العراق ينزلق والصدر يصعد. زيد م. هاشم

لاشك أنّ العراق من أهم بلدان الشرق الأوسط. بلد محوري هام جغرافياً واقتصادياً وسياسياً، لعب مع سوريا دوراً  تاريخياً كأكثر بقعة في الأرض تنشأ فيها أهم الحضارات البشرية. اهتمام الدول المحيطة والبعيدة به لم ينقطع يوماً، فقامت بغزوه واحتلاله. آخرها الولايات المتحدة الأميركية…

الاحتجاجات الدائمة والحالية في العراق، لها مسببات عديدة، أهمها على الإطلاق فساد الطبقة الحاكمة التي أوصلت البلاد لحالة يرثى لها، وهيأت الظروف للتدخلات الخارجية من كافة الدول باستثناء سوريا التي يؤثر استقرار العراق إيجابياً عليها. كما لعب نظام الحكم الموزّع على أساس (محاصصة طائفية وقومية) دوراً هاماً فيما يجري.

كما نقول دائماً (هدف واشنطن خلط الأوراق ومنع استقرار أية دولة في الشرق الأوسط). استمرار الاحتجاجات يعني اتساع القاعدة الجماهيرية واحتمال انحياز الجيش والأمن إلى صفوف الشعب.

السيناريو الأسوأ في العراق

تُعوّلُ الأحزاب الدينية على فصائل الحشد الشعبي لمواجهة الاحتجاجات، وهذا إن حدث ستتدهور الأوضاع أكثر وتُدخِلُ البلاد في فوضى عارمة، لهذا على إيران تدارك أمرها في العراق وإيجاد صيغة حل سياسي بالتشاور مع مرجعية النجف قبل فوات الأوان، مع بعض التنازل عن مصالحها. الوقت عامل مهم يمكن استثماره حالياً لمعالجة الأزمة قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة.

في حال امتداد التظاهرات لطبقات العاملين بالدولة، ودخلت القبائل بشكل موسع على الخط، ستتضاعفُ خسارة طهران حتى للجنوب الشيعي الذي بدأ ينسلخ عن التوافق مع الأحزاب الموالية لإيران. ولهذا الانسلاخ أسباب عديدة اهمها؛ الفساد المرعب من قبل سلطة الأحزاب المذهبية و الذي تراكم لمدة 15 عاماً،  والخلاف الفكري في الشارع الشيعي المتعلق بموضوع ولاية الفقيه .كذلك التنافس غير المعلن بين النجف وقُم لقيادة شيعة العالم .

ظهرت في الآونة الأخيرة بوضوح النزعة القومية العربية عند شيعة العراق بعد ممارسات الأحزاب الموالية لإيران، حيث تراكمت الأخطاء الفادحة ووصلت حد الانفجار ليطفو كرهٌ لطهران تمثّل بمهاجمة مصالحها وقنصلياتها وترديد شعارات ضدها، ولا يمكن القول أنّ هؤلاء قلّة أو مندسين كما جرت العادة…

محافظات جنوب العراق ذات الأغلبية الشيعية آمنة منذ غزو الولايات المتحدة، وبعيدة عن مشاكل وسط وشمال البلاد الأمنية. لكنّها بالمقابل؛ أسوأ المحافظات العراقية معيشياً. الخدمات الأساسية غير متوفرة مع انتشار البطالة والفقر وتفشي الأمراض، بينما تُعاني الأحزاب الدينية من الثراء الفاحش! النقمة كبيرة لدى سكان جنوب العراق، وهذا طبيعي.

مَن هو مقتدى الصدر؟

ركب مقتدى الصدر الموجة لكنه حتى الآن يسبحُ عند الشاطئ وتحرّكهُ غير واسع لكنّ طlوحاتهُ لا تقفُ عند حدّ مُعيّن… فهل سيتركونه يسبح أم سيغرقونه كوالده وأشقائه؟!!

