ثلاثة أسباب لما يحدثُ في فنزويلا. الدكتور جميل م. شاهين

ثلاثة أسباب لما يحدثُ في فنزويلا

لم يُفاجئنا ما يحدث في فنزويلا اليوم، فهو أمرٌ اعتادت عليه هذه الدولة عبر تاريخها. العين كانت على كراكاس دائماً، وهي التي عانت من الاضطرابات السياسية والانقلابات العسكرية، إلى أن جاء انتخاب الرئيس الراحل هوغو شافيز 1998، الذي أطلق شعار “الثورة البوليفارية” التي تدعو إلى الاستقلال الاقتصادي والديموقراطية الشعبية. شافيز نفسه تعرّض لمحاولة انقلاب ومحاولات اغتيال كانت واشنطن وراءها، لكنهُ كان رجلَ فنزويلا القوي الذي استطاع إلى حدّ بعيد نشر الاستقرار السياسي وشهد عهدهُ تحسناً اقتصادياً ملموساً، وسار في سياسة توزيع ثروة الأغنياء على الفقراء.

خليفة شافيز الرئيس نيكولاس مادورو لم يكن بقوة سلفهِ فعادت التدخلات الخارجية ومعها الفساد.

أعداء القيادة الفنزويلية السابقة ينسبون إليها كافة مآسي الشعب، وكأن فنزويلا كانت قبلها جنّةً! الأرقام تقول: كاراكاس أكثر مدن أميركا اللاتينية حضارة. شهد عهد هوغو شافيز تراجعاً في مستوى الفقر الذي كان قبل وصوله للحكم 66%، في عهده انتعش الاقتصاد بشكل كبير، حتى الأزمة الاقتصادية العالمية 2008 لم تؤثر عليه وبقي قوياً.

لكن بحيادية نقول: فشلت القيادة الفنزويلية في القضاء على الفساد الذي نخر جسدها وكان ورقةً بيد أعدائها.

السبب الأول: التدخلات والأطماع الخارجية

فنزويلا من أكبر عشر دول مُصدرة للبترول، وفيها أيضاً واحد من أكبر احتياطيات النفط والغاز في العالم. الشركات الأميركية كانت تستخرج النفط وتمتلك الآبار، مع تولي حكومات وطنية تمّ تأميم صناعة النفط ابتداءً من العام 1976 وتأسيس شركات وطنية. في عهد شافيز وُضعت قيودٌ على الاستثمار الأجنبي، وقام في شباط عام 2002 بخفض الرواتب الخيالية للمدراء والفنيين العاملين في شركة النفط الحكومية، فأثاروا العمال ضد شافيز وقاموا بتخريب المعدات وإيقاف تكرير البترول!. بعد أقل من ثلاثة أشهر حدث انقلابٌ عسكري، أطاح بشافيز ليومين. الشعب الفنزويلي والجيش أعادوه للسلطة…

دول كثيرة تتدخل طامعة بثروات فنزويلا، على رأس القائمة تقبعُ الولايات المتحدة التي تريدُ سلطة حاكمة في فنزويلا تتبعُ لها وتضخُ أموالها في بنوكها، وتستثمر شركاتها البترول والغاز… هذا الأمر لم يرضَ به شافيز ولا مادورو، فلجأت إلى تحريكِ الشارع ضده.

فنزويلا دولة يمكن إطلاق تسمية “دولة مقاومة” عليها، ناصرت ودعمت القضية الفلسطينية أكثر من معظم الدول العربية “الشقيقة”، ناصرت أيضاً قضايا التحرر العالمية ووقفت بوجه السياسة الأميركية. وقفت مع سوريا في محنتها ولم تقطع علاقاتها نزولاً عند أوامر البيت الأبيض كما فعل العرب.

نلفتُ الانتباه إلى أنّ الرئيس السوري بشار الأسد الأسد في حديثة لقناة تيليسور الفنزويلية، بتاريخ 28 نيسان 2017، أجاب على السؤال الخامس عشر حرفياً: “نحذر من انتقال السيناريو السوري إلى فنزويلا.

السبب الثاني: الفساد

ثروات فنزويلا تؤهلها ليعيش شعبها برخاء،  لكن وكما قال خوان ألفونسو واصفاً البترول بأنه “براز الشيطان”، جاءت تلك الثروات نقمة على الفنزويليّين. مع اكتشاف الثروات الباطنية عام 1943 بدأ الفساد على يد الشركات الأميركية!. تفاقم هذا الفساد رغم محاولات شافيز القضاء عليه. بعد وفاته تراجعت فنزويلا أكثر واحتلت المرتبة 169 لعام 2017 من أصل 180 على مستوى العالم في مؤشر الشفافية.

