ماذا يجري في دير الزور وشرقي سوريا المُحتَل؟ الدكتور جميل م. شاهين 09.09.2023

ماذا يجري في دير الزور وشرقي سوريا؟ الدكتور جميل م. شاهين 09.09.2023 بحثٌ من مركز فيريل للدراسات.

اشتباكاتٌ عنيفة في ريف دير الزور بدأت منذ أسبوعين، استمرت حتى مساء الجمعة 08.09.2023 على الأقل، قبل التوصل لاتفاق هدنة قد تكون مؤقتة، بضغط من الاحتلال الأميركي عبر وفد من الخارجية دخل الأراضي السورية عبر شمال العراق. ظاهرياً نجحت واشنطن بإيقاف المعارك، لكنها لم ولن تنجح بكسب السلام لتمرير المشروع الانفصالي… نخوض اليوم في هذا الموضوع والذي يشغلُ وسائل الإعلام والشرع السوري، بتوسع إلى حد ما مع بعض المعلومات الخاصة.

الوضع العسكري الحالي في دير الزور

هدنة مؤقتة والقتال سيعود

اليوم السبت 09 أيلول 2023، هدنة يجب أن تكون مؤقتة، بعد إعلان عصابات قسد انتهاء العمليات العسكرية “الأساسية” في ريف دير الزور. الهدنة وبيان عصابات قسد جاءا بعد وساطة أميركية قام بها مساعد وزير الخارجية الأميركي Ethan Aaron Goldrich، وهو الديبلوماسي الذي طُرِد من بيلاروسيا ثم عمل في الإمارات قبل الاستغناء عنه بسبب تجسسهِ..

صيغة بيان العصابات كانت مليئة بالتحدي والانفصالية، والاتفاق كان مُخزياً بحق العشائر واتهم صراحةً مَن اعتقلتهم بتجارة المخدرات: (نُعلنُ إيقافَ عملية “تعزيز الأمن” التي أطلقت في 27 آب الماضي ضد خلايا تنظيم داعش وتجار المخدرات والعناصر الإجرامية المطلوبة للعدالة).

الانفصالية ظهرت باتهام قوىً خارجية وعلى رأسها “قوات النظام السوري”، بخلق فتنة ما بين الأهالي والعصابات، وحسب مزاعم قسد أنهم قاتلوا عناصر من الجيش السوري تسللوا من غربي نهر الفرات وانضموا إلى جيش العشائر.

نظرياً على الأقل؛ الاشتباكات انتهت ونراها في مركز فيريل “انتهت مؤقتاً” ويجب أن تكونَ مؤقتة، والباقي عند صنّاع القرار. بدأ دخول العصابات لعدة قرى شرقي الفرات سيطر عليها مقاتلو العشائر، مع تسليم بعض الأسلحة الثقيلة، وكأنك يا بو زيد ما غزيت.

قسد زعمت أن عدد القتلى 63 من الجانبين مع المدنيين، بينما نؤكد في معلومات وردت مركز فيريل للدراسات أنّ عدد القتلى تجاوز 200 شخص من الجانبين، بينهم عشرين مدنياً، بالإضافة لمئات الجرحى في أعنفِ معارك بين الجانبين ستتركُ بصمتها طويلاً.

مارست قسد المدعومة أميركياً، كافة أنواع الحصار على القرى التي تؤيد العشائر ولو قولاً، فقطعت المياه والكهرباء والطحين عن السكان، في محاولة للحصول على معلوماتٍ تؤدي لاعتقال أيّ مُسلّح يدينُ بالولاء لغيرها.

قسد في وضعٍ هو الأسوأ منذ تأسيسها

من خلال تصريحات المسؤولين الكبار في قسد الانفصالية، ودعواتهم للتهدئة ووأد الفتنة، حسب زعمهم، نُدركُ المأزق “الغبي” الذي وضعت زعامات هذه العصابات نفسها فيه. التصريحات تبدو مشابهة تماماً، بل كوبي طبق الأصل عن مثيلاتها في المنطقة، مع عدم مراعاة حقوق التأليف. فنقرأ مثلاً: (التوتر بين الأشقاء لا يخدمُ سوى الأعداء). (لابد من تخفيف الأعباء عن المدنيين في سوريا، وإيقاف هذه الاستباكات بين الأخوة). (هناك أطرافٌ خارجية تستفيدُ من هذه التوترات، بهدف التشجيع على فتنة عربية كردية في المنطقة، عن طريق تعزيز خطاب الكراهية وإثارة النعرات الطائفية). (ما يجري مؤامرة علينا لإفشال نجاحنا في الديموقراطية وتأسيس نظامٍ تعددي يخدمُ مصالحَ الشعب)….

