أين نحنُ من التفكير الجمعي؟ الدكتور جميل م. شاهين. المهندس نقولا فياض. بحث من مركز فيريل للدراسات.

أين نحنُ من التفكير الجمعي؟ الدكتور جميل م. شاهين. المهندس نقولا فياض، هامبورغ. بحث من مركز فيريل للدراسات. عدد القراءات 39809

 

دخل محتالٌ على أحد الملوك المولعين بالثياب الفاخرة لدرجة الهوس. قال للملك: سمعنا يا جلالة الملك عن عظيم تقديركم للمواهب الرفيعة و الصنائع البديعة، ويشرفنا أن نضع تحت تصرفكم خبرتنا العظيمة في نسج حرير الأذكياء السحري…

الملك: هذا صحيح، ولكن ما هو حرير الأذكياء هذا؟

أجاب المحتال: إنه نسيجٌ رائع لا يرى ألوانَه البديعة سوى الأذكياء، فهوَ يكشفُ لك الأغبياء من حاشيتك، يدفئك في الشتاء و يريحك في الصيف، ملمسه ناعم كنسيمَ الربيع فلا تحسّ به لنعومته.

نظر المحتال إلى الوزير الواقف بجانب الملك، وأخرج من حقيبته نسيجاً غير مرئي، ثم راح يمسدُ عليه ويتحسسهُ وكأنه موجود، وتابعَ: انظر يا مولاي كيف يعجبُ وزيركم الحكيم. ألا يعجبك هذا القماش يا مولانا الوزير؟ سنهديك ثوباً منه بعد أن نفرغَ من نسج ثوب جلالة الملك؟

عقدت الدهشةُ لسان الوزير فهو لم يرَ شيئاً، لكنه آثر السكوتَ فكيف سيبادر بتكذيبه قبلَ الملك نفسه؟ وقال في نفسه يبدو أن الملك قد أعجبه القماشُ حقاً، وقد يستاءُ إن أظهرتُ فطنتي قبله، فلأسكت إذاً وأبقى مغفلاً حياً خيرٌ من أن أكونَ حكيماً مسجوناً أو تحت التراب!

ابتسم الوزير للمحتال وهزّ برأسهِ موافقاً، فأمر الملك ببدء عملية نسج ثوبهِ الفاخر.

ابتدأ المحتالُ عمليةُ النسج والخياطة بوتيرة بطيئة وتكلفةٍ باهظة تليقُ بثياب الملوك. في يومِ الاحتفال تلقى الملك تهنئة الحاشيةِ والأمراء، وقرر إقامة احتفال كبير ومخاطبة العامة وهو يرتدي حرير الأذكياء السحري، فاستعد الشعبُ لمشاهدة النسيج الذي لا يراهُ سوى الأذكياء…

في اليوم الموعود وبعدَ طول انتظار أطلَّ الملك من شرفة قصره العالي،  شهقَ الشعب وتعالت الأصوات هنا وهناك: يا إلهي! ما أروع هذا النسيج وما أجمل هذا الثوب! شاهدوا التطريزات الدقيقة والعروق الذهبية…

بين الشعب المدهوش، صرخ طفلٌ صغيرٌ اختفى صوته بين أصوات الآهات: أمي… يا أمي… الملك لا يرتدي شيئاً… الملكُ عارٍ، عارٍ تماماً!! لم يسمعه سوى قلةٌ من المحيطين، فبادرت أمه إلى تكميم فمه بسرعة وهي تقول: اخرس يا ولد، لا تفضحنا بغبائك هذا!.

القطيع الذي سمع الطفل قال: مسكينٌ هذا الصغير الغبي… أيُّ مستقبلٍ فاشل ينتظره!؟

السؤال هنا:

الغالبية صدّقت الكذبة وتعاملت معها على أنها حقيقة، فهل رأي الأغلبية صحيح دائماً؟

هذا ما يُطلق عليه: التفكير الجمعي Gruppendenken، Groupthink.

 

الذي هو طريقةُ محاكمةِ الحقائق والآراء والوقائع، بحيثُ تكون الأولوية لتماسك المجموعة، دون البحثِ في هذه الوقائع بحثاً موضوعياً واستقصائها، أكانت صحيحةً أم خاطئة. التحليل يظهر أن سلوك القطيع، وهو ما تحدثنا عنه في مركز فيريل للدراسات مراراً، قد يدفع المجموعة إلى الانحياز سريعاً إلى أحد الآراء، فتنحصر آراء الجماعات الكبيرة (الشعوب) في دائرة ضيّقة من المعلومات.

