أوروبا ترتجف. لندن وواشنطن تُحرّضان. والروس يشربون الفودكا “للإحماء”. الدكتور جميل م. شاهين

أوروبا ترتجف. لندن وواشنطن تُحرّضان. والروس يشربون الفودكا “للإحماء”. الدكتور جميل م. شاهين. مركز فيريل للدراسات. 23.02.2022

أوكرانيا أول الخاسرين

أوكرانيا خط أحمر لموسكو

بوتين نهض بروسيا اقتصادياً

الخطوة الروسية ليست الأولى ولن تكون الأخيرة

متى تكون أوكرانيا شرارة حرب عالمية ثالثة؟

العقوبات ضد روسيا تضرّ الطرفين

ربما يُلخص العنوان حقيقة ما يجري على الأرض حتى لحظة كتابة هذه السطور، لكنه بحاجة لإضافات وتفاصيل أخرى.

أوكرانيا أول الخاسرين

الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي الذي كان يُهدد مستجيراً بالناتو، رفع سقف مطالبه السبت الماضي 19 شباط أمام مؤتمر ميونيخ للأمن، مُطالباً الناتو بالتخلي عن سياسة “مهادنة” موسكو ووضعِ إطار زمني مُحدّد لتاريخ إنضمام بلاده إلى الحلف، في حين هددت نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس، وهي الحاكم الفعلي للولايات المتحدة، بتعزيز قوات حلف الناتو في أوروبا الشرقية إذا غزت روسيا أوكرانيا، متوعدة موسكو بعقوبات اقتصادية “قاسية وفورية”، وهذا ينطبق على رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين والأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبعد اعترافه باستقلال جمهوريتي لوهانسك ودونيتسك، أمر بإرسال قوات عسكرية إلى شرق أوكرانيا بعد موافقة الدوما، تحت عنوان “قوات ضمان السلام في الجمهوريتين، وحسب التقارير  الواردة، عبرت القوات الروسية الحدود إلى أوكرانيا قبل يومين.

إذاً؛ يتم حالياً تفكيك وتقاسم أوكرانيا بين الغرب والشرق، وهذ أول خسارة لهذه الدولة.

أوكرانيا خط أحمر لموسكو

تنصُّ معاهدة الصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة بين روسيا وجمهورية لوغانسك الشعبية، والتي أقرها بوتين بمرسوم يوم الإثنين، على فقرة “الدفاع المشترك” أي أنّ أيّ اعتداء عليها هو اعتداء على روسيا، وهذه خطوة أولى في أزمة ستطول ولن تنتهي دون دماء ودمار.

مُطالبة زيلينكسي الصريحة بانضمام بلادهِ إلى حلف الناتو تؤكد المخاوف الروسية وحق موسكو في الدفاع عن أمنها القومي أمام تمدد الحلف ومحاصرته لروسيا. هذا الانضمام إن حدث سيُشجع جورجيا أيضاً، ويكون هزيمة للاتحاد الروسي، لأنه سيصبحُ محاصراً من معظم الجهات برّاً وبحراً وجواً. والصواريخ الأطلسية لا تحتاج لأكثر من 4 دقائق كي تكون فوق موسكو.

يدرك الروس أنّ اللعبة صعبة لكنها دفاعٌ عن وجود، لهذا سيمضون بها إلى النهاية، وسيعززون قواتهم أكثر وإن اضطروا، سيجتاحون أوكرانيا ويصلون كييف، وهذا ما تسعى له واشنطن ومعها لندن.

التصعيد هو المسيطر، وأبواب التفاوض مفتوحة لكن بشروط روسية، والتفاوض هذا سيكون مع الولايات المتحدة فقط، فباقي الدول بما في ذلك الأوروبية، هي بنادق لا أكثر. الاتفاق الوحيد الذي سترضى به روسيا هو  جعل أوكرانيا منطقة محايدة وإبقاء الناتو بعيداً عنها، فتُحققُ شروطها دون أن تطلق طلقة واحدة، وهذا نصرٌ مجاني لن تقبل به واشنطن: نرى في مركز فيريل للدراسات أنّ إمكانية التصعيد أعلى من السلم حالياً على الأقل.