هذا النوع من الخطابات والتصريحات، يُشيرُ إلى ضعفِ حجةِ قائلهِ ونزوعهِ نحو التهدئة، لأنّ الاستمرار بالاشتباكات ينعكسُ سلباً على استمرارية الوضع الحالي هناك، هذه وجهة نظر. وجهة نظرنا في مركز فيريل للدراسات: وجود ميلشيات قسد بكاملها باتَ محل سؤال، رغمَ اتفاق وقف إطلاق النار والتدخّل الأميركي وتراجع العشائر، لكن هذا لا يعني أنّ القادم هو بالضرورة تحرير الجزيرة السورية من الاحتلالين الأميركي والانفصالي. سنتابع التوقعات في نهاية البحث.

قبيلة العقيدات من طيء، رجال لا يهابون الموت

رغم الأنظمة السياسية المتنوعة في الشرق الأوسط، الملكية والجمهورية والبرلمانية وغيرها، ورغمَ الأنظمة القومية والدينية وموجات الوطنية العارمة، إلا أنّ هذاكله فشلَ في محو قوة الانتماء للعشيرة وبشكل أوسع القبيلة. يُضاهي هذا الولاء بل يتفوّقُ على باقي الانتماءات. هنا نتساءلُ مَنْ هي قبيلة العقيدات ومدى قوتها وانتشارها؟

قد لا تكونُ العقيدات، أو العكيدات، هي الأكبر والأوسع انتشاراً في المنطقة لوجود قبائل أخرى كبيرة مثل البكارة “البقارة” وشُمّر، عِلماً أن مؤرخين كُثُر ينسبون شُمّر لقبيلة طيء أيضاً، وبالتالي تكون العقيدات وشُمّر من أصل واحد. بجميع الأحوال؛ تبقى قبيلة العقيدات من أكبر القبائل في سوريا والشرق الأوسط وتنحدرُ من قبيلة طيء الشهيرة بالشجاعة والكرم. العقيدات قبيلة عربية زُبيدية، موطنها الأصلي قبلَ الهجرات هو منطقةُ حائل في الشمال الأوسط للجزيرة العربية، آخر هجرة لها إلى أطرافَ الفرات كانت بين 1400 و1500 للميلاد، لكنّ قبيلة طيء “الأم”، وحسبَ المؤرخ الإيطالي  Hippolytus of Rome وصلتْ غزواتها ضفاف دجلة والفرات منذ القرن الثالث الميلادي، فكانت من أوائل القبائل العربية التي سكنت سوريا. بعدها استقرت عشائر منها في المنطقة منذ القرن الخامس للميلاد، واعتنقت المسيحية منذ ذلك الوقت، كما يؤكد ذلك المؤرخ السرياني John of Ephesus يوحنا الأفسس عام 540 للميلاد الذي عاش في ديار بكر شمال سوريا.

المؤرخ الألماني الشهير Max Freiherr von Oppenheim المتوفي عام 1946 يقول عن قبيلة العقيدات: (العقيدات أكبر قبائل بلاد الرافدين، محاربون أشدّاء من أشجعِ قبائل المنطقة، قاتلوا العثمانيين والفرنسيين والإنكليز. يدافعون عن حريتهم وكرامتهم بأرواحهم). فيريل للدراسات.

السبب المباشر لـ “ثورة العشائر”

سنُطلقُ على ما حدثَ وسيحدثُ مجازاً اسم ثورة ضد قسد، ولنرَ السبب بعيداً عن أية مبالغة يتناقلها الإعلام من الجانبين.

نتحدثُ هنا عن السبب المباشر وهو اعتقال ميليشيات قسد لأحد زعمائها “أحمد الخبيل” المُلقب بـ “أبو خولة”. الاعتقال جرى باستدراجهِ بطريقة خبيثة من دير الزور إلى ريف الحسكة في قاعدة “استراحة الوزير” مع مرافقيه، بحجة عقد اجتماع عسكري هام للميليشيات برعاية أميركية مباشرة.