العقل الجمعي هو أحد أشكال الانصياع والإذعان والتبعية العمياء

…………………………………………………….

مستويات التفكير العقلي لدى البشر

من المتعارف عليه أن يقلّد الناس بعضهم البعض في كل شيء؛ طريقة اللباس، التفكير، العمل، وحتى الفيس بوك! وهذا ينطبق على الزراعة والصناعة والعلم إلخ… الأمر إلى هنا عادي فابن خلدون اعتبر أن “الإنسان حيوان ناطق”، وقال لساننا الجمعي “حط راسك بين الرؤوس وقول يا قطاع الروس”! وهناك الكثير الكثير من الأمثال المتناقلة عبر الأجيال تعبر عن طرق مشابهة في التفكير… فأين العقل من كل هذا؟

يعمل العقل البشري على ثلاثة مستويات مختلفة

المستوى الأول هو العقل الواعي:

وهو الذي يقرر ما نريد فعله، كأن نقرر شراء أغراضاً أو منزلاً أو سيارة. هنا نقوم بالبرمجة بشكل إرادي أو لا إرادي حسب درجة العلم والثقافة التي يمتلكها الشخص. كأن نصع أمامنا هدف بناء بيت ونكرر التفكير الواعي بالموضوع ونعمل عليه حتى يتحقق.

المستوى الثاني هو العقل اللاواعي أو العقل الباطن:

ويحكمه 11 قانوناً وهو مستودع الخبرات، ويحتوي على المحركات والمحفزات الداخلية للسلوك الشخصي، ومقر الطاقة الغريزية.

العقل الباطن يتكفل بإيجاد الحلول لمشاكلنا المستعصية ويسهلها لنا، ويتحكم بنسبة 90% من العمليات العقلية، يعمل منذ اليوم الأول وحتى الممات ولا يتوقف أبداً، وعمله يشبه طريقة عمل الحاسوب أي الواحد أو الصفر، فهو يقوم بإيجاد الحلول لكل المسائل التي تهمنا بلا تمييز بين الخير والشر، هو ينفذ ما يطلب منه فقط. والبرمجة هنا تحدث عن طريق الصور

( تذكروا ما يفعله الإعلام) فمثلاً: إذا وضعت هدفاً أن تصبح مليونيراً، تضع صور القطع النقدية في البيت والمكتب والسيارة وتفكر بذلك في الصباح وقبل النوم يومياً وحتى في الأحلام، وبشكل حقيقي صادق فهل يتحقق الهدف؟ طبعاً هذه صورة إيجابية للموضوع، ولكن الأمثلة السلبية للأسف هي السائدة في مجتمعاتنا الشرقية، كأن يقول الأهل أو المعلم أو الاخ عن طفل ما أنه غبي ولن يتعلم او أنه لا يفقه بالرياضيات او الفيزياء، فيصدق عقل الطفل الباطن الأمر ويعمل بهذا الاتجاه..! هنا نضع حجرة الأساس لتخلف المجتمع وإحباط شبابه وتعطيل طاقته الإيجابية بسلبيتنا نحن الكبار…

المستوى الثالث هو التفكير الجمعي أو العقل الجمعي:

وهو ما أوردنا مثالاً عنه في البداية، فتُزرعُ في عقولنا أننا عظماء من أمة عظيمة أو العكس لا فرق هنا، نمشي حسب ما يريده (المحتال) وما ترسّخَ عليه الرأي العام، ونقبل به كأنه قدر محتوم… البرمجة تتم هنا في المجتمع فنقتنع أننا متخلفون مهما حاولنا، لذلك نتوقف عن التفكير والاجتهاد والاعتراض، وهذا للأسف ما تشارك به العادات والتقاليد الخاطئة والأديان بلا استثناء بحجة الاتكال على الله في كل شيء، فلا داعي للتعب طالما كل شيء مكتوب ومحسوب.




خطورة التفكير الجمعي

المجموعة في التفكير الجمعي قد تكونُ عدة أفراد (حزب صغير، جمعية، عصابة مثلاً) لتصل لشعبٍ كامل وأمة كبيرة، وكي تبقى متماسكة، على الأفراد الأذكياء عدم رفع الصوت بوجهات نظر تقويمية، وتجنّب النقد، والكف عن البحث، لأنّ أفكارهم لن تحظى بالقبول وستكون شاذة وخارجة عن المألوف والتقاليد.

