قرن الشيطان. إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات. المهندس باسل علي الخطيب.

نسمعُ كثيراً عن عالم متعدد أو أحادي الأقطاب. فما هو التعريف الدقيق لهذا التعبير؟

عالم القطب الواحد انتهى

حتى عام 1991، كان العالم ثنائي القطب. لكن مع إنهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة، تسيّدت الولايات المتحدة المشهد الدولي. فهي دولة عظمى، تحتل المرتبة الأولى عسكرياً واقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً، لهذا انفردت، على مدى ثلاثين عاماً تقريباً، باتخاذ بالقرارات السياسية والعسكرية وتدخلت في كافة مناحي الحياة الاجتماعية حتى في حياة الأفراد، كلّ هذا دون أن تستشير حتى حلفاءها الأوروبيين الذين كانوا مجرد صدىً يُردّدُ صوت واشنطن، بينما كانت معظم الدول الأخرى وزعماؤها، عبيداً يُنفّذون الأوامر لا أكثر، وكلّ دولة تعترضُ تُصنّف بالمارقة أو الإرهابية وتواجهُ العقوبات أو الحرب والدمار.

كانت الولايات المتحدة رقم 1 في العالم بفضل ماذكرناه، وأيضاً التطور العلمي الهائل ومراكز البحث واستقطاب العلماء من كافة أصقاع العالم، مفكرون وعلماء ونوابغ ارتبطوا مع مركز صنع القرار بخط ساخن، يُلجأ إليهم لاستخلاص النتائج أو لدراساتٍ شاملة وإعداد تقارير استراتيجية تجعل الجالس في البيت الأبيض يتخذ القرار الخطير كي تبقى واشنطن متسيدة للعالم.

مرّ على فكرة المحكمة الجنائية الدولية 103 أعوام، فهل سمعتم بوقوف ضابط أو جندي أميركي أمام محكمة بتهمة جرائم حرب أو إبادة؟

هاجمت الولايات المتحدة عشرات الدول وبدون حاجة لتغطية شرعية من الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، متذرعةً بأسباب وهمية أو كاذبة، فاحتلت وقتلت ودمرت دون أن تُحاسبَ، حتى اعتبر الجندي الأميركي مُقدساً يحقُّ له ما لا يحق لغيره.

المحكمة الجنائية الدولية كفكرة، جاءت بعد الحرب العالمية الأولى عام 1919، وبقيت فكرة حتى تأسيس محاكم نورينبيرغ الألمانية وطوكيو اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية. ثم قررت الأمم المتحدة بوضع ملف تأسيسها في الأدراج المقفلة. عام 1998 حصل قرار تأسيس المحكمة الدولية على أغلبية 130 دولة مقابل معارضة 7 دول هي: الولايات المتحدة والصين وإسرائيل والعراق واليمن وليبيا وقطر! لتظهر إلى الوجود في لاهاي بتاريخ 01 تموز 2002، شرط عدم النظر بالجرائم المرتكبة قبل هذا التاريخ…

ماذا تعني الأحادية القطبية؟

من خلال آراء ونظريات عديدة لفلاسفة وأساتذة في العلوم السياسية، منهم William Curti Wohlforth وCarla Norrlöf و Martha Finnemore، وجدنا في مركز فيريل للدراسات أنّ أوضح تعريف للأحادية القطبية Unipolarity هو: تمركّز القوة في دولة واحدة تُمارس فيها سيطرة ونفوذاً ثقافياً واجتماعياً وفكرياً وسياسياً وعسكرياً على باقي دول العالم، دون أن تتم محاسبتها إن أخطأت بممارسة هذا النفوذ وتسببت بالفوضى التي تصل إلى تدمير مجتمعات أو أجيال أو دول كاملة وبالقوة غالباً.  

