زيادة الرواتب في سوريا. الجزء الثاني. هادي ميّاسة

تحدّثنا في الجزء الأول عن المعايير المنهجية لتحديد مستويات الرواتب والأجور، واستخدمنا واحداً منها لنبيّن كارثة الأجور في سوريا. نتحدّثُ في هذا الجزء باختصار عن أبرز الأسباب التي فَرضت هذا الواقع وتسبَّبت بتدنّي مستويات الأجور، وطريقة حلّ هذه المشكلة ضمن نطاق عمل الحكومة، دون الأخذ بالأسباب السكّانية كعدد السكّان وتركيبهم العمري والاقتصادي، لأنّها في معظمها أمر واقع يجب علينا البناء على أساسه والتعامل معه كما هو. فما هي الأسباب التي جعلت الراتب والأجر متدنيّاً جداً؟

للتذكير؛ للأجر قيمتان: اسمية وهي المبلغ الرقمي، وحقيقية وهي كميّة السلع والخدمات التي يمكن شراؤها بذلك الأجر.

أولاً: أسعار السلع والخدمات وزيادات الأجور

القيمة الحقيقية للأجور والأسعار مرتبطة دون شكّ. متوسط الرواتب في سوريا لعام 2003 كان 6380 ل.س. تزايد تدريجياً فسجّل عام 2010 مبلغ 11344 ل.س. أي أنّ متوسط الرواتب والأجور ازداد في تلك الفترة “إسميّاً” 78%، فهل عملتْ الحكومة على حلّ مشكلة الرواتب وكانت ستتمكّن من الوصول إلى المستوى المقبول لولا الحرب؟ الجواب هو لا، فالزيادة السابقة طالتْ القيمة الاسمية للأجر، ولمعرفة نسبة الزيادة على القيمة الحقيقية علينا أن ننظر إلى الأسعار، وتحديداً الرقم القياسي للأسعار الذي يمكن حسابه عن طريق قسمة سعر مجموعة السلع في السنة المدروسة على السعر في سنة الأساس.

فلنُحدّد سنة 2003 كأساس للرقم القياسي للأسعار، لاحظوا أننا نُركّزُ دائماً على سنة 2003 في مركز فيريل للدراسات لأنها سنة بدء التغييرات الإقتصادية الأساسية في سوريا… الرقم يرتفع من 100 في هذه السنة إلى 160,34 عام 2010، أي أن سلّة السلع التي كان ثمنها 5 آلاف ليرة أصبح ثمنها 8150 ليرة خلال 7 سنوات وارتفاع الأسعار كان بنسبة 63%.

بالمقابل؛ ارتفعت القيمة الحقيقية لمتوسط الرواتب من 6380 ليرة في سنة الأساس 2003 إلى 7075 ليرة عام 2010 أي بنسبة 10,8%… لاحظتم الفارق الكبير؟

 بمزيدٍ من التدقيق كي نُدركَ ما حصل آنذاك ونُكرر قبل الحرب؛ معظم زيادات الأجور والرواتب كانت على شكل نسبة مئوية من الراتب لا مبلغ محدّد، وهذا يعني أنّ نسبة الزيادة على القيمة الحقيقية لمتوسط الأجور والبالغة 10,8% هي ظالمة. لماذا؟ التساوي في النسبة يعني أنّ أصحاب رواتب الحدّ الأدنى نالوا زيادات بمبالغ أقل بكثير من أصحاب رواتب الفئات الأعلى.

الزيادات على الرواتب في سوريا لا تهدف إلى تقليل نسبة الفقراء ورفع الحدّ الأدنى للأجور إلى ما فوق خط الفقر.

خلال هذه الفترة (2003 حتى 2010) دخلت عدد من السلع والخدمات الجديدة إلى قائمة الضروريات، كالإنترنت والاتصالات الخليوية والسيارات والأدوات الكهربائية والحواسيب… التي مثّلت بنداً جديداً من بنود مصاريف المواطن الأساسية، ونظراً لارتفاع أسعار هذه الضروريات بالنسبة لدخل الموظف، لهذا كانت الزيادة في القيمة الحقيقية للأجر تبخّرت أي حتى الـ10,8% غير حقيقية بل وهمية. هذا بالإضافة لإرتفاع استهلاك الكهرباء  وأقساط القروض وفوائدها التي كان يقترضها الموظّف لكي يتمكّن من شراء تلك التجهيزات الضرورية، هنا اجتمعت الأضداد، الحقيقي والوهمي.

