحكم، فحدث التأميم وأصاب أغنياء المسيحيين بأكبر انتكاسة.

قد تكون فترة ما بعد الاستقلال، ومنذ غزو العرب، حتى يومنا هذا، هي أفضل فترة مرت على المسيحيين في سوريا وفي الدول العربية باستثناء لبنان، لكنهم لم يتمتعوا بأي وقت بالمساواة التامــة، شاء من شاء واعترض مَن اعترض، فالدستور السوري تشريعه إسلامي، والقائمون على تنفيذه من الإخوان المسلمين “الجُـدد”، ودين رئيس الدولة الإسلام، والمناصب العليا ليست لهم.

جاءت الحرب على سوريا، ليفقد المسيحيّون في الشرق الأوسط ثقتهم بالعيش المشترك الذي طالما صدح المطربون به، ويتأكدوا أن أحداً لن يحميهم من مصيرهم الأسود، وأن الدول الأوروبية المسماة مسيحية، تُســاعد الذين يقتـلون ويُهجّرون المسيحييّن من المجموعات الإرهابية المسلحة، في كافة الأراضي السورية، بما في ذلك عملية تهجير المسيحيين ونهب ممتلكاتهم في الجزيرة السورية على يد الأكراد الانفصاليين، فكانت الهجرة الثانية من سـوريا، وخرج منهم بين 400 إلى 600 ألف مسيحي، وسط تشجيع من دول بعينها، وتهليل من المُهجِّرين، وتنخفض نسبتهم حالياً إلى 9% من السكان. رغم قصف وحرق عشرات الكنائس في حمص وحلب ودمشق وإدلب ودير الزور والرقة، وقتل أربعة رجال دين مسيحيين وخطف ثلاثة، لم نسمع سوى إدانات خجولة من كبار رجال الدين المسيحي “الشجعان”، بينما يَقلق حكام الدول الأخرى.

وقفَ مُعظم المسيحيين في بداية الحرب على سوريا على الحياد الايجابي، ولم نرَ انخراطاً جدياً من قبلهم في صفوف المعارضة، باستثناء بعض الوجوه التي استخدِمَ اسمها لإظهار عدم طائفية المعارضة، بينما انساق بعض صغار المسيحيين، نتيجة تجارب شخصية أو ضعف دراية، وراء شعارات برّاقة، بعضهم استفاق من غفوته، وآخرون مازالوا على غبائهم.  

بحكم تجاربهم التاريخية السابقة، والعقيدة المسيحية المتسامحة، نظر مسيحيو سوريا بحذر وقلق لكل ما يجري، وقرروا البقاء على الحياد وأيدوا الدولة حتى لو بقيت دون إصلاح، وهي بحاجة لإصلاح وإصلاح. وفي هذا لم يخطئوا، إن أخذنا بعين الاعتبار الأخطاء القاتلة والغبيـة التي وقعت فيها المعارضة السورية منذ يومها الأول.

حاول مخططو الفورة عبر منشدي المعارضة منذ البداية تطمين باقي الطوائف، وإرسال رسالة أمان ببعد “الفورة” عن الطائفية، لكنهم فشلوا مع ظهور شيوخ الفتنة على قنوات العهر الإعلامي، وشعارات وتسميات أيام الجمعة والمجموعات المسلحة، ثم بالاعتداءات على المقدسات المسيحية. هنا تأكد الجميع أنّ الحكم القادم سيكون إسلامياً سـلفياً، ولن يكون مصيرهم أفضل حالا من آلاف المسيحيين في العراق، عندما قامت القاعدة بتفيذ التهديد بتصفية الطائفة المسيحية هناك، فهاجر أغلب من بقي على قيد الحياة إلى الخارج وإلى شمال العراق طلباً للأمان. كل هذا جرى على مرأى من عيون الغرب الذي يلتحف بغطاء المسيحية، وعلى مسمع من حكام أوروبا وأميركا الذين يتشدقون بحقوق الإنسان، واكتفى بابا الفاتيكان بعبارات الشجب والاستنكار وكأن عدوى سلفية أصابته.

نشرتْ المعارضة السورية، ومنذ اليوم الأول، الفكر الطائفي في سـوريا عبر:

ــ أول شعار رُفع في درعا نيسان 2011: “العلوية بالتابوت والمسيحية عا بيروت ونسوانهون عل التخوت.”

ــ خطبة الشيخ عبد السلام الخليلي في الحريك بدرعا، نيسان 2011، عن بنات السويداء.

ــ تسمية أيام الجمعة بأسماء إسلامية، والتي باتت رمز التجمع بعد الصلاة للمظاهرات، والشعارات التي رفعت في معظم المظاهرات كانت شعارات إسلامية أصولية.

ــ تسمية الكتائب بأسماء إسلامية بحتة، تعود لعصور الإسلام الأولى.

ــ تدفق مئات المقاتلين من القاعدة والجماعات التكفيرية، من كافة الدول الاسلامية، لتنفيذ هجمات إرهابية فوق الأراضي السورية.

ــ خطب وفتاوى رجال الدين التي تكفّر العلويين والشيعة. فإذا كان الشيعي المسلم كافراً، فماذا يعتبرون المسيحي؟ بالإضافة لصدور فتاوى إرهابية متنوعة، منها هدم الكنائس في السعودية من قبل شيوخ يؤيدون المعارضة السورية المسلحة.

ــ مطالبة شريحة كبيرة من المعارضة السورية بتطبيق الشريعة الاسلامية، هذا التطبيق الذي يعارضه كل مسلم متنور، يأخذ الدين الاسلامي كمنهج حياة وليس كعباءة صيف. ماذا سنقول للمسيحي عن حكم الشريعة فيما لو قتل مسلم مسيحيا؟ دفع فدية… وإن قتل مسيحي مسلما؟ القصاص وقطع الرأس! إذاً الدم المسلم هو الأغلى في دولة الخلافة! ماذا سنقول للمسيحي عن حكم الشريعة بعدم جواز تولي أي مسيحي منصبا في دولة الشريعة تلك، لماذا لا يحق لمسيحي أن يكون لديه مرؤوسا مسلما؟ ماذا سنقول للمسيحي عن عدم جواز أن يكون مدير مدرسة أو حتى أستاذا مثلا؟ بل مستخدماً فقط.

غلب الطابع الديني على المعارضة وبات جلياً، منذ نهاية 2011، أنّ هدف المعارضين هو إقامة حكم اسلامي يتماشى مع رغبات الغرب، وليذهب المسيحيون وغيرهم إلى الجحيم. وساذجٌ مَن يعتقد أنّ شعرة في مفرق ناصلة اللون هيلاري كلينتون، ستهتز لو فنِي مسيحيو الشرق الأوســط عن بكرة أبيهـم وهو المطلوب.

هاجر منذ عام 2011 حتى الآن 28% من المسيحيين، نتمنى أن تتحسـن الظروف وتتوقف الحرب، كي يبقى الـ 72%. رغم هجرة مئات الآلاف، قدّم المسيحيّون آلاف الشهداء خلال السنوات الخمس، من مدنيين وعسكريين، وسطّرت بعض القرى المسيحية آياتٍ مُقدّسة في البطولة، ودافع رجالها عن الوطن دفاع الأسود، وكانوا يداً بيد مع ليوث الجيش السوري ورجال حزب الله، ولن ننسى أبداً معارك الشيروبيم وصيدنايا ومعلولا وربلةومحردة والسقيلبية وصدد و…             

الكاتب: د. جميل م. شاهين 23.05.2016