بوتين نهض بروسيا اقتصادياً

سواء اتفقنا أم اختلفنا مع بوتين، فله علينا أن ننصفهُ. دخل الكرملين كنائب لمدير الشؤون الرئاسية في آب 1996، يومها كان الناتج القومي الروسي 1363 مليار دولار، بتراجع عن عام 1993 بمقدار 227 مليار دولار. عِلماً أنه كان عام 1989 أيام الاتحاد السوفيتي 2660 مليار دولار.
بعد استقالة بوريس يلتسين وانتخاب فلاديمير بوتين في 26 آذار 2000 رئيساً، بدأ التحسن الاقتصادي الفعلي في الاقتصاد الروسي. فقفز الناتج القومي الروسي إلى 1635 مليار دولار. ليصل عام 2018 إلى 4227 مليار دولار بزيادة 258%، وهذا ما لم تشهده أفضل اقتصاديات العالم.  المعلومات من مصادر غربية وليست روسية طبعاً.
بين عامي 2000 و2008، ازداد الناتج المحلي الإجمالي بمتوسط 7% سنوياً وحجم الائتمان الاستهلاكي 45 ضعفاً. وتراجعت نسبة الفقر من 31% إلى 14%.

لاشك أنّ العقوبات الغربية وأزمة وباء كورونا أثرتا على الاقتصاد الروسي، رغم ذلك، بلغ نمو الاقتصاد في العام الماضي 2021 ، 4.6% وهي من أفضل النسب العالمية. مؤشرات التوظيف لدى روسيا أعلى منها في الاتحاد الأوروبي  مع نسبة بطالة متوسطة.

نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي منخفضة جداً ومن بين أدنى النسب في العالم، وبمعظمها ديون خارجية خاصّة.

معاناة روسيا من العقوبات الغربية الحديثة والقديمة موجودة دون شك، لكنها لن تصل إلى مرحلة إنهيار الاقتصاد كما يتمنى الغرب الذي سيدفع أيضاً ثمناً لهذه العقوبات من اقتصادياته. أما الحديث عن تعويض الغاز الروسي، فيحتاج لسنوات وليس كما قال وزير الاقتصاد الألماني اليوم: (يمكن لألمانيا الاستغناء عن الغاز الروسي تماماً)، كيف ومتى؟ لم ولن يذكر، لأن الأمر ليس بهذه البساطة، فلا قطر ولا الجزائر ومعها مصر قادرة على هذا التعويض ومعهم سفن الشحن الأميركية.

الخطوة الروسية ليست الأولى ولن تكون الأخيرة

سبق وأن حاولت جورجيا التحرّشَ بروسيا، عقب اجتماع رئيسها ميخائيل ساكشفيللي بالرئيس الأميركي جورج بوش الابن في 19 آذار 2008، وحصوله على الضوء الأخضر من واشنطن ووعد بانضمامها للناتو حسب تصريحات بوش وبيان البيت الأبيض: (جورجيا حليف هام في المنطقة، ولدينا تطلعات مشتركة حول طموحاتها الأوروبية الأطلسية). فقام الجيش الجورجي بتاريخ 08 آب 2008 بالهجوم على مقاطعتي أوسيتيا وأبخازيا المحاذيتين لروسيا، فما الذي حصل؟

خلال خمسة أيام حُسمت المعركة واستقلت جمهوريتا أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وتم ترويض ساكشفيللي وجيشه ومعهما أحلام الانضمام للناتو، لينتقل هذا الرئيس الجورجي من عاصمة لأخرى هارباً من قضايا فساد بمئات الملايين من الدولارات.

الذي يحدث في أوكرانيا مشابه لسابقتها جورجيا، لكنه أخطر وأكثر تشابكاً. للعلم؛ أحد شروط إنضمام أية دولة للناتو ألا تكون في حالة نزاع عسكري مع غيرها خارجياً أو داخلياً، شمل هذا الشرط جورجيا وباتَ يشمل أوكرانيا ويحتاج لاستثناء أو تغيير  لقبولهما في الحلف.

عندما سُئلَ بوتين عن احتمال انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو ، في حزيران 2021،أجاب: (سيتقلص زمن التحليق في هذه الحالة إلى 7 دقائق. أليس هذا خط أحمر بالنسبة لنا؟).

متى تكون أوكرانيا شرارة حرب عالمية ثالثة؟

احتمال انضمام أوكرانيا لحلف الناتو يزداد بعد الخطوات الروسية، وسيكون إن حدث بعد تغيير بنود الناتو، تصعيداً جديداً يُضيف للوضع المتوتر أسباباً لدوام الصراع وإمكانية تدهوره لصراع عسكري واسع.

يُمكن لروسيا أن تردّ على هذه الخطوة بعدة طرق، وعلى مبدأ “العين بالعين”، وقد بدأت فعلياً. يمكنُ أن تقوّي علاقاتها العسكرية مع دول أميركا الجنوبية ذات العلاقات السيئة مع واشنطن وأولها فنزويلا والأخطر كوبا، لنقتربَ من أزمة “خليج الخنازير” تشرين الأول 1962، عندما عاش العالم أسبوعين على شفا حرب نوووية بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأميركية.