زعماء قسد ووراؤهم الاحتلال الأميركي لم يتوقعوا ردة الفعل على خطوتهم الغبية، ولم يتوقعوا أن تُشاركَ العشائر في المعارك الدائرة بين طرفي النزاع، وهذا يقودنا إلى وجود مجموعة أسباب رئيسية أخرى لما يجري، أي أنّ اعتقال أبي خولة كان مجرد شرارة.

مَنْ هو أحمد الخبيل؟

يُصوّرهُ أعداؤهُ بأبشع الصوَر، بينما يعتبرهُ أتباعه بطلاً، وهذا ينطبقُ أيضاً على الإعلام بكافة ميوله.

أحمد الخبيل من قرية “ربيضة”، قرية صغيرة على ضفاف الخابور  شرقي دير الزور بـ50 كم، تتبع إدارياً لناحية الصَوَر وتبعد عنها 7 كم. ينتمي إلى عشيرة البكيّر الجامليّة، وهي من قبيلة العقيدات الزبيديّة، التي مرّ ذكرها قبل قليل. تُنسَبُ عشيرة البكيّر  إلى “بَكر بن محمّد الجامل الغنّام بن علي بن سالم” ولها ثلاثة أفخاذ رئيسية. هي الكبيصا والحسن والفرج. لماذا نشرحُ هذا في مركز فيريل؟ ستعرفون بعد سطور.

مع اندلاع الأزمة عام 2011، شكّلَ أحمد الخبيل مجموعةً من الشبان، ومعظمهم أبناء عمومة، ممن يمتلكون درجاتٍ نارية، من قريته والقرى المجاورة مزوّدين بأسلحة خفيفة متوفرة دائماً. رغم تطوّر الأحداث وتشكيل ميليشيات وعصابات لقتال الجيش السوري، بقيَت مجموعة أحمد الخبيل على الحياد إلى حدّ ما. لم يستمر هذا الحياد طويلاً، فمعَ إعلان تنظيم داعش تأسيس الخلافة بتاريخ 29 حزيران 2014، وزحفه جنوباً ومحاصرة دير الزور، بايعَ الخبيل داعشَ واضعاً رجالهُ في خدمة أبو بكر البغدادي.

تحت راية الخلافة الإسلامية داعش، تمدّد أبو خولة معتبراً نفسَهُ أميراً على المنطقة، وازداد عدد أتباعهِ مشكلاً عدة خلايا مارست البطش والسرقة. هذا الأمر أزعج زعماء داعش، فاعتقلوا أحد مساعدي الخبيل وقطعوا رأسهُ. أحسّ أبو خولة بالخطر فهربَ إلى المناطق الحدودية مع تركيا في ريف حلب، طالباً من أتباعه التمرّد على داعش.

عقِبَ الإعلانِ عن تأسيس ماسُمّيَ بـ “قسد” من قِبل الولايات المتحدة وبدء توسعها واحتلالها لأجزاء واسعة من الجزيرة السورية، وانضمام مجلس دير الزور العسكري المعارض، رأى هؤلاء في أحمد الخبيل أفضلَ تابع لهم، خاصة وأنه تواصل معهم أثناءَ إقامته في ريف حلب، فقاموا بتعيينه قائداً لهذا المجلس بعد تقديمه الولاء لقسد وأهدافها.

مع دحر الجيش السوري لتنظيم داعش وفك الحصار عن دير الزور، وتوسع الاحتلال الأميركي على الضفة الأخرى ومعه أتباعه من الاتفصاليين، عادت مجموعة أبو خولة للتمدد لكن تحت راية الأميركيين، ولإثبات ولائه قمعَ كلَّ مظاهرة أو حراك ضد الاحتلال وفساد قسد، وآخرها مظاهرة قرية “جديدة بكارة” جنوب دير الزور  في تشرين الثاني 2022، والتي طالبت بتغيير رئيس البلدية والمجلس المحلي الفاسد. في تسجيل مصوّر بتاريخ 04 تشرين الثاني 2022 هدّد أحمد الخبيل المتظاهرين بالموت واتهمهم بالتبعية لدمشق وأنقرة!