بناءً على ذلك؛ نظرة بعض المثقفين للأحادية القطبية على أنها مفهوم سياسي فحسب، نظرة قاصرة، لأنها أوسع من ذلك، فالسيطرة الثقافية، لم أقل الغزو الثقافي، لأن هذه مرحلة تم تجاوزها منذ سنين طويلة، وقد كتبتُ مقالاً منذ عدة سنوات قلت فيه أن الولايات المتحدة لا تغزو بلداً توجد فيه مطاعم ماكدونالدز للوجبات السريعة، والمعنى هنا مجازي، فمطاعم ماكدونالدز تمثل طريقة الحياة الأمريكية، وتمثل السيطرة الثقافية ونمط حياة دخيل على معظم الشعوب، يُصبحُ رمزاً للتطور والحضارة المخادعة.

الولايات المتحدة قدرٌ محتوم!

مثقفون وسياسيون من دول شتى، يرون في الولايات المتحدة الأمريكية قدراً محتوماً، و يتعاملون مع السيطرة الفكرية و الثقافية الأمريكية على أنها أمر لا مفر منه، و أنها زبدة الإبداع و قمة نتاج العقل البشري.

بهذه الطريقة “مسبقة الصنع” تم التعامل على سبيل المثال مع كتابي Samuel Phillips Huntington (صراع الحضارات) و The End of History and the Last Man (نهاية التاريخ وآخر إنسان) لـ Yoshihiro Francis Fukuyama يوشي هيرو فوكوياما.

كان رأي فوكوياما أنّه بنهاية الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، ستنتصرُ الديموقراطية الليبرالية وتسود العالم، فردّ عليه أستاذهُ هنتغتون بأطروحة عام 1993 ثم أصدر كتابه الشهير 1996، معتبراً كلامه محدود النظر لأنّ الصراعات بعد نهاية تلك الحرب لن تكون قومية المنشأ مع خلافات سياسية واقتصادية، بل سيكون الاختلاف الثقافي محرّكاً أساسياً لصدام بين حضارات عديدة.

بدون الغوص عميقاً في نقد ما مضى إليه الكاتبان، فقد كانا أحد أدوات القوة الناعمة الأمريكية لبسط سيطرتها على العالم و ترسيخ مفهوم الأحادية القطبية بشكل نهائي. يمكننا القول أنّ جزءاً كبيراً من آراء ونظريات الكاتبين مع الاستراتيجيات التي بنيت عليهما “مُسلّماتهما” قد سقطت مع هذه الحرب التي شنت على سوريا، و تأكد هذا السقوط مع الحرب الأوكرانية. كيف وما الدليل؟

الحرب الأوكرانية قامت بين دولتين تنتميان لنفس العرق (السلافي)، بل كانتا دولة واحدة في السابق، عدا عن ذلك تتبع روسيا المذهب الأرثوذكسي، و67,8% من الشعب الأوكراني يتبع نفس المذهب، فأين هو سبب الحرب الديني أو القومي؟.
مثال آخر؛ النزاع الأذربيجاني – الأرمني، نجد أن إيران ذات الغالبية الشيعية وقفت مع أرمينيا المسيحية، و لم تقف مع أذربيجان ذات الغالبية الشيعية، التي وقفت معها تركيا ذات الغالبية السنية، علماً أن الأذربيجان والأتراك ينحدرون من العرق التركماني.
هل كان سبب النزاع أنّ أذربيجان مسلمة و أرمينيا مسيحية؟ قطعاً لا. هل السبب أنهما من قوميتين مختلفتين؟ أيضاً لا. . النزاع كان حول أراضٍ ومصالح إقتصادية، وهذا يحدث بغضّ النظر عن القومية والدّين.

الصراع مع إسرائيل ليس دينياً إطلاقاً

بكل سذاجة وخبث، تبعاً للطرف الذي يدّعي، يتم تصوير الصراع مع إسرائيل على أنه صراع ديني، ويتذاكى كثيرون بحصر الصراع بالمسجد الأقصى أو قبة الصخرة أو كنيسة القيامة، وهذا خبثٌ من جهة وقمة الغباء من جهة أخرى. الصراع مع إسرائيل ليس لأنها يهودية، بل لأنها صهيونية. وأي اختصار لفلسطين بالأماكن الدينية هو  قصور فكري وتحجّرٌ عقلي.

