هل يفعلها بوتين مرة أخرى؟ الدكتور جميل م. شاهين

هل يفعلها بوتين مرة أخرى؟ الدكتور جميل م. شاهين. 04.12.2021. أمضى فلاديمير بوتين ليلة 23 شباط عام 2014 مجتمعاً بقادة جيشه ومخابراته العسكرية، ليخرج فجراً قائلاً: “يجب أن نُعيدَ جزيرة القرم إلى روسيا”. بعد ساعات اشتعلت شبه الجزيرة بالمظاهرات المطالبة بالعودة إلى الأرض الأم، روسيا. بينما كانت كامل أوكرانيا تشتعل بـ “ثورة الكرامة الأوكرانية” وأية كرامة هذه! بنفس الوقت؛ الكومندوس الروسي المتخفي بلباس أوكراني، يسيطر على كافة الدوائر الحكومية والعسكرية. ثم يتم تعيين سيرغي أوكسينوف رئيساً لحكومة القرم، فيجري استفتاءً وتعود القرم إلى روسيا خلال أقل من شهر بتاريخ 18 آذار 2014، بينما الناتو فاتح فاهُ…

الحشود العسكرية غير مسبوقة وأوروبا تعيش على أعصابها

يتمركز هذه اللحظة 120 ألف جندي أوكراني بمواجهة 100 ألف جندي روسي عند حدود البلدين. بينما الناتو يعقد إجتماعات ومشاورات تخرجُ بتهديدات ووعيد جاء على لسان جو بايدن: (سوف نقوم بمبادرات لحماية أوكرانيا من أي هجوم روسي وشيك. هذه المبادرات ستجعل من الصعب جداً على بوتين أن يكرر ما فعله).

عام 2014 فوجئت حكومات الناتو بما فعله بوتين، وأولهم السيدة أنجيلا ميركل التي قالت حسب Ralph Bollmann الذي يكتب سيرة حياتها: (لا أتخيل أنّ بوتين سيقوم بتدخل عسكري). كذلك عدة زعماء أوربيين أكدوا أن أقصى ما يمكن أن يمضي إليه بوتين هو زيادة التدخل السياسي في أوكرانيا. اليوم؛ يستعد هؤلاء الساسة للسيناريو الأسوأ، مؤكدين أنّ عيونهم مفتوحة ولن يسمحوا لروسيا هذه المرة.

روسيا حشدت بالإضافة لمائة ألف جندي، أسلحة ثقيلة على اليابسة، خلال عدة مناورات عسكرية أجرتها هناك منذ شباط 2014، هذه الأسلحة لم تعد إلى مواقعها، بل بقيت هناك حتى إشعار آخر. بينما بدأت مناوراتٍ جديدة يوم الأربعاء الماضي، ومعها عشرات السفن الحربية الروسية والأميركية والبريطانية والأوكرانية في البحر الأسود الذي تحوّلَ إلى مياه ساخنة في كانون الأول البارد.

ماذا يمكن أن يفعل بوتين؟

ما تخشاه كييف ومعها أوروبا هو هجوم عسكري روسي واسع، سيؤدي إلى اضطرابات داخلية تقوم بها عناصر موالية لروسيا أو الروس أنفسهم والذين يُشكلون 18% مع عدد السكان. هذه الاضطرابات قد ينجم عنها إنقلاب ضد الرئيس الأوكراني سيلينسكي التابع للغرب.

على فرض قامت روسيا بهكذا هجوم واسع، وهذا احتمال نراهُ في مركز فيريل للدراسات ضعيفاً، فإنّ الناتو لا يمكنهُ الوقوف عسكرياً بجانب أوكرانيا بشكل قانوني لأنها ليست عضواً فيه، حسب المادة 5 من معاهدة واشنطن. وما يمكنهُ فعلهُ هو تزويد كييف بالمزيد من الأسلحة، ومنها الطائرات بدون طيار التي زودتها بها تركيا، صديقة روسيا “المخلصة”، رغم ذلك لن تستطيع الوقوف بوجه الجيش الروسي، فالفارق بين القوة العسكرية للجيشين واسعٌ جداً. وعلى أوكرانيا مواجهة روسيا بمفردها.

