الإيحاء؛ شبابٌ دائم أم شيخوخة مُبكّرة؟ الدكتور جميل م. شاهين

ــ الإيحَـاء: عمليـة يقوم بها شخص أو مجموعـة أشخاص، يجعلـون الآخريـن يُصدقـون ويؤمنون بما يقولونه دون براهين أو تمحيص أو تدقيق بصحته. تتم العملية بسيطرة الشخص على آخر أضعف منهُ فيغرس في ذهنهِ فكرة أو صورةً أو اعتقاداً، دون أن يُقدم أدلة علمية. يلعبُ الإيحاءُ دوراً هاماً جداً في حياتنـا، ولا غرابــة أنّ جزءاً كبيراً ممـا يحدث في ســوريا جاء بطريق الإيحــاء للبســطاء بل الأغبياء.

صفات الشخص المُـوحِي

شخصية قوية، جذابة، قيادية، سريع البديهة، على دراية بعلم الفِراسة، ذكي، مثقف. من أقدر الناس على الإيحاء أطباء علم النفس، فهم يوحون للعقل الباطن للمريض بأنهم يعرفون كل كبيرة أو صغيرة عنه، فينقاد المريض ويروي كل شيء. كذلك المحققون، السحرة، بعض رجال الدين، بعض القادة والسياسيين والمفكرين…    

مثــال

يقف شخص في شارع مزدحم وينظر نحو مبنى مرتفع باهتمام ولفترة طويلة، بعد لحظات نرى أن عدداً من المارين ثوقفوا وراحوا ينظرون بنفس الاتجاه، يقول الشخص وهو يشير لفتاة تقف على الشرفة بشكل عادي: “كأنها تريد الانتحار”. بعد قليل سنسمعُ أحد المارة يقول: “صحيح، انظروا سوف تقفز.”، وقد يتصل بالشرطة. الذي حصل؛ أنّ الدماغ يقوم باستكمال الصورة الناقصة في المشهد، فيكفي أن يُمثّلَ شخصٌ أنه يسحب مسدساً على البوليس الأميركي رغم أنّ يدهُ فارغة، حتى يستكمل دماغ البوليس صورة مسدس كاملة، ويبدؤون بإطلاق النار عليه. ويكفي أيضاً أن يدّعي طفلٌ أنه لا يريد الذهاب للمدرسة لأنه مريض، حتى تضع الأم يدها على جبينه وتقتنع بأنّه مصابٌ بالحمى وتبدأ بإعطائه الدواء، رغم أنّ حرارتهُ طبيعية.

صفـات المُـوحَى إليــه

شخصية ضعيفة أو متوسطة، غير مثقف، بسيط، قليل الخبرة، انفعالي، متوتر، شـعوره بالأمان قليل، لا يمتلك محاكمة عقلية كافيـة، لهذا نرى أنّ الأطفال هم الأكثر تأثراً بالإيحاء من الكبار، كذلك الجهلــة والبسـطاء. يقوم المُوحَى إليه بتعطيل دماغه المتوتر والقلق، فيُشلّ تفكيرهُ ويكون مستسلماً راضخـاً سهل الإنقياد، وتصبحُ الإيحاءات بالنسبة إليه هي باب الخلاص مما هو فيه.

ــ الإيحـاء الإيجــابي

يتبعهُ غالباً الأطباء في معالجة الأمراض النفسية أولاً وأحيانا العضوية، عن طريق الإيحـاء بأنّ المرض غير خطير وأنّ المريض قادر على الشفاء منه. ويفيد الإيحاء مع الطلاب قبل الامتحانات أو الأشخاص الذين سيقومون بعمل هام، مشروع أو طلب وظيفة أو رياضيين، عن طريق تعزيز ثقتهم بنفسهم وبأنهم قادرون على اجتياز المصاعب بنجـاح.