حصر الصراع بالمسجد الأقصى أو قبة الصخرة أو كنيسة القيامة، هو إمّا خبثٌ أو غباء. فالصراع مع إسرائيل ليس لأنها يهودية، بل لأنها صهيونية

ما نراه أنّ الصراعات تحدثُ لسببين؛ نزاع على المصالح، أو بسبب التضاد الثقافي الذي يبلغ درجة الإلغاء وعدم القبول. وبذلك تنتفي صحة النظريات التي تؤكد أنّ كافة الصراعات تحصل لأسباب قومية أو دينية. فهل العداء مع إيران هو لسبب ديني صرف؟! إذا اتبعنا النظرة الطائفية نسألُ:

أليسَ غريباً أنّ الشيعة هم الوحيدون الذين لا يمتلكون سلاحاً نووياً!

لايعترف العالم إلا بالأقوياء، والقوة هو المحرك الأساسي للتاريخ الذي يكتبهُ المنتصرون حسب ما يريدون.

 لطالما استغربت فتوى الخميني بتحريم صنع واستعمال السلاح النووي. إذا تطرقنا للجانب المذهبي ولسطور ، نرى أنّه من بين كافة المذاهب الدينية الكبرى في العالم، وحدهم الشيعة لايمتلكون السلاح النووي، المذهب البروتستانتي الإنجيلي يمتلكهُ عبر الولايات المتحدة، المذهب الانجليكاني الللوثري عبر انكلترا، المذهب الكاثوليكي عبر فرنسا، الأرثوذكسية عبر روسيا، البوذية الكونفوشوسية عبر الصين، اليهودية عبر الكيان الصهيوني، الهندوسية عبر الهند، المذهب السني عبر الباكستان، وحتى الملحدون لديهم سلاح نووي.


أثبتَ السلاح النووي أنه رادع، وإيران سيتم استهدافها آجلاً أم عاجلاً إلا إذا امتلكت سلاحاً نووياً رادعاً. العراق لم تقم الولايات المتحدة بغزوه لأنه يمتلك أسلحة دمار شامل، بل لأنه لايمتلك هكذا أسلحة، ولو امتلك لكان بخير الآن.

عندما تكون المواجهة المباشرة مُكلفة، يلجأ الغرب إلى أحد أسلوبين؛ إثارة النزاعات الداخلية، أو تفعيل الخواصر الرخوة للدول كالكيانات الاصطناعية، والتي لا تكون حقائقَ تاريخية حاجات جيوسياسية، كلبنان والأردن ومعظم دول الخليج وبلجيكا وتايوان والكيان الصهيوني وبنغلاديش وسنغافورة وليشتنشتاين وأندورة ولوكسمبورغ، والأمثلة كثيرة…

موسكو ابنة كييف

سبق وتحدثنا في مركز فيريل للدراسات عن هذا الموضوع وللتذكير فقط؛ كييف أقدم عاصمة في أوروبا الشرقية، تأسست في القرن الثامن الميلادي أي قبل موسكو بحوالي 400 عام. السلافيّون أكبر مجموعة عرقية لغوية في أوروبا ينقسمون إلى شرقيين وغربيين وجنوبيينالروس والأوكرانيّون والبيلاروس شرقيّون، أسسوا أول دولة لهم في القرن الثامن ثم اتخذوا من كييف عاصمة وكانت تمتدُ من البلطيق شمالاً إلى البحر الأسود جنوباً وتُعرف بـدولة روس كييف” 862 للميلاد بقيادة Rurik، الذي يُعتبرُ مؤسس الإمارة الروسية الأولى حيث حكمَ أحفادهُ من بعده 800 عاماً. إذاً؛ هوية الأمة الروسية تأسست في أوكرانيا ثم انتقلت لاحقاً إلى موسكو التي تُعتبرُ ابنة كييف.