إلى هنا كان ولاء أحمد الخبيل للانفصاليين وواشنطن، ظاهرياً على الأقل، مع حصوله على تغطية وحماية له ولأتباعه في كلّ ما يفعلونه، وميزانية مالية كبيرة.

سبقَ وحاولَ أحمد الخبيل أن يصبحَ شيخَ عشيرة البكير، لكنّه لاقى معارضة كبيرة. لم تتوقف أطماعُهُ، فقبل شهر فقط من إعداد هذا البحث في مركز فيريل للدراسات، وجّهَ أبو خولة رسالة تهديد بلغة قذرة لأحد وجهاء العشائر الذي رفَضَ مبايعته “أميراً” على ما أسماهُ “إمارة زُبَيد”، التي ينوي تأسيسها وتضمُّ مساحاتٍ واسعة من ريف دير الزور حتى الحسكة!

المؤكد أنّ اتهام أحمد الخبيل بتجارة المخدرات واغتصاب النساء وفرض الأتاوة على الأهالي، وغيرها من الجرائم المنسوبة إليه، لم تُحرّك عصابات قسد نهائياً لأنها شريكة له. الذي حرّكها هو الأميركي الذي رأى في أطماع أبي خولة إنذاراً خطيراً حول استمرار ولائه وطاعته، وشعر المحتل الأميركي أنّه سيصبحُ قريباً خطراً عليه، وقد يقوم بالانفصال عن عصابات قسد مُسيطراً على ثروات دير الزور الزراعية والباطنية والمائية، وتعيينه لنفسه شيخاً على عشيرة البكير كما ظهر في عدة فيديوهات. فشلتْ محاولات اغتياله بأوامرَ من واشنطن، فكان لابد من اعتقاله مع نائبه وأتباعه المقربين، وهذا ما جرى.

هل نحنُ أمام مقاومة للاحتلال؟

السؤال الأهم: ما هو هدف “ثورة العشائر”؟ لأنّ الإجابة على هذا السؤال تُعطينا فكرةً عمّا يجري شرقي الفرات دونَ “بهارات”. جرت عشراتُ المظاهرات والاشتباكات بين العشائر وعصابات قسد على مدى السنوات الماضية، سقط خلالها مئات القتلى بما في ذلك أطفال ونساء، والأسباب بمعظمها معيشية ومطالبات بمحاربة فساد قسد وزعماءها على اختلافِ أسمائهم. بينما رأينا أنّ معظم المُطالبات في المظاهرات كانت تنصبُّ حول إقالة الزعيم فلان لأنه فاسد، أو تأمين مواد ضرورية، وأخيراً ضد تعسّف إرهابيي قسد وسرقة أموال الناس، واعتقال الشباب وسوقهم للخدمة في صفوفها بالقوة. رفعَ المتظاهرون على الأغلب أعلام الانتداب الفرنسي بينما بقي العلم السوري غائباً إلا ما ندر.

مع توسّع الاشتباكات وإعلان عشيرة العقيدات الرئيسية “النفير العام ضد قسد”، طُلِبَ من المسلحين مؤازرة مجلس دير الزور العسكري، وهو جناحٌ مُسلّح مُعارض أصلاً. كما طالبَ أصحابُ النفير واشنطن بالتدخل لإطلاق سراح المعتقلين… إذاً؛ إطلاق صفة “مقاومة وطنية” على ما يجري في ريف دير الزور حالياً، أمرٌ مُبكّر وغير صحيح لكن… يجب استغلالهُ إلى أبعد حدود، وهنا يأتي دور دمشق أولاً وثانياً بعيداً عمَّنْ يُسمّونَ “تجاوزاً” حلفاء…

هل ما حصل هدّم بناء عصابات قسد؟

 
تمّ تشكيل تنظيم قسد على أساس عرقي، وعندما وجدوا أنفسهم سيبقون محصورين في بقعة جغرافية لا تتجاوز بضعة كيلمترات مربعة، اضطروا لضمّ أفراد من أبناء العشائر والذين سُرعان ما أصبحوا يُشكلون 70% من هذا التنظيم. لكن من المُبكر القول أنّ عصابات قسد الانفصالية قد انتهت أو  على الأقل في طور التفكك، لماذا؟

لأنّ إعادة تدوير قسد ومخلّفاتها أمر ممكن ولن يكون صعباً على التحالف الذي أسسها، وجبهةُ النصرة الإرهابية خير مثال، صحيحٌ أن عملية اعتقال أبي خولة وبأوامر أميركية، كانت خطوة متهورة، إلا أنّ واشنطن تسعى اليوم لتدارك الخطأ وإصلاح ذات البين، وإن وجدت ضرورة مُلحة، أعادت تدوير قسد.