ــ الإيحـاء السـلبي

هو الأكثر استخداماً وشـيوعاً. تستخدمه الأمّ لجعل أطفالها ينامون باكراً، أو منعهم من دخول غرفة ما بالقول: “في الغرفة غول”، فيستكمل الأطفال صورة الغول الذي لم يروه من قبل، وتزرعُ الأم الجاهلة الخوف في عقول أطفالها من الظلمة. يستخدمهُ بعض الأشخاص كرجال الدين لعلاج الأمراض بالرقيــة، حيث يُعزى كلّ مرضٍ عضـوي أو نفسي للسحر أو الأرواح الشريرة أو الجنّ الذي سكن جسد المريض، وسيتم إخراجه بالرقية، فيوحي رجل الدين للمصاب بأنّ الجنّي موجود فعلاً عن طريق أسئلة إيحائية ثنائية الخَيار: “هل هوَ جنّي أم شـيطان؟”. نلاحظ أنه ليس لدى المريض ضعيف الشخصية سوى إجابتين. بعدها يبدأ المُوحِـي بترديد عبارات غامضة أو دينية، وهو يرش ماءً مثلاً يوتّرُ المريض أكثر ويجعلهُ يستسلم، ليبدأ الموحِـي بضربهُ، فيقوم باستخدام حيلة دفاعية ساكنة داخل عقله، فينطق بصوت آخر مُتقمصاً شـخصية الجني كي يتوقف الضرب، ويرحل هذا الجني.




ــ الإيحـَاء الـذاتي الإيجـابي

يحتاج لمقدرة شخصية خاصّـة كون الشخص ذاته هو المُوحِـي والموحَى إليه، فيرسم العقل الباطن صوراً أو أفكاراً، ثم يرسلها للعقل الواعي ليتصرفُ وفقاً لها، فيؤمن بقدرته على تحقيق أهداف مهما كانت صعبة، مما يجعل الجسد والنفس يتكاتفان سـوية للوصول لهذه الأهداف، كأنّ يوحي الشخص لذاته بأنه سيستيقظ عند الخامسة صباحاً، وسيكون يومهُ جميـلاً رغم أنّ لديه ما يقلقهُ، بالفعل ينهض الساعة الخامسة دون استخدام مُنبّه ويشعر بالتفاؤل وبأن أمامه يوم جميـل، والرياضي يوحي لنفسه أنه سيجتاز السباق برقم قياسي، وهكذا. تتم العمليــة بالجلوس بهـدوء لنصف ساعة، حيثُ يُغمض الشخص عينيه، ويطلب من عقله الباطن إرسال رسائل محددة لعقله الظاهر، رسائل الثقة بالنفس واستعراض المقدرات الذاتية والصفات الجيدة. حتى في حالة وجود صفـات سـيئة أو أخطاء قديمة، الأفضـل هو الإعتـراف بها، والإيحـاء بأنّه سـيتخلص منها وسيكون أفضل من السـابق، دون أن يتوقف عندها طويــلاً. يكرر الشخص العبارات التالية: أنا هـادئ وسأحافظ على سكينتي مهما حدث، رأسي أصفى وأنقى، ذكرياتي السيئة ستزول مع الأيام تدريجياً، وستذهب معها همومي وأحزاني. أستطيعُ التغلب على أية مشكلة وسوف أشفى من مرضي. الإلحاح والتكـرار يُرسّخ الإيحاء في العقل الباطن، فيتعامل مع الرسائل الإيجابية على أنها حقيقة ويسعى لتنفيذها بكافة الطرق. من علائم الإيحـاء الذاتي الإيجــابي هـو الشـعور بالشـباب الدائم، حيث يؤثر تفكير الشخص المتفائل المتسامح الشـجاع على الجسد إيجابياً، ويجعله بحالة عقليـة ذهنية شـابة دائمة.