أوكرانيا هي الخطأ الأكبر للفلاشفة عندما أحدثوها عام 1918، لطالما كانت أراضي شرق أوكرانيا تتبع روسيا، وكانت تسمى روسيا الصغرى وسادت فيها الارثوذكسية، وأراضي غرب أوكرانيا كانت تتبع الامبراطورية النمساوية الهنغارية أو بولونيا، ومن بولونيا دخلت الكاثولوكية.

تأثير النظام العالمي الجديد على سوريا

ما نراه في مركز فيريل أنّ عالم القطب الواحد دخل غرفة الإنعاش بتاريخ 30 أيلول 2015. لكن هل زوال سيطرة هذا القطب مصدر خير لسوريا؟

تأثيرات الجانب الاقتصادي والمعيشي تجتاح العالم دون استثناء، لكن ماذا عن الجانب السياسي والعسكري؟ من سوء حظ سوريا أنّه وفي سياق السيطرة عليها، تم تفعيل العاملين؛ النزاع الداخلي والخواصر الرخوة، لبنان والأردن. بالإضافة للأعداء الخارجيين التاريخيين.
هل نخاف على سوريا؟ اقرأوا التاريخ جيداً، في كل مرة يتشكل فيها نظام عالمي جديد، تدفعُ سوريا تدفع الثمن جزءاً من أراضيها؛ خلال الحرب العالمية الأولى تمت اتفاقية سايكس بيكو بين لندن وباريس وتقاسموا فيها سوريا الكبرى. عندما تشكل النظام العالمي بعد الحرب العالمية الأولى 1918، كان الثمن كيليكيا وتشكل كيانات جديدة (لبنان والأردن). ثمن عدم مشاركة تركيا في الحرب العالمية الثانية كان لواء اسكندرون. بعد الحرب العالمية الثانية كان الثمن اقتطاع فلسطين وقيام الكيان الصهيوني.

نحن الآن في العام 2022 وفي معمعة تشكيل نظام عالمي جديد، فهل سيكون الثمن أيضاً اقتطاع جزء كبير من سوريا!

ختاماً

لعل القاسم المشترك بين كل ماذكرته، أن الصراعات كانت دائماً وأبداً، صراعات إرادات، فرضٌ أو كسرٌ. صراعات منظومات أخلاقية ثقافية في بعدها الأهم، تظهر للعلن على شكلها السياسي أو حتى الاقتصادي.


في دوري الأمم الأوروبية وفي المباراة التي جمعت انكلترا وإيطاليا ، تم إضاءة الملعب من الخارج بعلم المثلييين، وكان كابتن منتخب انكلترا هاري مين يرتدي إشارة الكابتن على شكل علمهم الملوّن، وليس على شكل علم بلاده، كما ينص البروتوكول. تكرر ذلك في مباراة ويلز وهولندا، حيث فعل كابتن منتخب ويلز غاريث بيل فعل نفس الشيء، هذا الأمر لم يحصل في بقية المباريات، ما المقصود من هذا الفعل المُكرر؟.
رافقت الصراع الأوكراني الروسي، حملة غربية شعواء على روسيا، وعلى بوتين تحديداً، ليس لأن هناك تنازع على مصالح جيوسياسية فحسب، هذه هي الواجهة، إنما هو صراع بين ثقافة شيطانية ووعي مضاد لها. هل أخبرتكم أين يقع قرن الشيطان الذي عنونت مقالي به؟ تلك الاحتفالات في 02 حزيران 2022 بمرور 70 عاماً على جلوس الملكة إليزابيث الثانية على العرش لم تكن مظاهر احتفالية فحسب، تلك كانت طقوساً من نوع آخر… هناك حيثُ يوجد قرن الشيطان، قرن الشيطان الذي وصل إلى القِباب والمآذن في مناطق بعيدة عن مكان ولادته في قلعة Windsor Castle وما أدراكَ ما قلعة وينسدور؟. إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات 21.06.2022.