ديبلوماسية فقع المثانة. الخالد حافظ الأسد. الكاتبة والباحثة سَارة عيسَى. Firil Center For Studies, FCFS, Berlin, Germany

عدد القراءات 171312 تاريخ النشر 29 آذار 2017 ونحن نرى الهدوء السوري على مدى السنوات السابقة في الردّ على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، ينتابُ الشباب منا شعور بالإحباط، بينما يدرك العارفون من الجيل الأكبر معنى الصمت المربك والهدوء المريب، من خلال خبرتهم بسياسة سورية قديمة حديثة، كان سيدها الرئيس الراحل حافظ الأسد.

صمتت سوريا على اعتداءات إسرائيل بعد نكسة حزيران 1967 ست سنوات، فكان الرد بتشرين 1973، بصواريخ سام وصدمة إسرائيلية لا توصف، وهذا ما حصل في آذار 2017، وكانت صدمة إسرائيلية أيضاً. لن أستعرض كلام حلفاء أو أصدقاء سوريا، فسيعتبرهُ البعض مديحاً بسبب القرب من دمشق، بل سأخبركم ما قالهُ أعداء الرئيس حافظ الأسد عنه، وهل هناك شهادة أقوى من شهادة العدو؟

  • أبدأ بإسحق رابين رئيس وزراء إسرائيل السابق، وأحد ألد أعداء سوريا، والذي استلم منصبهُ بعد غولدا مائير التي خسرت حرب 1973، قال: (صحيحٌ أنّ الأسد واحدٌ من ألدّ أعدائي. لكنه أذكى لاعب في الشرق الأوسط).‏‏

  • الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون وصف الرئيس حافظ الأسد: (رجل قاسٍ لكنه ذكي جداً). جاء ذلك عقب لقائهما في جنيف 1994. وقال: (لن يتحقق سلام في الشرق الأوسط إلا إذا وافقت سوريا). ويتابع: (حاولتُ وبشدة اقناع الأسد بزيارة إسرائيل كما فعل السادات، لكنني وجدتُ أنه لن يقتنعَ أبداً… بسبب اشتداد مرضه، كان همّه الوحيد؛ إعادة الجولان قبل وفاته.). هذا الحديث من مذكرات بيل كلينتون، حيث أضاف: (أهديتُ الأسد ربطة عنق زرقاء عليها صورة أسد، فهم ما أقصدهُ وقبلها مبتسماً، وكنت أعني بها الإبقاء على شريط حول بحيرة طبريا تسيطر عليه إسرائيل، وستعود الجولان كاملة لسوريا… Firil Center For Studies, FCFS, Berlin, Germany لكن الأسد قال لي بحزم: أريدُ أن أجلس على طرف طبريا وألمس ماءها بقدميّ).

  • كانت جلسة الرئيس الأسد مميزة، وحضوره طاغٍ، ولم نرَ رئيس دولة يجلس بحضوره براحة، أو يمازحهُ. شخصية قوية وهيبة ووقار. 

  • أنتقلُ إلى ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر الذي قال في مذكراته عن لقائه الأول بالرئيس حافظ الأسد: (فردتُ عضلاتي الثقافية والسياسية أمام الرئيس حافظ الأسد، ورحتُ أستعرض أحداثاً تاريخية وسياسية لساعتين، والرئيس يصغي بكل اهتمام ودون أن ينبس بكلمة، عندما انتهيت؛ أعطاني محاضرةً استمرت حتى الخامسة صباحاً…)… يتابع: (نعم، لقد كان هذا أوَّل درسٍ تلقيتهُ من الأسد). دامت المفاوضات بين الأسد وكيسنجر 136 ساعة، في 12 لقاء خلال شهرٍ واحد، قال عنها كيسنجر: (كلما اعتقدتُ أننا وصلنا لنهاية الجلسة، يعودُ الأسد في الحديث إلى نقطة الصفر… استطاع الأسد بهذا الأسلوب فرض نفوذه على حساب أيامٍ من القلقِ والتَّوتُّر التي عِشتُها).

  • جيمس بيكر وزير الخارجية الأميركية السابق، ذكر في مذكراته عام 1999، (المذكرات، الطبعة العربية، ص621 و 622).‏‏ عن جلسات تفاوض شاقة جمعتهُ بالرئيس الأسد، ابتدأت بتاريخ 14 أيلول 1990، حتى 23 نيسان 1991، يذكر التالي: (على مدى أحد عشر اجتماعاً أدركتُ أن الأسد رجل يلتزم بكلمته، رجلٌ شديد البأس والصلابة، إذا توصلت معه إلى اتفاق ما، يلتزم به حرفياً، ولكن المشكلة تكمن في أن كل كلمة تأخذها منه تحتاج إلى معركة أعصاب واجتماعات مطولة، تستغرق ساعاتٍ عديدة دون انقطاع، خاصة أن الأسد لا يظهر أي لين على الإطلاق في مسألة الأرض، ومساندة الكفاح الفلسطيني المسلح ضد الاحتلال الاسرائيلي”.