بحيادية نقول؛ معظم الأدلة والشكاوى تتجّهُ لاتهام أحمد الخبيل وجماعتهِ بالفساد على مدى السنوات الماضية، إلا أنّ التحالف ووراءهُ عصابات قسد رفضتْ الاستجابة لطلب الأهالي بعزلهِ سابقاً، وحتى مجرد فتح تحقيق بما نُسبَ إليه من جرائم مع الأولة والشهود، والسبب هو ولاؤهُ لقسد وقدرته على استقطاب المزيد من الأتباع بعد تكوينه لثروة طائلة جاءت من أعمالٍ غير شرعية، وأيضاً أنّهم أي قسد وواشنطن شركاءٌ في النهب والسطو وارتكاب الجرائم، فهل يصحُّ أن يعزلَ مجرمٌ مُجرماً؟!.

القضاء على عصابات قسد وتفكيكها يحتاجُ لعدة شروط أولها تكاتف أبناء العشائر  العاملين في صفوفها، وهم الأغلبية. فهل حدث هذا؟ لم يحدث ذلك طبعاً فالاشتباكات اقتصرت على المناطق التابعة لنفوذ أحمد الخبيل وعشيرته، مع بعض الاستثناءات. لكن، وهذا هام لمن يُريدُ أن يسمع ويقرأ…

 تتناقلُ بعض وسائل التواصل الاجتماعي أنباءً عن مداهماتٍ واعتداءاتٍ همجية على المناطق المؤيدة لأحمد، وقتلِ مدنيين بينهم ثلاثة نساء وطفلين، كما في قرية عَزبة وضمان التابعة لناحية البصيرة جنوب شرق دير الزور، مما حرّضَ على انضمام المزيد من مقاتلي العشائر  لصفوف مجلس دير الزور العسكري. استمرار هكذا هجمات قد يقلبُ الطاولة مع ضرورة تدخّل سوري حتى لو كان علنياً…

أعلنتْ قبيلة العقيدات الحرب على عصابات قسد، لكن

ليلة 30 آب الماضي، شيخ قبيلة العقيدات إبراهيم الهفل، حليفُ قسد السابق والمعارض للدولة السورية، أصدر تسجيلاً صوتياً يدعو فيه كافة قبائل دير الزور للاتحاد ومقاتلة عصابات قسد. هذه سابقة خطيرة مهما كانت قوة الاستجابة لدعوة الهفل. هنا جاء التحرّك الأميركي السريع لتدارك الإنفجار الأكبر، كي لا تستغلّ أطرافٌ أخرى، تتحرّكُ ببطء غير مُبرر، هذه الفرصة.

واشنطن لم تنجح في خطوتها في بداية الاشتباكات، لهذا رأت أنّ خير طريقة هي دعم قسد بالمزيد من الأسلحة والعتاد وتنفيذ بعض الغارات وتقديم الدعم اللوجستي والمعلومات العسكرية، لتسهيل مهمة العصابات في إعادة احتلال ذيبان مثلاً. وقد نجحوا إلى حد ما…

الاستجابة لنداء شيخ العقيدات إبراهيم الهفل لم تكن بالمستوى المطلوب، لكن حسب معلومات مركز فيريل للدراسات حدثت مشاورات وعُقدت اجتماعات في دير الزور والحسكة وحتى هنا في الغرب الألماني… شاركت فيها عدةُ أطراف ولعدة أهداف منها إجراء مصالحة بين قسد والعشائر، ورأب الصدع بين العرب والأكراد، وتحقيق بعض شروط العشائر، دون الموافقة على إطلاق سراح المعتقلين، لكن الطريق مازال صعباً. بينما تجري بالمقابل اجتماعاتٌ أخرى لتأسيس جبهة عشائرية واسعة بما يُشبهُ المقاومة الشعبية، بتدخلات تركية قبل أن تكون سورية.