بالتأكيد لدى موسكو دوافع كبيرة للقيام بعمل عسكري ما، أهمها الدفاع عن أمنها القومي بعد أن باتَت قوات الناتو على أبوابها وتحيط بها من كل جانب، وحتى أوكرانيا التي حاولت فرنسا وألمانيا ضمّها إلى الحلف منذ عام 2008 وفشلت بسبب التهديدات الروسية، دخلتها قوات من الناتو تحت غطاء تدريبات عسكرية مشتركة.

وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف تحدّثَ عن تحرّك قوات ونقل أسلحة ثقيلة من دول الناتو إلى الحدود الروسية، مُحذّراً هذه الدول من إغراق أوكرانيا في مغامرات عسكرية. هذه التحركات تُعرّضُ أمن روسيا للخطر ، ولهذا ستتخذ روسيا إجراءاتها الخاصة إذا لم يمنع الغرب أوكرانيا من مواصلة تهديداتها.

أوروبا تُهدد روسيا وتضرّ شعوبها

الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هددا بتطبيق عقوبات إقتصادية وسياسية كبيرة ضد روسيا، ومنها إيقاف مشاريع خط الغاز الروسي. هذا التهديد الأوروبي يُشابهُ تهديد شخص مريض لصيدلاني بعدم شراء الدواء منه.

الغاز هو الدواء لأوروبا التي هددت دولها “بغباء” أنها لن تستمر بتشغيل خط  Nord Stream 2 الروسي للغاز. أي أنّ أوروبا ستعاني من نقص إمدادات الغاز في بداية فصل الشتاء البارد، وهناك ولأول مرة حديث عن احتمال وضع خطة “تقنين” للكهرباء! علماً بأنّ 33% من الغاز في أوروبا يُستوردُ من روسيا. أسعار الغاز تضاعفت خلال الشهور الماضية فارتفعت منذ نهاية عام  2020 بنسبة 250% وهذا انعكس على إقتصاد تلك الدول وعلى المستهلك الأوروبي.  الأول من تشرين الثاني الماضي 2021، ارتفعت أسعار الغاز 11% بعد توقف خط الغاز الروسي عن الضخ إلى ألمانيا. ووصل سعرُ الغاز إلى 100 يورو لكل ميغا وات، مقابل 20 يورو  قبل عامين وقبل بدء وباء كورونا. المتضرر الرئيسي هو المواطن الأوروبي الذي سيدفعُ من جيبه هذا الفارق في الأسعار، بينما لا ضرر يلحق بالمواطن الأميركي.

يبدو أنّ الروس يخططون لهذه الأزمة الأوروبية المتفاقمة، ففي 15 أيلول 2021، وقبل بدء فصل الخريف، تقدّم 40 نائباً من برلمان الاتحاد الأوروبي بطلب تحقيق مع شركة (غازبروم) بتهمة خفض إمدادات الغاز في الأنبوب الذي يعبرُ أوكرانيا نحو ألمانيا. الروس طبعاً نفوا التهمة.

الحل العسكري أو التفاوضي من مصلحة روسيا والولايات المتحدة

في حال حدث هجوم عسكري روسي، سيعقّد الأمور أكثر. فإن استطاعت موسكو قلب نظام الحكم، ستأتي بحكومة أوكرانية تابعة لها، وهذه ضربة كبيرة للناتو وللدول الأوروبية كافة، وما ينتجُ عنه هو  الكشفُ عن مدى قدرتها على اتخاذ قرار عسكري بمعزل عن الولايات المتحدة، وعجزها عن مواجهة الدب الروسي في عقر دارها والهرولة نحو واشنطن لزيادة دعمها العسكري وإطلاق يدها أكثر كشرطي يتحكّمُ بسياسة وإقتصاد القارة العجوز.

