قمة طهران؛ لا رابح ولا خاسر. الدكتور جميل م. شاهين. 23.07.2022. مركز فيريل للدراسات. سياسي.
رفعَ كثيرون سقف التوقعات والنتائج التاريخية التي سيأتي بها اللقاء الثلاثي بين زعماء روسيا وتركيا وإيران في طهران، الذي عُقد الثلاثاء 19 تموز 2022، واصفين اللقاء بأنه حلف جديد سيقلب الأوضاع رأساً على عقب في كافة المجالات التي تخصّ منطقة الشرق الشرق الأوسط. انتهى اللقاء وصدر البيان ومرّت عدة أيام، فهل من نتائج ملموسة على الأرض؟
لكل دولة هدف من اللقاء
دون شك جاء كل زعيم بهدف مختلف عن الآخر وقد يكون متضارباً تماماً، لكن الجامع الأوحد بينهم هو إنعكاسات الحرب في أوكرانيا على الأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية العالمية، مع عنوان عريض هو سوريا، وكأنّ الزعماء الثلاثة لا ينامون الليل وهم يبحثون عن حلّ للأزمة السورية المستمرة من 11 عاماً.
إيران
أرادت الردّ على زيارة جو بايدن واجتماعه بزعماء الخليج ومصر والأردن وتل أبيب، في محاولة فاشلة لتشكيل “ناتو شرق أوسطي” ضدها. كما أنها مُجبرة على التعامل مع “الجارة اللدودة” تركيا خاصة مع ازدياد التحركات القومية والطائفية المعادية لها داخل وخارج أراضيها، وبسبب الأوضاع المعيشية السيئة عليها دعم العلاقات التجارية والاقتصادية مع الجارة، حيث تقوم أنقرة بلعب دور تصدير المنتجات الإيرانية، متهربة من العقوبات الأميركية المفروضة على طهران. بالإضافة لأهداف أخرى سابقة في سوريا ودورها الإقليمي كدولة تسعى لتكون الأقوى شرق أوسطياً.
روسيا
تريد رفعَ مستوى التنسيق مع إيران في عدة مجالات، منها تجاوز نقاط الخلاف في سوريا نتيجة تعارض المصالح بينهما، واقتراب إيران من تصنيفها كحليف لروسيا التي تحتاج لحلفاء أقوياء وبنفس الوقت أعداء للغرب في مواجهتها لهم في أوكرانيا والشرق الأوسط. روسيا ترى في تركيا وإيران ركنين أساسيين في تحقيق نظرية Aleksandr Gelyevich Dugin في “الاتحاد الأوراسي” EAU. وهو ما يسعى إليه فلاديمير بوتين، لهذا يتعامل مع الدولتين بليونة وحذر ولا يريد أن يخسرهما.
نعم، تمتلكُ تركيا أوراقاً خطيرة يمكنها تحريكها دينياً وقومياً ضد روسيا وغيرها في المنطقة بما في ذلك آسيا الوسطى، وتسيطر المخابرات التركية على عشرات الآلاف من المقاتلين المسلمين بدءاً من شمال غرب الصين حتى إدلب.
تركيا
تركيا تسعى للخروج من أزمتها الاقتصادية والسياسية الخانقة، مع اقتراب الانتخابات وتراجع شعبية الحزب الحاكم بقيادة أردوغان، وسوف نوضّحُ ذلك لاحقاً بتفصيل أكبر. وتثبيت دورها الإقليمي الرئيسي في المنطقة في عدة ملفات هامة، وأنها لا تنصاع لأوامر دولة مهما كانت، سواء واشنطن أو موسكو لأنها تعتبرُ نفسها موازية لهما، وبنفس الوقت اللعب على وتر الوساطة بين الأعداء. ويبدو أن أنقرة خرجت أفضل قليلاً من هذا اللقاء.
أردوغان يرفض المصالحة مع سوريا
كان للحرب في أوكرانيا إنعكاسات إيجابية على موقف تركيا وأردوغان، فهو الذي كان يسعى للمصالحة مع سوريا بأية طريقة نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية في بلاده، وقام بسلسلة تراجعات عن أقواله ضد الجميع، بما في ذلك تل أبيب والسعودية والإمارات، وقبل زيارته للرياض وأبو ظبي واستقباله الرئيس الإسرائيلي.
الآن تحسّن موقفه، دون أن يتجاوز مرحلة الخطر، بفضل روسيا، التي دفعته للواجهة كوسيط “نزيه” وعضو في الناتو، خاصة في اتفاق تصدير المنتجات الزراعية الأوكرانية وضمان أمن السفن التجارية في البحر الأسود. عندما يشعر أردوغان أنه ضغيف يجري نحو المصالحة، اليوم يشعر أنه قوي ومركز اهتمام عالمي، والوضع في سوريا يسير لمصلحته، فهو ليس بحاجة للمصالحة مع دمشق، وهذا ما صدر عن أنقرة لكن بطريقة ملتوية قبل اجتماع طهران الثلاثي، وقاله زعيم تنظيم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني.