العشائر غير موحّدة وولاءاتها متفرّقة

على العكس؛ وفي اليوم التالي لدعوة الشيخ إبراهيم لمقاتلة قسد، أي ليلة 31 آب الماضي، أحد زعماء قبيلة البكارة الشيخ هاشم البشير، دعا لوقف إطلاق النار وتأسيس مجلس شورى وبدء المفاوضات.

ميليشيا الصناديد التابعة لعصابات قسد، بزعامة حميدي دهام الجربا من شيوخ قبيلة شمّر  الكبيرة، أعلنوا ولاءهم المُطلق للعصابات، لكن إن ابتعدنا قليلاً شمالاً وغرباً نجدُ أنَّ عناصر من قبيلة شُمّر نفسها، يُدينون بالولاء لجيش الإخوان المسلمين الذي تدعمهُ المخابرات التركية في رأس العين وتل أبيض وإعزاز، وقسمٌ منهم هاجم مقرات عصابات قسد هناك.

عصابات قسد فشلت في مهمتها الانفصالية حتى الآن

الوضع المعيشي للمواطن السوري سيء دون شك، لكن هناك سيء وهناك أسوأ. عانت الجزيرة السورية والمناطق الشرقية من إهمال الحكومات السورية المتعاقبة، عِلماً أنها خزان سوريا وشريان الحياة. لهذا وجدنا سهولة انضمام أفراد تلك المنطقة لأيّ فصيل عسكري يدّعي أنه سيجلب للمنطقة الاهتمام ويرفع من سوية حياة المواطن… فتنقلت الولاءات بين الجيش الحر، ثم داعش ثم قسد ثم… ولا يمكننا في مركز فيريل للدراسات أن نُلقي باللوم أو نُحمّلَ هذا المواطن “الجائع” مسؤولية ضعف ولائه.

عندما احتلت عصابات قسد المنطقة بدعم من الاحتلال الأميركي، توقّع سكان المنطقة على اختلاف انتماءاتهم أن تكونَ أفضل من الحكومات السورية ومن كافة النواحي. وراحوا يحلمون بالمساواة وبتوزيعٍ عادل للثروات والمناصب. خلال شهور فقط تبخّرت الأحلام، فالعصابات ومعها المعارضة دون استثناء، تنتقدُ الدولة السورية بأنها ديكتاتورية فاسدة تحكمها فئة معينة. فهل كانوا أفضلَ منها؟

حتى في خطابات العصابات من قلب القامشلي نرى تكراراً للخطاب الرسمي الذي يُعيبون على الدولة نشرهُ، فإذ بهم يُكررونه حرفياً. آخر ما حُرّرَ هي تصريحاتٌ لزعامات العصابات واصفين مقاتلي العشائر بـ “مندسي دمشق” والمرتزقة الذين يعبثون بالسلم الأهلي والعيش المُشترك! وأيّ عيش مشترك هذا؟!

كلّ ماورد يؤكد خيبة أمل الشعب هناك من عصابات قسد والاحتلال الأميركي، وهذا لا يعني أبداً أنهم سينقلبون للقتال إلى جانب الجيش السوري، لأنّ سوريا باتت مسرحاً لنفوذ دول العالم…

كيفَ يكونُ الحلّ حسبَ مركز فيريل للدراسات

يجب أن يكون الحلّ شاملاً للأراضي السورية كاملةً ويبدأ بتحرير الجزيرة السورية من الاحتلالين، والاحتلال الأميركي أولاً، لأنّ انهيار العصابات سيكون تحصيل حاصل بعد طرد الأميركي. سوريا خبيرةٌ بتشكيل المقاومة وقد فعلتها عدة مرات، فما لها اليوم باتت عاجزة!! أمرٌ غريب فعلاً.

لاولاءَ لجائع، قلنا ذلك مراتٍ، فكيفَ نطلبُ من المواطن الجائع المقهور أن يكون مخلصاً بالولاء لسوريا فقط؟ أيةُ وقاحة هذه أن يُطلبَ من الفقير تقديم روحهِ فداء لسوريا، بينما ابن الثري والمسؤول يتعاطى كافة أنواع الممنوعات في حانات فادوز؟

لا يمكنُ أن نطلب من ابن العشائر مقاتلة العصابات والاحتلال، قبلَ أن نؤمّنَ له احتياجاتهِ وعائلته وسلاحاً وذخيرةً؟ حتى هذا لا يكفي لأنّ المقاومة تحتاجُ لعقيدة قتالية وهدف سامي للمقاوم، وهذا فشلت به الحكومات السورية دون استثناء.