إذاً الحلّ العسكري أو التفاوضي سيكون من مصلحة روسيا والولايات المتحدة، فهل تُدرك ذلك أوروبا؟

في حال اللجوء للتفاوض، تستطيعُ روسيا فرض شروطها، فتعقدُ اتفاقاً مع الولايات المتحدة بجعل أوكرانيا منطقة محايدة وإبقاء الناتو بعيداً عنها، فتُحققُ شروطها دون أن تطلق طلقة واحدة، وربما هذا هو الدافعُ الرئيسي وراء الحشد العسكري الروسي؛ التهديد للحصول على شروط تفاوض أفضل. تحقيق هذا الهدف سيرفعُ من مكانة موسكو أوروبياً وعالمياً، كشريك لا يمكن تجاهلهُ، ويجنبها بنفس الوقت المزيد من العقوبات.

الخاسر الأول أوكرانيا ثم الاتحاد الأوروبي

هذه حال الدول الضعيفة؛ ساحة حرب بكافة أشكالها وتفية حسابات بين الكبار. الرئيس الأوكراني طلب التفاوض وإجراء مباحثات مع موسكو، الرئيس بوتين لم يرد عليه، تجاوزهُ وتجاوز زعماء الاتحاد الأوروبي وفضّلَ التحدث مع الرئيس جو بايدن حول هذا الوضع. وهذه إشارة واضحة أنّ أمر كييف بيد واشنطن ولا يجوز الحديث عن قرار وطني سيادي أوكراني أو حتى أوروبي. التفاوض مع واشنطن يعني أنّ روسيا تسعى لإضفاء صفة وضع دولي خاصّ بأوكرانيا، وهذا إن حدث هو نصر روسي.

غزو روسي لكامل الأراضي الأوكرانية أمرٌ مستبعدٌ، لكن تحريك الوضع العسكري في المناطق الشرقية احتمال قوي. وهذا يعني زيادة تقسيم أوكرانيا وبالتالي زيادة متاعبها الاقتصادية والسياسية، وسيكون الشعب الأوكراني الخاسر الأول منذ عام 1991 وحتى يومنا هذا.

عندما كانت أوكرانيا ضمن الاتحاد السوفيتي، كان اقتصادها الثاني بعد روسيا. انهار الاتحاد السوفيتي وحاولت كييف الارتماء بحضن الغرب الذي استخدمها ضد روسيا، خاصة بعد عام 2014، والنتيجة خسارة المزيد من أراضيها ووصولها لمرحلة التفكك، وفتح أراضيها ساحة صراع بين موسكو وواشنطن. الوضع السياسي والاقتصادي لم يكن مثالياً قبل 2014 لكن السؤال الأهم: هل الوضع الآن أفضل منه قبل ما سُمّي (ثورة الكرامة الأوكرانية). هل يشعرُ المواطن الأوكراني الآن بكرامته وحريته؟

الغرب حرّكَ الشارع في كييف في شباط 2014 لقلبِ نظام حكم الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش، رغم أنه كان يُفاوض الأوروبيين لدخول الاتحاد الأوروبي ضمن اتفاقية شراكة بدأها عام 2012.  لكن عندما فكّر فيكتور، الرئيس المنتخب شعبياً، بالتمهل لتحقيق توازن في علاقات بلاده مع روسيا والغرب، تحرّك الشارع بعنف فلقي 131 شخصاً مصرعهم وتم عزل فيكتور من قِبل البرلمان نفسه، وعادوا إلى دستور 2004. وبدأت كييف تنصاع أكثر وأكثر لأوامر الغرب، التي بدأت بتحرير الأسعار  والأسواق والاقتراض من البنك الدولي والانسحاب من رابطة الدول المستقلة. وهذه الأخيرة كافية لإنذار روسيا من الخطر القادم. توريدات الطاقة لأوكرانيا بمعظمها روسي ولآجال بعيدة، بينما 85% من الغاز الروسي يمر إلى أوروبا عبر أراضيها، كل هذا والمطلوب من موسكو  أن تقفَ متفرجة!

ختاماً؛ مهما كان الحل؛ عسكرياً أم ديبلوماسياً، أوكرانيا هي الخاسرة لأنها دولة ضعيفة حاولت الانتقال من الحضن الروسي إلى الأميركي وفتحت أبوابها للجميع دون تخطيط. مركز فيريل للدراسات. 04.12.2021 الدكتور جميل م. شاهين.