كنتيجةٍ لهذا التفكير الجمعي، تتدهور كفاءات الشعب الذهنية، وتتراجعُ المحاكمات العقلية وتتحجرُ عقوله ضمن منهج معيّن، يُحدده قادة المجتمع، وهم في مثالنا المحتال وأتباعهُ.

لحدوث التفكير الجمعي لابد من توافر عوامل معينة:

تقارب الخلفيات الاجتماعية والثقافية والدينية والعقائدية وحتى الاقتصادية لعناصر المجموعة.

عزلُ المجموعة (الشعب، الأمة) عن الآراء والأجواء المخالفة أو المناقضة، يتم العزل بمنع وصول أية أفكار جديدة تخالف التعاليم والتقاليد والأعراف المطلوبة لاستمرار التماسك.

تُحكمُ المجموعة (الأمة، الشعب) من قبلِ قائدٍ مُتحكّم مسيطر، يستعينُ بقدرة خارقة غالباً إلهية، فينشرُ أفكاراً لا يحق لأحد مناقشتها لأنه جاءت من الأعلى مباشرةً، والأعلى هو الذي يُحدد العقوبة التي تصلُ إلى القتل لمن يُخالفهُ.

يجب أن تُحاطَ المجموعة بظروفٍ خارجية وداخلية، تدفعهُا نحو التماسك والاندماج لدرجة الانصهار المطلق، فنرى رأياً واحداً لمختلف الشرائح. الظروف تلك تكون غالباً مُختلقة: تهديداتٌ خارجية من مجموعات أخرى (دولة ما، عصابات، مؤامرات…) أو داخلية بخلق مصاعب معيشية واقتصادية أو حتى مناخية أو بيئية، ليقومَ القائد بحلها فتزداد شعبيتهُ…

  1.  

صفات المجموعة التي يسيطر عليها التفكير الجمعي

مساحة النقاش وحدودهُ صغيرة جداً، ولا يُقبلُ رأي يُخالف التعاليم الرئيسية مهما كان بسيطاً. والوقوع في نفس الخطأ لا يعني تغيير طرق الحل المُتبع سابقاً، فيتكرر الخطأ مراتٍ وتتم معالجته بنفس الطريقة التقليدية، لهذا أيّ نقاش رده سيكون (الشيطان دفعكَ للسؤال… هذا ما يريده الله… لا تناقش، أنتَ تكفر…).

يُمنع على المجموعة الاستعانة بالاستشارات والآراء والخبرات الخارجية، وينتقي القادة حلولاً مقتبسة بعد إلباسها ثوب التقاليد أو العادات الخاصة بالمجموعة، فنرى أحياناً الأخذ بآراء مجموعات أخرى لكن بعد أن يتم التأكيد أنّ صانعها الأول هم الأولون، والآخرون أخذوها عنا.

نحنُ الأعظم، نحنُ الأفضل، نحنُ الأوائل… الله اصطفانا، الله اختارنا… لابد من زرع هذه الأفكار برؤوس الشعب، وهذا أمرٌ أشد وضوحاً في الأزمنة القديمة، لكنه حالياً مازال موجوداً ليس فقط في المجتمعات الشرقية، بل أيضاً نراه لدى الشعب الأميركي مثلاً: USA is the mother of the world

أية مخالفة أو تشكيك أو ضعف بالولاء للمجموعة، تبدأ عقوبتها من الإهمال إلى تجنب صاحبها وصولاً لطرده أو التخلص منه، لهذا يقوم بعض أصحاب الآراء المخالفة إما بالخروج الطوعي أو الصمت أو المجاهرة وتحمّل تبعاتها.

أمثلة مختلفة على العقل الجمعي

نقدم لكم من مركز فيريل أمثلة على العقل الجمعي من مجتمعات متباينة ثقافياً ودينياً وتطوراً، وهذا يعني أنّ هذا التفكير ليس حصرياً بمجتمع ما، بل هو شامل لكنه أكثر ضرراً في المجتمعات الشرقية، والسبب الأول لتخلفها. نُكرر: التفكير الجمعي هو السبب الرئيسي لتخلّف المجتمعات الشرقية.