دولة الخلافة في إدلب بقيادة الجولاني
قبل اللقاء الثلاثي، بثت عدة فضائيات ووسائل إعلام تركية لقاءً أجراه زعيم تنظيم القاعدة في سوريا “أحمد حسين الشرع” الملقب بـ “أبو محمد الجولاني”، مع ما يُسمى “حكومة الإنقاذ” في إدلب.
أحمد تحدث عن مشروعه، وهو المرتبط مباشرة بالمخابرات التركية، مشروع إقامة “كنتون سنّي” في المناطق التي تُسيطر عليها جبهة النصرة في محافظة إدلب، مع تهديده باحتلال حلب. الجولاني وصفَ إدلب بعد سيطرته عليها بأنها أصبحت “منارة للعلم والمعرفة” وتمتلكُ بنية تحتية وتنمية اقتصادية وبشرية، هي الأفضل في سوريا، مُقسماً سوريا إلى عدة مناطق؛ مناطق سيطرة النظام، ومناطق سيطرة قسد ومناطق غصن الزيتون ودرع الفرات، حسب تعبيره
هذا الكلام يُعبّرُ عن النوايا التركية دون شك، التي أرسلت لروسيا وإيران برسالة واضحة قبل اللقاء بأنّ موقفها في سوريا لم يتغيّر ويجب تحقيق المطامع العثمانية دون حدود.
ردّ روسي على الجولاني
لم يتأخر الرد الروسي على تصريحات أبو محمد الجولاني وخطاب تركيا، فقبل أن يجفَّ حبر البيان الختامي للقاء طهران، قصفت طائرات روسية تجمعات لتنظيم “أنصار الإسلام” التابعة لجبهة النصرة في منطقتين بريف إدلب، هي اليعقوبية والجديدة، مسببة سقوط مدنيين وإرهابيين قتلى وجرحى. تركيا سارعت لطلب توضيح من وزارة الدفاع عن سبب الهجوم، لتؤكد الأخيرة أنها قصفت تمركزاً للإرهابيين.
سبقَ وزار أبو محمد الجولاني قبل أيام هاتين المنطقتين ومعهما منطقة القنية، وهي قرى مسيحية هُجر سكانها وتم توطين عائلات إرهابيين من جنسيات متعددة في منازل المسيحيين. الجولاني ادّعى أنه يُحافظ على “الأقليات” ويراعي حقوق باقي الأديان، بينما تؤكد معلومات مركز فيريل للدراسات أنّ عدد المسيحيين في محافظة إدلب لا يتجاوز العشرات، وقرية “حلّوز” تشهد على طرد آخر مسيحي لتوطين “إرهابيي الأيغور” فيها.
الجديد في لقاء طهران هو إدانة واستنكار العدوان الإسرائيلي على المواقع السورية، مع تأكيد سيادة سوريا على الجولان المحتل، من قِبل الزعماء الثلاثة.
روسيا وتركيا وإيران أعداء يحتاجون لبعضهم البعض. هذا هو التوصيف الدقيق لما يجري بين هذه الدول، وهذه هي السياسة على حقيقتها. الدول هذه تريد أن تظهر متناغمة، ويجب أن تكون كذلك، كي تلتقي مع المشروع الصيني العملاق “مبادرة الحزام والطريق”.
نصف نصر لأردوغان سينقلبُ خسارة
ما جرى من تغيير في موقف أردوغان، والنصر بالوقوف بوجه طهران وموسكو مؤقت، فالمشوار أمامه طويل إن أراد الفوز في الانتخابات القادمة. آخر استطلاعات للرأي تشير إلى أن تحالف الشعب، الذي يضمّ حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، سيحصل على 35.1% من أصوات الناخبين، إن جرت الإنتخابات اليوم 23 تموز 2022، مقابل حصول تحالف الأمة الذي يضمُّ حزبي الشعب الجمهوري وحزب الجيد على 42.4%، أي سيخسر أردوغان الانتخابات البرلمانية دون شك، لهذا لم يتجاوز بعد مرحلة الخطر وهو بحاجة للمزيد من الحركات والتحركات الداخلية والخارجية.
الأمر ينطبقُ على الانتخابات الرئاسية، وحسب شركة متروبول التركية لاستطلاعات الرأي؛ سيسحقُ منصور ياواش رئيس بلدية أنقرة من حزب الشعب الجمهوري، رجب طيب أردوغان وفي الجولة الأولى. وحتى إذا لم يترشح منصور هذا أو لم تُحسم النتائج من الجولة الأولى، وترشّح عدد كبير بحيث تتوزع الأصوات، كمنصور ياواش وأكرم إمام أوغلو وكليتشدار أوغلو وأكشينار، فالمنتصر يجب أن يُحقق أكثر من 50%، وهذا عاجز عنه أردوغان.
