القضيــة؛ قضيــة مكسـب. د. جميل م. شاهين

 

 

في زيارة لي لأحد الأصدقاء الأطبـاء هنا في برليــن، وهو طبيب أسْـرة، كانت عيادتهُ تغصّ بعشرات المرضى من جنسيات مختلفة، قسـمٌ منهم لاجئون سُـوريون، كونها تقع بالقرب من أحد مراكز اللجـوء. الجميع متجمهرون حول المكتب وكأنهم على شـباك فـرن الزبلطـاني، أيـام زمـان…

أثناء عبوري مكتب الاستقبال استوقني أحد المنتظرين بطريقـة فجّـة. شاب ثلاثيني يحمل بيدهِ مجموعة أوراق، سألني: “الأخ بيحكي عربي؟” أومأت برأسي إيجاباً.

قال بلغة شامية ثقيلة، وهو يعطيني الأوراق:  “إجيت والله جابك أخي، يستر على حريماتك، شفلي هاي التحويلات لأي دكاتـرة؟”

قلّبتُ الأوراق، كانت سَـبع، أعلمته أنها تحويلات لأطباء اختصاصيين؛ جلدية، نسائية، بولية، قلبية، له ولزوجته.  

أشار ممتعضاً لممرضة الاستقبال وقال بوقاحـة: “أي لكانه قلها لهاي الحمـارة تعطني كمانه تحويلة لدكتور العينيــة.”

قلتُ له: “حمـارة! لا أرى حمـارة هنـا… يبدو أنك مخطئ في المكـان، الحمـارة موجودة في عيـادة الأطبـاء البيطريين، عليك الذهـاب إلى هنـاك…”

أحسّ ولم يُحـسّ، فابتسم متابعاً: “قصدي، هاي البطيخــة ما عم تفهم علينا، صرلي ساعة اشرحلها.”

يشرح لها بالعربية وهي ألمانية، هي حمـارة وهــو عبقـري! سـألتهُ: “هل تشكو من شيء في بصرك أو عينيك؟”

قال: “لا. لا. لا، الحمد لله، نظري ونظر حرمتي عشرة على عشرة.”

أعدتُ سؤالهُ: “إذاً لماذا تريد الذهاب لطبيب العينية؟!”

اقترب مني هامساً: “ولاك أخي بالمشـربحي؛  مكسب، أي أي مكسـب… صاححلنا، منقـول لاء؟”

أعلمتُ الممرضـة بطلبه، وتركتُ لهـا الخيار بتلبيتـه أو رفضهِ، فلبتْ بامتعاض وراحت تشكو لي أنها قررت أن تتقاعد قبل السن القانونية، لأنّ ما شاهدته وما عانت منه خلال السنة الماضية، لم تعاني منهُ خلال 40 عاماً في عملها بالتمريض. قلتُ لهـا: “هذا ما أرادتـه السيدة ميركـل، وعلينـا تحمّـل غباوتها.” أجابت بارتبـاك متجنبة الحديث عن ميركـل: “معظـم اللاجئيـن يطلبون تحويلات دون سبب، ولا أستطيع رفض طلبهم كي لا أتهـم بمعاداة الأجانب، وهي الحجـة الجاهزة لديهـم… وعلينـا دفـع الضرائب كي تذهب لهـؤلاء…”.

بحدسـه الخبيث أحسّ أبو المكسب بشيء ما، فسـألني: “كأنو حضرتها مو مبسوطة مني؟”

http://goo.gl/aya7ip

أجبتــهُ: “لديك سـبع تحويلات، أي أنك ستزور سبعة أطبـاء اختصايين دون سبب، وسوف تُكلّف الدولة المئات وربما الآلاف، وهذه الممرضة وغيرهـا ممن يعملون في ألمانيـا، ازدادت عليهـم الضرائب وارتفع التأمين الصحي، كي تعوّض الدولة العجز في صندوق التأمينـات الصحيـة.”

قالهــا ببـرود بيطـري: “أي مو الحق علينـا أخي، الحـق على ميركـل اللي قالتلنــا تاعــو…”

بالفعـل يا ميركـل، الحقّ عليكِ… هذه بعضٌ من النمـاذج الكثيــرة وليسـت الاستثنائية، من العقـول والخبــرات التي تريدين الحصـول عليهـا، هنيئـاً لكِ مكسـبك من عبــدة المكسـب، والبلاش… كتّـر منـو أخــي… ولنســتمع الآن للحديث عـن الكرامــة والمـوت ولا المذلــة، ولا تنســوا: حريــة حريــة حريــة.

الكاتب: د. جميل م. شاهين ـ برلين.