مثال القدر المحتوم

تمّ نشر هذا التفكير بالطرق الدينية لمختلف الأديان، وآمن بها ومازال مئات الملايين بل المليارات… فكل ما يحدث مكتوب، (المكتوب ما منو مهروب It Is Written) فبُرمجت العقول بناءً عليه، لتصل إلى حدّ أنّ أي نشاط يقوم به الإنسان ستكون نتيجتهُ محسومة سلفاً، إذاً لا داعي للتفكير وبذل الجهد طالما أنّ الأمر خارج قدرة الشخص، فليسلّم كلّ شيء لله ويجلس بمنزله…

لكن هل هذا هو ما جاء حقاً في الدّين؟

طبعاً لا… اعقل ثم توكل… أي استخدم عقلك أولاً ثم اتكل على الله، فجاء (المحتال) وحرّفَ القول باتجاه التفكير الجمعي ليضع كل شيء بغير مكانه، وقلبَ الحقيقة الإلهية: الإنسان مُخيّرٌ غير مُسيّر، ليصبح العكس… وتبعهُ القطيع ليردد: (هيك الله كاتبلنا، والمكتوب عل الجبين لازم تشوفو العين)!

مثال أميركي على العقل الجمعي

ينتشر العقل الجمعي بشكل كبير في الولايات المتحدة، ويستخدمهُ قادة واشنطن للتأثير على الزعماء والشعب الأميركي والشعوب الأخرى بشكل مُفرط، من الأمثلة الشهيرة هي الحربُ على كوبا عام 1961م والتي أرادوا من خلالها الإطاحة بالرئيس الكوبي فيدل كاسترو

Fidel Castro. وعُرفت بأزمة خليج الخنازير (Pay of Pigs). كذلك استخدموا العقل الجمعي ضد صدام حسين وأسلحتهُ المزعومة، وفعلوا الأمر نفسهُ ضد سوريا والأسلحة الكيماوية…

مثال أميركي آخر: بتاريخ 28.01.1986،  وبعد إطلاقه بـ 73 ثانية، انفجر المكوك الأميركي Space Shuttle Challenger، في سماء فلوريدا وفيه 7 رواد فضاء… ما علاقة هذا بالتفكير الجمعي؟

كان من المقرر إطلاق المكوك قبل ستة أيام، لكن تم تأجيلهُ لوجود بعض الإشكاليات، هكذا قيل… الحقيقة أنّ علماء NASA والمسؤولون الأميركيون كانوا يُلحون على إطلاقه وتسجيل لحظة حاسمة في تاريخ الفضاء، ودراسة مذنب هالي، كون تلك اللحظة لن تمر سوى بعد 76 عاماً…

أصلح العلماء الأخطاء على عجل، وقرروا الإطلاق فجاءهم مهندس فضاء مختص قائلاً: (المكوك ضعيف من ناحية الحماية الحرارية، والأجنحة رغم اصلاحها، لا تتوافق مع سطح المكوك، وهذا أمرٌ خطر قد يسبب انفجاره…).

لم تناقش آراء المهندس سوى دقائق وعلى الهاتف، وطُلِبَ منه الصمت أو الطرد من ناسا، وقرروا الإطلاق… فانفجر المكوك…

لا يمكن القول أنّ علماء ناسا تقصدوا أن ينفجر المكوك، ولا حتى معظم المسؤولين، لهذا يمكن شملهم، مع المجموعة من الشعب الأميركي التي تنتظر الإطلاق بفارغ الصبر هذا المشروع العظيم، بـ أصحاب التفكير الجمعي:

لقد تجاهلوا تحذير المهندس، بسبب ثقتهم المفرطة بأنفسهم… نحن الأعظم؛ وهو ما دفعهم للتأكد من صحة قرارهم دون تحليل مدى صحة ادعاء المهندس. أخمدوا صوت المعارض لهم وهو أقلية، ليحافظوا على تماسك المجموعة، وهددوه بالإقصاء رغم أنه الأصدق والأصح.

مثال: الولايات المتحدة هي أمّ العالم!!

كيف يمكننا معرفة أصحاب التفكير الجمعي؟

أطرحُ عليكم مثالاً سبق وتحدثتُ عنه. في الولايات المتحدة الأميركية، تناقشتُ مع “أستاذة” في معهد تدريس اللغة الإنكليزية في فلوريدا، وضمن ما ذكرتْه أنّ:

(من حق الولايات المتحدة التدخل في كلّ دولة حول العالم لنشر الديموقراطية)!