ينحدرُ مقتدى من عائلة شيعية بارزة. من مواليد الكوفة 1973. والدهُ محمد صادق الصدر عدو صدام حسين. جَدهُ محمد حسن الصدر كان رئيساً لوزراء العراق عام 1948. شاركَ مع والده في انتفاضة (الشعبانية) 1991 ثم بانتفاضة أوسع بعد اغتيال والده 1999 وكانت مسلحة، حيث هاجم مع مسلحيه المراكز الحكومية وقاموا بقتل محافظ البصرة ومئات من أعضاء حزب البعث…  هرب إلى إيران بعد الغزو الأميركي 2003 ووضع اسمه على قائمة الرؤوس المطلوبة أميركياً ومن قِبل الحكومة العراقية.

بدون شكّ، مقتدى الصدر زعيم شيعي له شعبية واسعة في العراق خاصة الجنوب. حارب صدام حسين ثم الولايات المتحدة. قاد مظاهرات سلمية ضد الاحتلال الأميركي، وسياسة الحاكم المدني بول بريمر التي أغلقت صحيفة “الحوزة” بالقوة. شكّلَ (جيش المهدي) بعد أن قتلت القوات الأميركية عدداً من المتظاهرين النجف 4 نيسان 2004. استطاع جيش المهدي قتل 8 جنود أميركيين وجرح أكثر من خمسين آخرين في مدينة الصدر، فأصبح مقتدى المطلوب الأول للرئيس الأميركي جورج بوش آنذاك.

وزارة الدفاع الأميركية صنّفت جيش المهدي بالإرهابي عام 2006. واتهم بقتل 52 عراقياً في كربلاء آب 2007، قام مقتدى بعدها بتجميد جيشه متهماً (المندسين) بهذا العمل. بعدها اختفى مقتدى الصدر في مدينة قُم الإيرانية خمس سنوات…

دعم الحوثيين في اليمن عام 2009 واصطدم مع الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح ومع السعودية… حتى هذا التاريخ كانت علاقتهُ بالحكومة العراقية وواشنطن والدول الخليجية سيئة للغاية… في تموز 2014 عاد للنشاط العسكري بتأسيس (سرايا السلام) لقتال داعش وحماية الأماكن المقدسة.

مقتدى الصدر راكب أمواج!!

 مواقف مقتدى الصدر متلونة حسب الظروف والمناخ السياسي. ولاءاته موزعة بين الأعداء تبعاً للمصلحة الآنية.

زار السعودية في 29  تموز 2017 بدعوة رسمية والتقى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في جدة، ثم طار إلى الإمارات. اعتُبرت زيارته ضربة لإيران.

في 27 تموز 2019 زار إيران. ثم بزيارة مفاجئة في 10 ايلول 2019، ظهر برفقة المرشد علي خامينئي وقائد فيلق القدس قاسم سليماني. قبلَ الزيارة هاجم مقتدى الصدر الحكومة العراقية بالقول: الحكومة العراقية انتهت… وداعاً يا وطني!!  مُلمحاً إلى إمكانية إعلان براءته من الحكومة العراقية. مانراهُ في مركز فيريل للدراسات أنّ الصدر  يخشى أن تطالهُ يد الغدر… فيتم اغتيالهُ لتأجيج الوضع أكثر في العراق، وربما طلبَ حماية طهران لأنه لا يثقُ بغيرها.

مقتدى عاد حالياً إلى النجف ويحاول التوفيق بينها وبين قُم، في موجة أعمال عنف هي الأسوأ منذ سنوات، فالحرائقُ تلتهم مقرات الأحزاب الدينية وفصائلها المسلحة بما في ذلك الحشد الشعبي.