 

الأسد جعلني أرفعُ الراية البيضاء

يذكر جيمس بيكر ما حدث معه في جلسة 23 نيسان 1991، خلال اجتماعه بالرئيس حافظ الأسد، حيث كان برفقته السفير الأميركي بدمشق إدوارد دجرجيان: “كانت تلك أصعب وأشق مفاوضات أجريها على الإطلاق، ووجدتُ أنّ مفاوضاتي الطويلة مع السوفييت للحد من التسلح أسهل بكثير. استغرق الاجتماع مع الأسد تسع ساعات وستاً وأربعين دقيقة دون انقطاع، في غرفة خانقة لا تطاق، لا يسري فيها سوى النذر اليسير من الهواء المكيف، بنوافذ مغلقة بستائر سميكة زيتونية اللون، وبعد مرور ست ساعات على بدء الاجتماع، ألحَّ نداء الطبيعة على السفير الأمريكي بدمشق إدوارد دجرجيان. بينما الأسد يٌسهبُ في حديثه المطول حول اتفاقية سايكس بيكو، وآثارها السيئة في المنطقة. ازداد موقف السفير حرجاً، فكتبَ لي على قصاصة ورقية، ظننتُ أنه يريدني أن أثير قضية سياسية أمام الأسد، ففاجأني بجملة “هل يمكنني الذهاب إلى دورة المياه؟“.

يبدو أن السفير لم يكن وحدهُ بوضع حرج، إذ يتابع جيمس بيكر حديثه بالقول: “كانت كليتاي تعملان بنشاط يستعصي تفسيره، لكنني طلبتُ من الأسد الإذن بخروج السفير بحجة أنه يريد إجراء مكالمة هاتفية ضرورية. رمقني بنظرة انزعاج، ثم أومأ إلى وزير الخارجية السوري، فخرج السفير، وأثناء غيابه كشفتُ للأسد سبب خروجه، فانفجر الأسد ضاحكاً. بعد عودة دجرجيان تظاهرنا بأننا لا نعرف شيئاً.‏‏”

استسلام بيكر: (بعد أكثر من ساعة، سحبتُ منديلاً أبيض اللون ولوحت به للأسد، وأعلنت استسلامي، وقلتُ: عليَّ أن أذهب إلى الحَّمام…).  

ينهي جيمس بيكر حديثه عن تلك الجلسة بالقول: (هكذا كانت مباحثاتي لمدة 63 ساعة مع الأسد، إنها سياسة فقع المثانة).

يتابع بيكر وصف سياسة فقع المثانة التي يتبعها الأسد، فيقول: (كانت جلسات التفاوض مخططة بدقة عالية من جانب الأسد، وتتطلب مني أقصى درجات التحمل، فالأسد صاحب عزيمة قوية وشديد الصلابة. كنّا نجلس دوماً متجاورين على مقعدين كبيرين، فأحسّ بأنني قزمٌ وأمامي أبو الهول. كان يجلس بهدوء مريب؛ قدماه ملتصقتان بالأرض، وركبتاه مضمومتان، ويداه معقودتان في حجره، ولا يغيّر هذا الوضع على الإطلاق… أما أنا فبعد كل لقاء كنتُ أحتاج لجلسة مساجٍ وتدليك، هو يجلس إلى يساري بزاوية 90 درجة، وعليّ الالتفاف نحو  مما يصيب رقبتي بالتشنج، الغريب أنَ الأسد لا يبدي أدنى قدر من عدم الارتياح. ويبدو أن هذه الجلسات المجهدة هي أسلوب تفاوضي مدروس لمحاولة الفوز عن طريق الإجهاد.)

يختم جيمس بيكر حديثه بالقول: (حافظ الأسد أصعب مفاوض قابلته في حياتي الدبلوماسية الطويلة، فهو شخصية ذات إرادة قوية ودهاءٍ شديد، وصلابة عظيمة في الدفاع عن مصالح بلده وأمته، يفرض عليك احترامه، سواء اختلفت معه أو اتفقت.)