الصاعق في استطلاعات الرأي جاء في الجيل الشاب في تركيا، وهو النسبة الأعلى من الناخبين؛ 71,9% من الشباب ضد أردوغان ويؤيدون تحالف الأمة المعارض. بينما 19,6% يؤديون أردوغان. ولا ندري في مركز فيريل للدراسات على أيّ أساس تتمسك طهران وموسكو بدعم أردوغان والإفراط في “دلاله” وانتظار قدومه لمصافحته؟!
الحلّ السوري مؤجل حتى إشعار آخر
بعد هذا الاستعراض السريع، أين كانت سوريا في هذه القمة، وما هي النتائج الإيجابية لحل الأزمة؟ عِلماً أنّه لم يكنْ ولن يكون آخر اجتماع فقد سبقتهُ اجتماعات وبيانات واتفاقيات، والنتيجة؟ نجيب بحيادية عن هذا السؤال؛
الحل في سوريا مؤجل حتى إشعار آخر، ومن قِبَل كافة الدول دون استثناء. ولا اختراق في اللقاء.
سوريا دولة مهمة لكنها في أضعف أيامها وهي بالتأكيد “ليست بخير” ولا يكترث بالضعيف أحد. تركيا لاعب أساسي في الحرب في سوريا وهي طرف دولي وإقليمي، وصاحبة تاريخ مرير في المنطقة، ومصالح متشابكة مع إيران وروسيا، وهاتان الدولتان في وضع اختيار الحلّ الذي يتماشى مع مصالحهما أولاً.
أنقرة لا تريد أيّ حلّ في سوريا يعيد الأمور إلى عام 2010، والزمن لصالحها في التغيير الديموغرافي والتتريك في الشمال السوري، ومشروع شمال قبرص يسير بخطى جيدة وسريعة، فلِمَ العجلة؟
اختارت إيران وروسيا المحافظة على علاقتهما بتركيا على حساب سوريا، وخسارة جزء أو أجزاء من الأراضي السورية لا يضرهما فهي ليست أرضهما. هذه حقيقة لا يُريدُ كثيرون سماعها.
لن تمنعَ طهران وموسكو أيّ هجوم تركي وستغضّان الطرف عن إنشاء منطقة آمنة مزعومة بعمق 30 كم، ليتمّ ضمها لتركيا لاحقاً. ولن تتجاوز معارضتهما للغزو التركي بيانات الشجب والاستنكار . ويبدو أنّ إيران وروسيا لن تتعلما من أخطاء الماضي بالتعامل مع تركيا، وستتلقيان طعنات جديدة من أنقرة، والمستقبل سيحكم على تفضيلهما لتركيا على سوريا.
الحل في سوريا داخلي أولاً ثم عربي ثم روسي ثم إيراني
الحلّ كما سيسأل كثيرون، ورغم وضوحه نُكرره، عسى أن ينفع “التكرار”؛ الحلّ داخلي أولاً وثانياً ولن يأتي على طبق من فضة لا مِن طهران ولا من موسكو أو جنيف أو أستانا أو واشنطن.
التوافق الداخلي والحل السياسي الذي يجمع كافة الأطراف ويترافق مع حلول اقتصادية. مع الاستمرار بجدية أكبر في الانفتاح على الدول العربية الفاعلة. فكما أنّك “مُكرهٌ” على التعامل مع تركيا التي احتلت وصدّرت عشرات الآلاف من الإرهابيين وسرقت المعامل وقتلت الآلاف، يجب أن تتعامل مع الدول “الشقيقة” التي دعمت الإرهابيين وساهمت بخراب سوريا أيضاً. هي السياسة؛ فلِمَ الإصرار على المبادئ البالية والعنتريات التي تُفقِر؟!
بتلميحات دون تفاصيل؛ في السياسة ليس هناك أصدقاء أو أعداء دائمون، وسوريا ليس لديها حلفاء والتجربة أثبتت ذلك. لهذا يجب اللجوء إلى “الخبث السياسي” في العلاقات مع الدول، والتلويح بالتغيير في الاتجاهات، وهذا سيُحرّك المترددين والمُستغلّين. الحفاظ على نفس الخط والتشبث بالمبادئ ليست سياسة ولسنا في جمهورية أفلاطون… إنّ اللبيب من الإشارة يفهم.
الوقت لا يسيرُ لصالح سوريا نهائياً، والدول العربية والأجنبية بما في ذلك إيران وروسيا، ليست مستعجلة على أيّ حلّ للأزمة السورية طالما أنّ النيران بعيدة عن غرف نومها، ويمكنها استخدام القضية كورقة ضغط ضد دولة أخرى. الفارق فقط أنّ النوايا متباينة بين هذه الدول، والنوايا لم ولن تُطعمَ جائعاً، ولن تُعيد أرضاً مُحتلة. آن الأوان كي تجفَّ دموع التماسيح وتعود سوريا إلى ذاتها واستقلالية قرارها، وليست مجرد ورقة على طاولة الكبار. الدكتور جميل م. شاهين. 23.07.2022. Firil Center For Studies. Berlin. Germany.