الخطابات الرنّانة والعواطف المهترئة لا تصنعُ مقاومة

هنا نعودُ دون شك لمحاربة الفساد والفاسدين، فابن الجزيرة السورية لن يعود إلى حضن الوطن وسط هذا الفساد الفاضح والتمييز في كلّ شيء.

التعويل والاتكال والانحياز التام إلى روسيا وإيران خطأ كبير

ليس من مصلحة دولة عدوة أو غير عدوة، أن تعودَ سوريا إلى عام 2010، وهنا لا نستثني دولة والاستثناءُ يكون في درجة تغليب المصلحة وقوتها. الذين يتنتظرون أن تتحرّك طهران أو موسكو لتحرير الجزيرة السورية، أو حتى مدّ يد العون والدعم العسكري والاقتصادي لتحقيق هذا الهدف، هؤلاء سينتظرون قروناً. الانحياز بشكل تام نحو جانب ومعاداة الجانب الآخر، هو خطأ سياسي، علينا المناورة مع الجميع والتعاطي ببراغماتية، والتجربة السعودية والتركية واضحة.

من مصلحة واشنطن أن تهدأ الاشتباكات في دير الزور لضمان استمرار الاحتلال الأميركي، لكن من مصلحة موسكو وطهران استمرارها، ليس من أجل التحرير بل لكسب أوراق ضغط ضد واشنطن، لكنهما لن تبالغا في ذلك منعاً من تطوّر الأمور لاشتباك مباشر، أي لن تقوما بتزويد العشائر بالسلاح والعتاد اللازم للتحرير أو تشكيل مقاومة شعبية إلا إذا وصلَ الخطر ديارهما.

سوفَ تُحرّكُ واشنطن ومعها العصابات خلايا داعش النائمة، لهذا نتوقعُ في مركز فيريل أن تُعلنَ عصابات قسد عن هروب “مفاجئ” لإرهابيي داعش من أحدِ سجونها، لتبدأ بعد ذلك هجماتٌ عديدة في كل مكان، هنا ستستغل واشنطن والعصابات الفرصة وبحجة محاربة التنظيم، لفرض سيطرتهما أكثر وقد تصل لاشتباكات مع الجيش السوري تحديداً.

نتوقعُ أيضاً تسارع خطوات الانفصال بعد شعور واشنطن بالخطر، ومحاولة إنجاز ذلك قبل انتخابات 2024 للمدعو جو بايدن، مع تغلغل الكيان الصيوني في الجزيرة السورية طبعاً، والذي يعرف المبعوث الأميركي وطبيعة عصابات قسد، يفهم القصد.

ما فعلتهُ العشائر يجب أن يتم استغلاله لصالح سوريا، والمعلومات التالية إن كانت صحيحة، لابُدّ من الاستمرار بها وبقوة مع دعم غير مشروط، وإلا سنرى تركيا ومعها أردوغان في قلب دير الزور. هناك اجتماعات وتنسيق بين شيوخ العشائر الكبار مثل الشيخ إبراهيم الهفل والشيخ نواف البشير والشيخ مهنا الفيّاض، ومحاولة استمالة الشيخ مصعب والشيخ هفل جدعان الهفل، وهذا الأخير حسب وسائل الإعلام، مقيم في الولايات المتحدة، وقد علم مركز فيريل أنّه تواجد في “غربي” ألمانيا قبل أسبوع لساعاتٍ قبلَ أن يستقل طائرة إلى شمال سوريا…

هنا نعود إلى العلاقة مع السعودية ودول الخليج تحديداً، هذه الدول قادرة على كسب ولاء العشائر  أكثر من تركيا وإيران وروسيا مجتمعين وفرادى. العلاقات مع الدول العربية مازالت سيئة وهذا خطأ كبير…

الحالة الأمنية لن تهدأ في شرقي الفرات، حتى لو تدخّل جو بايدن شخصياً. يجب ألا تهدأ هناك وفي كلّ شبر سوري يرزحُ تحت نير الاحتلال. البذرة زُرعت وعلى الجهات المعنية “الخبيرة” رعايتها والعناية بها بكافة الأساليب والطرق. الدكتور جميل م. شاهين. مركز فيريل للدراسات. 09.09.2023