ــ الإيحـَاء الـذاتي السلبي

يحتاج لشخص متوتر متشائم، يشعر بنقص جسدي أو نفسي، فيوحي عقله الباطن لعقله الواعي بأفكار سيئة تُحبطه وتفصل لديه الجسد عن النفس، كأن يوحي لنفسه بأنه مكروه في المجتمع وأنه محطّ سخرية أو أنه إنسان فاشل والناس تتحدث عنه بسـوء، هنا يستجيب عقله الواعي لإيحاءاته الذاتية ويكوّن مشاعر الخوف والخجـل من المجتمع، ويميل الفرد إلى الإنطواء والعزلة والتشاؤم. من علائم الإيحـاء الذاتي السـلبي هو الشـيخوخة المُبكـرة، حيث يسيطرُ الخوف والحسد والغضب والشكّ والتشاؤم على الجسد سلبياً، ويعطّل حالته الذهنيـة.

أمثلـة على الإيحـاءات المتداولـة، التي يؤمن بها كثيرون:

ــ قصّ الأظافر في الليل يجلبُ المصائب.

ــ المقص المفتوح يعني أنّ الناس تتحدث عنك بالسوء.

ــ فلان يجلبُ النحس ووجهه يقطع الرزق، علينا تجنبـه.

ــ المنزل الفلاني مسـكون بالأرواح.

ــ تناول السمك واللبن يسبب التسـمم.

ــ تقصير الشعر يسبب كثافته وزيادة نموه.

ــ عذاب القبر.  




ــ الإيحــاء في الحـرب على ســوريا

استعرضتُ تأثير الإشـاعة فيما حدث ويحدث في سـوريا، راجعوا مقالة الإشاعة على موقع مركز فيريل، وهنـا أعطيكم أمثلـة على الإيحـاء: يعتلي شـيخٌ المنبـر، يبدأ بالصـلاة بشكل طبيعي، وبعدها الخطبـة بهدوء، يركز على نقـاط معينة بمخـارج حروف واضحة وبرفع صوتـه تدريجياً لزيادة حماس المصلين. هـوَ يوحـي لهم بأفكـار معينة ويسـيطر على عقولهـم، وكلما ازدادت وتيرة صوته تسارعاً ونبرتـهُ ارتفاعـاً، ازداد تأثيرهُ ورضـوخ التابعيـن، حتـى يصل للدّعـاء… فيبكي مثلاً وهـو يشكو ضعفهم، فنجـد أن معظـم المصلين يبكــون لأنهـم ضعفـاء الشخصية وانفعاليون حتى أنهم لا يدرون لماذا يبكـون، هنا يستطيع الشيخ أن يأمرهم بتصديق كل شيء؛ الملائكة تقاتل معهم، شـتم أي شخص، التبـرع بالمـال، الخروج بمظاهـرة، وحتى تفجير أنفسـهم. تكون نسبة الاستجابة لأوامر هـذا الموحِـي عالية جداً في البداية، لكنها تتـراجعُ مع خروج الناس من الصـلاة وعودة التفكير العقلاني لقسم كبير منهم، لكن مع تكرار الخطب نفسها، تزداد نسبة الموحَى إليهـم، بينما تبقى بشكل دائم وقوي جداً لــدى نسبة ليست قليلة هــم الأخطــر… الانتحاريــون. الانتحاريــون؛ هـم أضعف الناس شـخصية، والأسهل انقياداً ورضوخاً، يُصدّقون أنّ في الجنـة حوريات، وأنّ وضعهـم السيء سينتهي بعد ضغطـة على جهاز التفجير. أو أنّ قتالهم ضد جهة معينة هو دفاع عن الّله وتقريب منه، وموتهـم هو استشهاد… في حين أن المُوحِـي الخبيث لا يؤمن بكـل هذه الأفكـار الكاذبـة، التي لو كانت صحيحـة لكـان أول الانتحارييـن…    

الإيحَــاء؛ علمٌ قائمٌ بحد ذاته، بشـقيه الإيحـاء الذاتي والغيري، وسلاح خطيرٌ يُسـتخدم للهـدم وللبنـاء، فإن أوحى الشخص لنفسه بالفشل، فسوف يفشل، وإن أوحى لنفسه بالمرض، فسوف يمرض، وإن أوحى لنفسه بالجمـال، فهـو جميل، والواثـق مـن نفسـهِ يمشـي ملكــاً. الكاتب الدكتور جميل م. شاهين ـ برلين مركز فيريل للدراسات.