أرسل مقاتلين لحماية مرقد السيدة زينب جنوب دمشق والوقوف بجانب الدولة السورية، ثم انقلبَ في نيسان 2017 مُطالباً الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي! في الأول من نيسان 2019 عاد للمطالبة بالتنحي…‏ ما يسعى إليه مقتدى الصدر أن يُسوّق نفسهُ لدى دوائر نافذة في الخليج وواشنطن على أنه الرجل الحيادي ولا نفوذ لدولة عليه بما في ذلك إيران… لكنه طار بعدها بشهور إلى طهران قبل أن تتخذ موقفاً ضدهُ!

الهدف التالي له هو زعامة شيعة العراق سياسياً ولاحقاً زعيم الشيعة العرب، مستغلاً مكانتهُ وما ورثه عن عائلته، وماضيه في محاربة الأمريكيين والحكومات المرتبطة بهم بمن فيهم نوري المالكي الذي حاصرهُ في البصرة، وأنقذته واشنطن من بين يديه. كما أنه الأكثر قبولاً بين السنة ويحابي الأكراد في الشمال. مناصروه أبناءُ الطبقة المسحوقة من العراقيين ويدينون له بالولاء المطلق.

استغلاله لموجة غضب الشارع الشيعي ضد الأحزاب الدينية الموالية لإيران واضح، وسيطرح نفسه منقذاً للعراق. هدد بتحريك سرايا السلام لحماية المتظاهرين حتى يكسب ودهم من جهة، ويقلص نفوذ الأحزاب المعادية له من جهة أخرى، وهو  يعلم أنّ الجزء الموجود في الحشد والمحسوب على إيران معادي لواشنطن وحلفها، وهذا الجزء هو الأقوى في تشكيلات الحشد لذلك يريد الصدر أن يطرح نفسه القوة العسكرية والسياسية الشيعية الأبرز و المقبولة عند كل القوى، وهذه مميزة لا تتوفر عند بقية الأحزاب السياسية الشيعية العراقية.

هل سيهدأ العراق؟

حتى اللحظة لا يوجد اعترافٌ سياسي عربيّ به كزعيم كبير، لكنه قد يُرجح الكفة في التوازنات الإقليمية. أعداء العراق يسعون لسحب البساط من تحت الشيعة وتقليص قوة حكمهم. وشهر العسل بين واشنطن وطهران انتهى في بلاد الرافدين. االطبقة الحاكمة الفاسدة بامتياز أصبحت فاقدة للصلاحية، والصراع السعودي الإيراني على أشدهِ.

لابد من قطع يد إيران من العراق نهائياً، لأنّ استمرارها يعني قوة للمحور القائم من طهران إلى بغداد فدمشق وبيروت، وسيسمح لروسيا بالتغلغل أكثر لتشكّل خطراً على المصالح الأمريكية والبريطانية في العراق.

تحركات سريعة قادمة… واشنطن ستجري تغييراً على شكل العملية السياسية بالعراق يتناسب مع التطورات. وقد نجحت بعد غزو العراق بتنصيب أحزاب تابعة لإيران على سدة حكم بغداد،  أحزاب السلطة الدينية هذه نفّذت المخطط الامريكي “بإخلاص”؛ أفقرت الشعب. نهبت البلاد. دمرت الاقتصاد. فتحت أكبر سفارة لواشنطن في العالم بالمنطقة الخضراء. وقّعت معها معاهدة أمنية استراتيجية. تركت الولايات المتحدة تُقيمُ قواعد عسكرية ضخمة في غرب وشمال العراق… بعد كل هذا؛ تقوم الحكومات المتوالية والتي جاءت على دبابات أميركية، باتهام المتظاهرين بأنهم عملاء لأميركا!! نعم، طهران خاسرة حتى الآن وما يجري أكبر دليل… إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات. زيد م. هاشم. 02.11.2019 يرحلُ زعماء بأموالهم وفشلهم وتبعيتهم، ويأتي آخرون بجيوب فارغة يملؤونها من ذهب العراق ويلحقون بأسلافهم، والشعب يدفع الثمن.