هل بدأت الحرب بين سوريا وتركيا؟ الدكتور جميل م. شاهين

لاشك أنّ الوضع في إدلب خطير، وقد دخل مرحلة كسر العظم ليس بين سوريا وتركيا وحسب، بل بين واشنطن وموسكو، فهل ستتطور الأمور إلى ما هو أبعد من مجرد مناوشات عسكرية؟

تركيا تستنجدُ بالناتو بانتظار الضوء الأخضر

يجتمع الناتو اليوم الأربعاء في بروكسل لمناقشة الوضع الأمني في أوروبا والملف السوري. يتضمن جدول الأعمال لقاءاتٍ بين وزير الدفاع التركي خلوصي آكار بنظرائه الأميركي والبريطاني على إنفراد. لجوء تركيا للناتو يؤكد عجزها عن التصدّي وحيدة والردّ على تعرّض قواتها لقصف الجيش السوري ومصرع العشرات من جنودها، ونؤكد في مركز فيريل للدراسات على العشرات، فمشفى الريحانية الأصفر ومشفى الأمل في الريحانية بلواء إسكندرون المحتل، استقبلتا جثث الجنود الأتراك على مرآى من الجميع، وبعضهم كان في سيارات دفع رباعي. بينما يهدد أردوغان ويرفع بعد كل تصريح مع وزير حربه عدد الجنود السوريين الذين “حيّدهم” والمواقع التي قصفها. طالما أنّ أنقرة، كما يدّعي زعيمها، قادرة على الردّ على الجيش السوري، فما حاجتها للركوع أمام عتبات بروكسل؟!

طالما أنّ أنقرة، كما يدّعي زعيمها، قادرة على الردّ على الجيش السوري، فما حاجتها للركوع أمام عتبات بروكسل؟!

الحقيقة الواضحة الآن: الجيش السوري يتقدّم ويُحرّر، وتركيا مع جيشها عاجزة عن إيقافه، ولا يمكنها فعل المزيد سوى تزويد الإرهابيين بالسلاح المتطور لإسقاط الطائرات، والإستغاثة بالناتو.

أسقطت جبهة النصرة مروحية سورية بسلاح تركي، فقصفت الطائرات الروسية المنطقة التي إنطلق منها الصاروخ وجرحت عدة جنود أتراك، وهي إشارة واضحة من موسكو وتهديد مباشر. جنود أردوغان يموتون وإرهابيوه يخسرون عشرات القرى والمدن، مشروعه بإحتلال إدلب يفشل. جيشٌ تركي بات محط إستهزاء الجميع (مسخرةً للجميع) بما في ذلك الإرهابيين الذين يدعمهم… أمام كل هذا لا يمكنهُ الردّ سوى بالكلام، فماذا يفعل؟ لابد من الاستنجاد بالناتو والرضوخ لشروطه عسى أن يحصل على ضوء أخضر من واشنطن بالرد ليس على السوريين فقط، بل على روسيا…

المرحلة الأخطر بدأت

تمرّ العلاقات بين تركيا وروسيا بأسوأ مرحلة منذ إسقاط الطائرة الروسية 2015، وحسب مانراه في مركز فيريل للدراسات العلاقات ستسوء أكثر بين البلدين… اتفاقات سوتشي وأستانا ليست على المحك، بل دخلت غرفة الإنعاش، وليس هناك من حلّ سوى عقد إتفاقاتٍ جديدة أو العودة إلى ما دون الصفر. الشعب التركي “واحد” ومتوحّد خلفَ أردوغان، معارضة وأتباع، يطلبون منه “حرق سوريا“، لهذا عليه فعلُ شيء وإلا خسرَ كلّ شيء، لأنّ الأتراك يعلمون أنه كاذب في إنتقامه المزعوم.

الأتراك، معارضة وموالاة نسخة طبق الأصل في أهدافهم وحقدهم وغرورهم، وأية محاولة لتبييض ساحة قسم منهم، إمّا أن صاحبها لا يعرف أو له مقاصد أخرى. الشعب التركي واحد في كرهه لسوريا والعرب والعالم، كفاكم محاولات تبييض فاشلة. نعرفهم عن قرب…

استنجاد تركيا بالناتو هو طعنة متوقعة لروسيا، ولا أظنّ أنّ بوتين لم يكن يتوقعها، الأهم ماذا بيد روسيا لتردّ عليها إن ساءت الأمور أكثر؟ واشنطن ستكون المنتصرة فيما لو نجحت بإعادة تركيا إلى حضنها، وهو ما تسعى إليه. لن يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، ما تخطط له الولايات المتحدة هو دفعُ الأتراك ليكونوا رأس الحربة في مواجهة الروس في سوريا، وسحب البساط من تحت موسكو والإنخراط المباشر في إدلب كمفتاح لتقزيم الدور الروسي في سوريا، فهل سينكفئ الروس؟

ترامب في أقوى وضع

بعد تبرئته أمام الكونغرس الأميركي، كان أول تصريح خارجي لترامب هو أن الصين وروسيا هما أكبر التهديدات لبلاده واصفاً يوم الإثنين الدولتين بـ “الخصوم”، وتصميمه على أن تكون الولايات المتحدة أقوى دولة نووية في العالم، يعني أنه ماضٍ في إعادة الهيمنة الأميركية المتراجعة على الشرق الأوسط. إذاً لابد من دحر روسيا في سوريا وبالتالي في الشرق الأوسط كاملاً، وهل هناك أفضل من “التابع” التركي لهذه المهمة؟ موسكو دون شك تتحكّمُ بخيوط اللعبة في سوريا. ترامب يقتربُ من تجديد ولايته وهو بحاجة لانتصارات سياسية وعسكرية، وعليه سحب هذه الخيوط والإمساك بها جميعاً أو ببعضها على الأقل. هدفٌ آخر، دعم تركيا سيزيد الشقاق بين طهران وأنقرة ويُضعفُ الأولى لتكون الخطوة القادمة إنسحاب إيران من سوريا نهائياً تمهيداً لسحبها من العراق أيضاً. فهل سترضى القيادة الإيرانية بذلك وتُصرّ على المصالحة بين دمشق وأنقرة!؟