حسناً… لماذا؟

أجابت: (لأنّ الولايات المتحدة هي أمّ العالم USA is the mother of the world).

ومَن نصّبها أمّاً للعالم؟

تأخرت قليلاً بالجواب: (إنه أمرٌ معروف والجميع يُقر به)!…

طبعاً انتهى النقاش عند هذا الحد لأنها لم تكن تملك الإجابة بسبب تلقينها تلك المعلومات بالعقل الجمعي…

لاحظوا أنّ العقل الجمعي لا يرتبطُ بدرجة العلم، بل بدرجة الوعي والثقافة والتحرر العقلي، فتلكَ كانت “أستاذة” متعلمة لكنها تؤمن بفكرة لُقنت لها أثناء مراحل التدريس الابتدائية، ولم تناقشها لاحقاً ولن تسمح لأحد أن يُعارضها بها… لهذا ومن خلال معرفتي بالولايات المتحدة يمكنني وصفها بأنها ليست أبعد من ناحية “التحرر الفكير” بكثير عن الشعوب التي تُوصفُ بـ “المتخلفة”. 

درجة التحضّر ترتبطُ بدرجة التحرر العقلي من الفكر الجمعي.

مثال من الفيس بوك ووسائل التواصل الإجتماعي

يوعز تاجر عقارات ما لأحدهم بوضع خبر ما يكون مثيراً للمجموعة: “منزل في المنطقة الفلانية تسكنهُ الأشباح… وقد توفي فلان لأنه دخله…”… ينتشر الخبر “الإشاعة” مع دلائل مُختلقة عن قصص حدثت لكل مَن يقتربُ من المنطقة… القطيع يستفيض بالخبر ويبدأ تحليلاته الدينية عن وجود الجن، ويستعينوا برجال الدين، وهكذا حتى تُصبحَ إشاعة (المنزل مسكون) حقيقة لا يمكن نقاشها، ومَن يناقشها فقد خرجَ عن الدّين.

هنا عمل الفكر الجمعي لصالح تاجر العقارات، فهبط سعرها في المنطقة وهو إما اشترى شققاً بأسعار بخسة، أو أضرّ بتاجر عقارات منافس. طبعاً هذه قصة حقيقية حدثت في دمشق.




مثال آخر: تركيا دولة عظيمة

عبر التاريخ العثماني الطويل، لم تقدّم الدولة العثمانية وبعدها تركيا أيّ إضافة للإنسانية، ولم تُسجّلُ باسمها أية اختراعات أو اكتشافات علمية، وما سمعنا بفيلسوف أو أديب أو مفكر أو عالم فيزياء عثماني له مكانته، مقارنة بالحضارة اليونانية جارتها مثلاً… بل لا يمكن استخدام اصطلاح “الحضارة العثمانية” لأنّ تاريخها أبعد ما يكون عن الحضارة، فسُجلت لها مجازر وإعدامات وكبح للحريات وإعدام العلماء وسحق المرأة، وإبادة شعوب بأكملها بما في ذلك الشعوب العربية… ولعل الخازوق العثماني هو أهم تركات “الحضارة” العثمانية تلك… لكن هل فكر القطيع يوماً بالحقيقة؟

مازالت تركيا “مرضاً” جَمعياً في نفوس عشرات الملايين، العثمانيون زرعوا في نفوس الجموع: (العرب أغبياء لا يمكنهم قيادة بلدانهم)، العرب أنفسهم رسخوا الفكرة في عقلهم الباطن بالتبعية وسلّموا القيادة للسلطان، وبات كل ما يأتي من تركيا رائع بل مقدس… الألبسة، المفروشات، السياحة، المسلسلات وحتى نساء وشبان تركيا هم الأجمل!!

القطيع لم يُفكر بالحقيقة، ولم يرَ أمامهُ سوى تركيا، وأيضاً ليس لديه ثقة بقدراته على خلق بلاد أكثر تطوراً وحضارةً. سطوة السلطان راسخة بل متوارثة، ويساعد على ذلك أصحاب المصلحة من زعماء وتجار ورجال دين… هنا يُصبحُ التفكير الجمعي متوارثاً أيضاً، فإن خرج أحدهم وبحث في التاريخ، وجبَ عليه الصمت لأنّ الباب العالي جاء بأمر… الله.