ذكرنا ما سبقَ وكان قبل الحرب، لنتفادى شمّاعة الحرب والمؤامرة الكونية. أمّا إذا تحدّثنا عن الوقت الحالي مع إقتراب عام 2021 فالوضعُ أصبحَ مأساوياً بمعنى الكلمة. مُنع الناس من التلفُّظ بكلمة “دولار”، فهل تمّ تخفيض الأسعار أم استمرّت صعوداً؟ مَن يريد ضبط الأسعار، عليهِ قطع صداقته مع أصحاب مكاتب الصِرافة والتجار.

 ثانياً النظام الضريبي في سوريا

بتبسيط؛ تُقسمُ الضرائب إلة مباشرة وغير مباشرة.

الضرائب غير المباشرة أهمّها ضريبة الاستهلاك. يؤثّر هذا النوع على القيمة الحقيقية للأجر لأنه يزيد السعر. ويمكن أن يكون عادلاً أو لا يكون، وذلك يتبع نوع السلعة التي تُفرض عليها الضريبة، فإذا كانت السلعة كمالية أو ذات أثر سلبي على البيئة كانت الضريبة عادلة، وإذا كانت السلعة ضرورية كانت الضريبة غير عادلة. وقد كان هذا النوع من الضريبة كارثياً ومجافياً للمنطق، إلى أن تمّ تصحيح الأوضاع مع المرسوم التشريعي رقم 11 لعام 2015.

الضرائب المباشرة أهمّها الضرائب على الأرباح والضرائب على الأجور. بالنسبة لضرائب الأرباح نكتفي بإعلان تحفُّظنا على: اعتماد نظام الشرائح التصاعديّة بدلاً من نظام الطبقات التصاعديّة، وعلى الإعفاءات والتخفيضات الضريبيّة الكثيرة والكبيرة. فهذه مبالغ طائلة تضيع من الخزينة في الوقت الذي يُلاحَق فيه الموظف ويُثقَل كاهله بضرائب الأجور. وسنعتبر وعن حُسن نيّة أنّ ضآلة نسب ضريبة الأرباح قد اعتُمدت بهدف توفير السيولة لدى الشركات من أجل التوسُّع بالعمل والإنتاج وتوفير فرص العمل، ولجذب الاستثمارات الداعمة للإنتاج، على الرغم من عدم وجود بوادر لذلك لا الآن ولا سابقاً.

بالنّسبة للضريبة على الرواتب والأجور، وأية رواتب!! عندما يكون سقف راتب الفئة الأعلى يُساوي 20% مما تحتاجه الأسرة السورية لتعيش بشيء من الكرامة، لا يمكننا أن نناقش ضرائب الأجور، فوجودها أساساً غير منطقي. وهذا الأمر ليس بجديد وليس من مفرزات الحرب، الحرب فاقمت المشكلة ولكنّها لم تخلقها. بالخلاصة، الرواتب غير كافية وهذا ما أثبتناه مسبقاً، فتأتي الحكومة وتخفض من القيمة الاسمية للراتب عبر فرض الضريبة على الأجر.

الحرب فاقمت المشكلة ولكنّها لم تخلقها.

ثالثاً الدّعم الحكومي

الدّعم الحكومي كما نراه في مركز فيريل للدراسات، أمر ضروري وأداة حكومية هامّة لإعادة توزيع الدّخل وتحقيق شيءٍ من العدالة الاجتماعية، ويمكن أن يُطبّق بِطُرق مختلفة منها السّيء ومنها الجيّد. أفضل طرق الدعم تتمثّل بمنح أجور منطقية ومتناسبة مع قيمة الاحتياجات الطبيعية، وتقديم دعم مالي للعاجزين وللعاطلين عن العمل رغم رغبتهم وسعيهم لإيجاده. و