حدوث اشتباك بين القوات الروسية والتركية وحسب رأي محللين ألمان هنا في برلين، أمرٌ مستبعد حالياً وتتجنبهُ تركيا قبل روسيا، لكن حدوث هذا الإشتباك لاحقاً سيعطينا فكرةً عما جرى في إجتماع الناتو اليوم.

توقعات مركز فيريل للدراسات

سوريا وروسيا لن تتراجعا عن عملية تحرير كامل إدلب وريف حلب بسبب تهديدات أردوغان وجيشه، التي لا وزن لها. توقف العمليات العسكرية لن يكون إلا في حالة تهديد وتدخّل جدّي من قبل الناتو أي الولايات المتحدة الأمريكية. الأيام القليلة القادمة ستحملُ لنا مدى جدية ما صدر عن واشنطن؛ هل ستتدخل مباشرةً بعمليات عسكرية “جوية” ضدّ الجيش السوري وكالعادة توعزُ لتل أبيب بغارات على أهداف سورية، أم ستوكل المهمة للجيش التركي وتبقى خلفهُ في حرب الوكالة؟ هنا سنرى مدى قوة الروس في دفاعهم عن مصالحهم أولاً وماذا هم فاعلون. أهو وقف إطلاق للنار وجلوس للمفاوضات وعقد إتفاقات جديدة مع واشنطن قبل أنقرة؟ أم صدام عسكري…

روسيا لن تُحارب الناتو وليست على إستعداد لمواجهة الولايات المتحدة عسكرياً إلا دفاعاً عن موسكو، لكنها إن تراجعت، ستنتقمُ بتزويد ودعم الأكراد في سوريا وتركيا بالسلاح وزيادة إشعال النار في ليبيا. العلاقات الإقتصادية والعسكرية بين موسكو وأنقرة تميلُ لصالح روسيا بشكل كبير، فهل ستُعوضّ واشنطن تركيا عن خسائرها فيما لو قرررت المضي بعيداً في خلافاتها مع الروس؟ بالتأكيد لا وستُصاب بمقتل إن حدث هذا، فماذا تنتظر موسكو؟.

هنا أيضاً بإمكان سوريا فعل الكثير، ليس عسكرياً تجاه الناتو، ففارق القوة لا مجال لمناقشته، لكن تحريك ملفّ الإنفصاليين في الشمال السوري المحتل كافٍ للجم أردوغان، وعلى دمشق تفعيل ملف “العروبة” وملف “الإخوان المسلمين” وإمكانية مشاركتهم في الحكم، مع دول الخليج ومصر. قد نرى إتفاقاً جديداً مع تركيا خاصة فيما يتعلق بطريق حلب اللاذقية، رغم أنّ أنقرة تُطالب بتراجع الجيش السوري عن المناطق التي حررها. وقف إطلاق نار جديد يجب ألا يكون النهاية، بل مرحلة مؤقتة.

رأي لنا قد يراهُ البعض خطيراً، لكن الوضع بات دفاعاً عن الوجود، والهجوم خير وسيلة للدفاع. نحنُ في مركز فيريل للدراسات من مؤيدي الردّ بالمثل وفوراً، ولسنا من محبذي الردّ في الوقت والمكان المناسب. لا توجد دولة تسعى إلى الحرب المفتوحة بما في ذلك واشنطن خاصة قبل الإنتخابات، وخسارة جندي أميركي سيضعف موقف ترامب… تصعيد الهجمات على الجيش التركي وغير التركي… أفضل من أيّ وقف لإطلاق النار، فسوريا تُهاجم جيشاً مُحتلاً يدعم جبهة النصرة الإرهابية بإعتراف واشنطن نفسها. الناتو لن يُحارب روسيا مباشرة لا في سوريا ولا في أيّ مكان آخر، والعالم كلهُ بما في ذلك أوروبا ستقف على رؤوس أصابعها إن شعرت بالخطر… الخطر من وصول النيران لأراضيها أو من موجات لاجئين جديدة، وستركض لوقف الحرب.

الخطوات التركية واضحة ويقولها الآن أردوغان علناً؛ لقد زوّد الإرهابيين بصواريخ مضادة للطائرات، وهو يوزّعُ تهديداته لتطرق أبواب موسكو.

الدول العظمى بجيوشها الجرارة تتحاشى الحرب وتدفع بالدول الأخرى إليها، وها هي تركيا تتحضّر وتحشد وتنظرُ الدعم، فإلى متى ستبقى سوريا ساحة حرب تستنزف جيشها وإقتصادها؟ إنكفاء روسيا وتراجعها، والتغاضي عن “شمال قبرص جديدة” في سوريا، يعني أنّ أبواب موسكو ستكون “مخلخلة” أمام القادم… والقادم لن يكون إلا في صالح القوي الذي لا يتبع سياسة “النأي بالنفس” كي يبقى في جسده نَفَس… الدكتور جميل م. شاهين. مركز فيريل للدراسات. 12.02.2020