أمثلةُ أخرى لا حصر لها حول التفكير الجمعي:

الحور العين… اليهود يسيطرون على العالم… صورة الشيطان… الألمان أذكى شعوب العالم…

العداء التاريخي الديني بين البروتستانت والكاثوليك وكذلك بين السنة والشيعة من أوضح الأمثلة على التفكير الجمعي لدى الطرفين، هو ليس مؤامرة خارجية طبعاً وليست إسرائيليات ولم تفعلهُ “الماسونية” ولا حتى برنامج هارب!!

الأسوأ يحدث عندما يتحالف رجال الدين مع السلطات السياسية لترويج الفكر الجمعي، وهو ما شهدناه بتحالف الكنيسة والأباطرة في أوروبا وكبح جماح التفكير العلمي بقطع وصلب مَن يخالف تعاليمهم، وكذلك بتحالف رجال الدين الإسلامي مع دول الخلافة المستمرة حتى يومنا هذا.

التفكير الجمعي  عندما يُسيطرُ على أمة كبيرة، يقودُ إلى كوارث عالمية تطال تلك الأمة قبل غيرها…

 

كيفَ نتخلص من التفكير الجمعي الضار؟

يكون هدف التفكير الجمعي الأساسي السيطرة على المجموعة (الشعب)، بغضّ النظر  عن صحة الفكرة أو المعتقد من عدمها. ويكون بمعظمه خاطئاً، باستثناء بعض المعتقدات الصحيحة… بعض…

نرى في مركز فيريل للدراسات أنّ الفكر الجمعي لن ينتهي في العالم… لكن يمكن التخفيف منه بإرادة الأفراد قبل المجموعة، لأنّه لن تسمح معظم الحكومات و (المحتال) والملك والوزير وحتى القطيع، بمعارضته كونه يُهدد تماسكها.

يبدأ الشفاء من هذا المرض القديم بطرد الخوف وتشجيع الأفراد على الإدلاء بآرائهم وعدم التردد في انتقادِ المتعارف عليه والسائد بما في ذلك المعتقدات والأديان والقوانين، لكن طبعاً بطريقة منظمة وحضارية علمية، والابتعاد عن النقد من أجل النقد. الهدف الأول للنقد هو تحقيق التنظيم السلوكي وفتح العقول على الحقائق الأخرى التي تُخالفُ السائد البالي.

يجب أن يفهم الأفراد أنّ الأساس ليسَ إرضاء الزعماء والقادة ورجال الدين بل إرضاء النفس، وما كان يوماً رضى الله تابعاً لرضى أحد مهما كانت منزلته… لأنّ لا أحد… لا أحد… يُمثل أو ينوب عن الله على الأرض ولم ينتدب شخصاً كي يتحدث باسمه أو يكون وسيطاً لديه…

  1.  

يجب أن يفهم الجميع أنّ التفكير الجمعي هو حافلة مليئة بالركاب، يقودها سائق على طريق خاطئة لكنها تفيدهُ وتحقق مصالحه… قسم من الركاب لا يدري أين هو ذاهب ولا يريد أن يشغل تفكيرهُ بذلك… قسم آخر يرى أنه في الطريق الخطأ، لكنه جبان فيصمت. أقلية فقط لديها الشجاعة والمعرفة تخرج عن صمتها وتحاول مواجهة السائق، فيهبُّ معظم الركاب بما في ذلك الصامتين الجبناء ضد هذه القلة، ويتم اسكاتهم أو طردهم من الحافلة… لتستمرَ الحافلة بالمسير…

الله خلقنا على صورته كي نكون خلاقين ومبدعين، ولم يخلقنا للتكاثر كالحشرات بلا تفكير ولا تقرير… الله موجود في كل شيء حولنا، وفي داخل كلٍّ منا وأوضحُ صورة في كلّ طفل… فاتقوا الله بأطفالكم وعلموهم محبة الناس والجمال والعلم واعتقوهم من نصائحكم البالية ومن عاداتكم السيئة ومن ديكتاتوريتكم المريضة، ومن عقائدكم السخيفة المتخلفة… اعتبروهم أصدقاء لكم لهم نفس الاحترام والكثير الكثير من الحب… الدكتور جميل م. شاهين. المهندس نقولا فياض، هامبورغ ألمانيا. بحث من مركز فيريل للدراسات. Firil Center For Studies. FCFS. Berlin. Germany

  1.