(لا) السورية، تعادل (نعم) العربية

يُعقد اليوم اجتماع قمة للجامعة العربية في عمّان، عندما كانت سوريا تحضر هذه القمة، بوجود الرئيس حافظ الأسد أو الرئيس بشار الأسد، كان حضورها كابوساً للعديد من زعماء الدول العربية، ودعماً للدول المقاومة. بتاريخ 27 آذار 1979 وفي مؤتمر القمة العربية الاستثنائي الذي عقد في بغداد، تم سحب السفراء العرب من القاهرة، وتعليق عضوية مصر من جامعة الدول العربية ونقل مقرها إلى تونس، بسبب توقيعها معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل. بعد سنتين، بدأت دول الخليج وعلى رأسها السعودية، تفاوض دمشق حول إعادة مصر إلى الجامعة العربية. دمشق قالت: لا. وكي تحرِج دمشق؛ تقدمت السعودية ودول عربية أخرى بمشروع قرار ينص على إعادة عضوية مصر. 

عام 1981 كان من المفترض أن تشهد القمة العربية المقرر عقدها بمدينة فاس بالمغرب، خطة من ولي العهد السعودي آنذاك فهد تضم 8 نقاط وتحظى بدعم واشنطن. تنصّ الخطة على الاعتراف بحق إسرائيل في “العيش بسلام” مقابل عودة الأراضي.

وصلت وفود 21 دولة إلى فاس وانتظر الجميع وصول حافظ الأسد… وصلت طائرة الأسد وكانت تقل حراسه وموظفيه فقط ولم يظهر الأسد أبداً وانهارت القمة، حسب الصحفية روبين رايت.

طرح مشروع إعادة مصر في مؤتمر الدار البيضاء 20 آب 1985، فرُفض، ثم في مؤتمر عمان 8 تشرين الثاني 1987، وقالت سوريا (لا) بينما قال العرب نعم لعودة مصر… Firil Center For Studies, FCFS, Berlin, Germany بعدها خرجت الصحافة العربية بعنوان عريض (لا السورية، تُعادل نعم العربية). إلى أن وافقت سوريا عام 1990 على عودة مصر، فعادت.

عام 1999 وأثناء جنازة ملك الأردن الحسين، والتي حضرها الرئيس الأميركي جورج بوش، جيمي كارتر، جيرالد فورد، رئيس وزراء بريطانيا طوني بلير، رئيس إسرائيل عازار فايس مان، نتنياهو، شارون، الأمير تشارلز وعشرات الزعماء والملوك… كانت كاميرات الوكالات العالمية تُركز عدساتها فقط على الرئيس حافظ الأسد.

 

حافظ الأسد مازال حيّاً بيننا

سياسة النفس الطويل كانت تُقلق حكومات واشنطن وتل أبيب، وكانتا تترقبان رحيلهُ دقيقة بدقيقة، فالسلام معها سيوقعهُ معظم الزعماء العرب إن وافق الأسد، ولكنه مازال يقول لا وعلى العرب أن يمتثلوا له. وها هو الكاتب باتريك سيل في كتاب (الصراع على الشرق الأوسط) يسألُ الرئيس حافظ الأسد: “ماذا سأكتبُ في خاتمة كتابي؟”. أجابه الأسد: “قل… مازال الصراعُ مستمراً.“.

كان ومازال زعماء العالم والعربان خاصة، يتراكضون لزيارة واشنطن والتبارك بعتباتها، وكسب ود سيد البيت الأبيض، وتلقي الأوامر منه… الرئيس الأسد هو الرئيس الوحيد الذي رفض أن يزور واشنطن، فجاءت واشنطن إليه. جاءه ريتشارد نيكسون 16 حزيران 1974. وبيل كلينتون 27 تشرين الأول 1994، وأبعد مسافة قبلها الأسد تجاه واشنطن هي اللقاء في منتصف الطريق، في جنيف 16 كانون الثاني 1994.

الرئيس الأسد هو الرئيس الوحيد الذي رفض أن يزور واشنطن، فجاءت واشنطن إليه، فيريل للدراسات.

مازال الصراعُ مستمراً بعد مرور 17 عاماً على غياب الرئيس حافظ الأسد، وإسرائيل خسرت الرهان، فروح وحكمة وبأس الأب انتقلت إلى الابن، وسياسة النفس الطويل وفقع مثانة الأعداء باقية، والردّ وإن تأخر قادم، وكما كانت سوريا في عهد الرئيس حافظ الأسد الرقم الصعب، ستصبح الرقم المستحيل. 

الكاتبة والباحثة سارة عيسى. Firil Center For Studies, FCFS, Berlin, Germany