الرئيس مادورو وضع مشروعاً للإصلاحات السياسية والاقتصادية، وتطبيق نظام “انضباط مالي” والتوقف عن طباعة النقود، تمهيداً لعملة جديدة أطلق عليها “البوليفار السيادي” وهي “بترو”، حيث سيتمُ ضبط سعر صرف الدولار بـ 3600 بوليفار سيادي في الأسواق والبنك المركزي، أي إلغاء 5 أصفار من العملة القديمة!

هذا الإجراء سيتسبب بتعليق التعاملات المالية عبر الإنترنت، ويضرّ بأصحاب رؤوس الأموال والقطاع الخاصّ.

 كما قرر زيادة الحد الأدنى للأجور 3000% للعمال، وزيادات الضرائب لدعم إيرادات الحكومة، يترافق ذلك مع خطة لربط الرواتب والأسعار وسعر الصرف بالعملة الرقمية “بترو” الحكومية.

هذه الإجراءات ستدعم ذووي الدخل المحدود على المدى الطويل، وتكون بمثابة استقلالية مالية عن الدولار، لكنها ستضر بطبقة الأغنياء و “الحيتان” وأصحاب الشركات المرتبطين بالغرب، لهذا تحرّكت المعارضة المدعومة من أصحاب الدولار.

السبب الثالث: أزمات اقتصادية متلاحقة

تعتمد فنزويلا في دخلها على انتاج البترول الذي يُشكل بين 96 و 98% من الدخل القومي، لهذا أي اضطراب أو تراجع في سعر برميل النفط سيؤثر سلباً على اقتصادها، وهذا ما حصل.

انتاج البترول تراجع لأقل معدل منذ أكثر من 30 عاماً، لتصدّر اليوم 1,4 برميلاً وهو أقل من نصف ما كان على عهد شافيز 3,2 مليون برميل، أي تراجع دخلها القومي إلى أقل من النصف، وأصبح العجز في الميزانية أكثر من 20%، بينما تجاوز الدين الخارجي 150 مليار دولار.

زادت العقوبات الأميركية من تفاقم المعاناة الاقتصادية، التي شملت تصدير البترول والمنتجات الأخرى الثقيلة كالصلب والألمنيوم والإسمنت، وحتى المنتجات الغذائية والفواكه الاستوائية… ومنعت وصول حتى الأدوية للشعب الفنزويلي! ورأت واشنطن أنّ إطلاق كراكاس لعملتها الجديدة هو التفاف على العقوبات، ولابد من العقوبة…

الحالة الاقتصادية المتردية، رفعت مستوى البطالة، وحتى العامل لا يكفيه راتبهُ الشهري لتناول الطعام فقط، فانتشرت السرقات والنهب والسلب وازدادت نسبة الجريمة، وانتشرت الأمراض الاستوائية كالملاريا والسل بسبب نقص الأدوية والأجهزة الطبية التي تشملها العقوبات الأميركية، لتصبح فنزويلا الآن صاحبة أسوأ نمو اقتصادي عالمي وأعلى تضخم.  

فنزويلا كما نتوقع في مركز فيريل، ستكون حلبة منازلة قديمة جديدة بين روسيا والولايات المتحدة، بين الرأسمالية وقوى التحرر من السيطرة الأميركية في أميركا اللاتينية. واشنطن ستُصعّدُ أكثر، وأحفاد سيمون بوليفار ما كانوا ولن يكونوا لقمة سائغة في فم الغول الجشع…

كما رأيتم؛ وجودُ الفساد ومعه التدخلات والأطماع الخارجية يؤديان لتدهور الاقتصاد وخراب البلدان. كان على فنزويلا أن ترضخ لواشنطن وتتخلى عن استقلالها لتصبحَ دولة تابعة كدول الخليج، بترولها بيد الشركات الأميركية وأموالها في بنوك نيويورك. قبلَ عصر شافيز لم تكن على عداء مع واشنطن، والانقلابات العسكرية والمظاهرات والقتل في الشوارع كان بصورة موازية بل أكبر من الآن… فلا القرب أو البعدُ عن واشنطن هو المقياس، هي ضريبة تدفعها الشعوب التي تعرفُ معنى الكرامة ولا ترضى أن تكون قطيعاً من “الأبقار” يحلبها ترامب وأمثالهُ كلما شاء… الدكتور جميل م. شاهين. مركز فيريل للدراسات. 25.01.2019