تستطيع فتح باب العلاقات العسكرية مع إيران وسوريا بشكل أوسع، وهنا ستصطدم بتل أبيب، ولكن الأمر أصبح أبعد من المحافظة على علاقات “ذوي القربى”.

روسيا التي نسفت اتفاقية مينسك الأولى والثانية، تستطيع نسف كافة العقوبات عن دول “الشريرة” أميركياً، بدءاً من سوريا إلى إيران إلى كوريا الشمالية، وهنا ستكون ضربة موجعة للولايات المتحدة.

ويبقى أخطر ما يمكن أن تقوم به روسيا هو إنشاء حلف عسكري مع التنين الصيني، فالوضع بات بحاجة لدولة قوية بحجم الصين تقف بجانب روسيا في صراعها ضد 30 دولة. حلف عسكري روسي صيني سيقلبُ الموازين ويجعلُ التوازن قائماً. ولعل حفل افتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية 04 شباط الحالي، الذي كان رائعاً ويحمل رسائل هامة جداً، تم حجبها عن العالم بأخبار أخرى كما ذكرنا في صفحة مركز فيريل للدراسات على الفيس بوك. في بكين كان ضيف الشرف فلاديمير بوتين، والذي يقرأ جيداً، سيقرأ “نظام عالمي جديد” يمر عبر بكين وموسكو، وهذا سنبحثهُ بتفصيل.

ما ورد هو خطوات تسبق أيّ حرب واسعة قد تصل إلى العالمية، لتبقى الشرارة مشتعلة في أكثر من منطقة حول العالم، لكنها لا تكفي لإشعال حرب عالمية، لا تريدها الدول العظمى لأنها تعلم النتيجة، بعكس الصغار الذين يظنون أنها رحلة “طلاب إبتدائي”. الشرارة موجود في جمهوريات البلطيق وبولندا التي سيصلها 6 آلاف جندي أميركي مع معداتهم، وهذا تحرّش بروسيا دون شك، إلا إذا كان الهدف من وجود هؤلاء حماية هذه الدول من غزو فضائي وشيك!

العقوبات ضد روسيا تضرّ الطرفين

هذه حقيقة العقوبات ضد دولة قوية بحجم روسيا، فإيقاف العمل بخط السيل الشمالي 2 بقرار من برلين، رفع أسعار الغاز 10% والذي سيدفع هو المواطن الأوروبي وبعده الحكومات. قطر والجزائر ومصر كما ذكرنا، لن تستطيع تعويض النقص في الغاز الروسي، والروس لديهم الصين ستعوض باستيرادها جزءاً كبيراً من الغاز الروسي الذي تنوي أوروبا الاستغناء عنه. بالتالي؛ العقوبات تضرّ روسيا بقدر ما تضرّ أوروبا، وهنا ينطبق المثل الشعبي على الأوروبيين: “جكارة بالطهارة…”.

وسائل الإعلام الغربية وراءَ الرعب الأوروبي من اندلاع حرب كبيرة وسط أوروبا، بتضخيمها لحجم الجيش الروسي المرابط عند الحدود الأوكرانية، وشيطنة روسيا ورئيسها بوتين، ونسب كل ما يحصل لأطماعه التوسعية وكأن باقي دول الناتو ملائكة تمشي على الأرض. زاد من هذا الرعب دعوة الرعايا الأوروبيين لمغادرة أوكرانيا “بصورة عاجلة” بسبب خطر اندلاع نزاع مسلح في هذا البلد، وهذا ما ورد في بيان الخارجية الألمانية والفرنسية، وإيقاف الرحلات الجوية وتوقعات مراكز البحث الاستراتيجي ومعها المخابرات الأميركية ليوم 16 شباط ثم 22 شباط، ثم موعد لاحق، ضمن سلسلة كاذبة من الأنباء عن تحركات الجيش الروسي وبدء الحرب الواسعة. حتى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون شارك في البروباغندا: (تُظهر الأدلة أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يخطط لأكبر حرب في أوروبا منذ عام 1945)!.

مانراه أنّ الأزمة الأوكرانية لن تنتهي، فإن حصلت تفاهمات وهدأ الوضع، سيبحث الناتو عن بؤرة أخرى يُثيرها ضد روسيا، وهذا هو صراع الأمم الذي لا ينتهي وتدفع ثمنهُ الدول الصغيرة وشعوبها. الدكتور جميل م. شاهين. 23.02.2022