تُقسّم عملية الدعم الحكومي في سوريا إلى ثلاثة مراحل

قبل عام 2007 وتمتد نصف قرن… كان الدّعم خلالها يتمّ عن طريق تخفيض الأسعار، وهذه طريقة سيئة لأنها تفتقر إلى العدالة بالتوجيه ويستفيد منها الأغنياء أكثر من الفقراء بالإضافة إلى مساهمتها بفتح أسواق التهريب، كما أنّ الحكومات باتت تعتبرُ الدعم نوعاً من الصَدَقة فأهملت الأجور بحجّة الدّعم، وعند كل شكوى من المواطن كانت تُمنّنه بالدّعم. خير مثال على ذلك؛ بحجة الدعم اعتمدت الأجور القليلة التي أجبرت السكان على جعل الخبز عماد نظامهم الغذائي!! وصارت اليوم تُحاسب الشعب على استهلاكهم الزائد من الخبز… فقرّرت تقليل الكميات المتاحة. لهذا كلّه نرى في نظام الدّعم وطريقة تطبيقهِ سلبيّاتٍ تدفعنا إلى رفضه إلّا في حالة فرضه كحلّ مؤقّت لتحسين المعيشة ريثما يتمّ تطبيق الحلّ الجذري والدّائم، وخصوصاً عند الأزمات الكبيرة. بتوضيح أكثر؛ الدعم مطلوبٌ اليوم حتى إنتهاء الأزمة أو إيجاد حلّ جذري لسوء المعيشة، لكن الذي يحدث هو رفع الدعم دون إيجاد حلّ، وهذه أسوأ الطرق على الإطلاق…

 الفترة الثانية منذ عام 2007 حتى 2011. رأتْ الحكومة حينها أنّ نظام دعم أسعار السلع الأساسية غير فعّال، فبدأت بتقليل الدّعم لا إعادة توجيهه، ولم تَزِد الأجور بشكل يتلاءم مع تغيّرات الأسعار الناتجة عن تخفيض قيمة الدّعم، وهذا يوحي بأنّ الهدف كان ماليّاً وليس إصلاحيّاً كما ادّعت الحكومة حينها. فالرّواتب والأجور التي كانت منخفضة بحجّة الدّعم وكانت بحاجة للزيادة حتى مع وجود الدّعم، لم تزداد بالمقدار المُتناسب مع زيادة الأسعار الناجمة عن رفع الدّعم.

 الفترة الثالثة منذ 2011 حتى الآن… بدأ تراجع قيمة الليرة المترافق مع تضخم الأسعار، وصارت هناك حاجة لإعادة تجربة الدّعم كما كانت قبل 2007 بل وتوسيعها أيضاً، فماذا كان ردّ الفعل الحكومي؟

ردّت الحكومة بتمنين المواطن بالدّعم القاصر أصلاً ومن ثمّ (عقلنته) مع منح زيادات بالرواتب غير متناسبة مع التغيُّر الناتج نهائياً. نتذكّر جميعاً حكومة الحلقي، التي وجدت نفسها بحكم المستقيلة بعد انتخابات مجلس الشعب فزادت أسعار المشتقات النفطيّة بنسب 38% ومضت من دون منح أيّة زيادة في الأجور، وأتت حكومة عماد خميس بعد ذلك فوجدت نفسها غير مُلزمة بزيادة الأجور وشكرت سابقتها على الهديّة.

هذا هو الدّعم باختصار مع لفتِ الإنتباه إلى أنّ زيادة الأجور حتى لو كانت مترافقة مع الدعم، فإنّها لا تكفي وحدها مع بقاء الأسعار مرتفعة، فهناك الكثير ممّن هم غير موظّفين لن يستفيدوا من تلك الزيادة. الأجدى هو أن تُعيدَ الحكومة الدّعم حالياً وإيصالهِ لمستحقّيه وبقدر حاجتهم، دون إذلال لطوابير وتحديد الكميات المُخصصة والبطاقة “الذّكيّة” التي تمّ تنفيذ مشروعها بتسرُّع أطاح بفائدتها وخلَقَ المشاكل عوضاً عن حلّها… كل هذا يأتي بالتخلّص من البند الرابع…

الذي يحدث هو رفع الدعم دون إيجاد حلّ، وهذه أسوأ الطرق على الإطلاق…

رابعاً الفساد في سوريا

لا يمكننا الحديث عن الفساد في سوريا بلغة الأرقام والوقائع، وذلك لعدم تمكننا من الحصول على أية معلومات صحيحة من الحكومة، حاولنا الحصول على بيانات وتفاصيل عقود الاستثمار والصفقات الكبيرة… دون جدوى. من خلال المعلومات المتوفرة لدى مركز فيريل للدراسات؛ نسبة الفساد الإداري والمالي في الأجهزة الحكومية هي من أعلى النسب في العالم، وما يُنشرُ عن ذلك في مراكز الشفافية العالمية ليس مؤامرة ولا تجنٍّ. الفساد يضرب مفاصل الدولة من أصغر موظف إلى أكبر مسؤول… ويمكن تصنيفه إلى طبقتين عُليا ودُنيا ويأتيكم في الجزء الثالث. تابعونا. إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات. هادي ميّاسة. 29.10.2020.