ماذا نُسمي الوجود الروسي في سوريا؟ الأستاذ زيد م. هاشم

بدأ الخريف العربي في تونس ثم راح يمتدُ لعدة دول عربية، بينما وقفت روسيا تُراقبُ دون تدخّل رغم أنها كانت حليفة لليبيا مثلاً، والسبب معروفٌ وهو تأرجح سياسة الرئيس الليبي السابق معمّر القذافي بين موسكو والغرب في ذلك الوقت وقبلهُ، حيث دخل بشراكة اقتصادية لفتح باب إفريقيا أمام الدول الغربية، كونه يملك نفوذاً كبيراً لدى زعماء أفارقة.

الأمر نفسهُ تقريباً حدث في العراق، فأثناء الغزو الأميركي لم تكن روسيا قد استعادت عافيتها وهي الخارجة من تفكك الاتحاد السوفيتي، كما أنّ صدام حسين مال إلى واشنطن أثناء حربه مع إيران، ثم غزا الكويت ليقع في الفخ الأميركي، فظهر أنه رجل حربٍ متهوّر وليس رجل سياسة، لهذا لم تراهن على الحصان الخاسر. انتظرت أن تغوص واشنطن في المستنقع العراقي. غاصت وأغرقت معها العراق فدمرتهُ وقتلت مئات الآلاف من المدنيين، ونهبت خيراته، لكنها استطاعت الخروج من هذا المستنقع تاركة دولة ممزقة تحكمها سلطة فاسدة متباينة الولاءات.  

استغلت روسيا هذا الوقت لترميم بنيتها الداخلية وتعزيز اقتصادها ومكانتها السياسية والعسكرية، فتخلّصت من تبعات الاتحاد السوفيتي ومن الفساد وحمت نفوذها الإقليمي في دول آسيا الوسطى، مغلقة الباب أمام الناتو الذي يحاول الدخول إلى تلك الدول المستقلة.

لماذا تدخلت روسيا عسكرياً فقط في سوريا؟

الوضع في سوريا كان غامضاً في البداية ولم يتصور أحد أنّ الأمور ستنزلق لما حدث، لهذا اقتصر دعم موسكو لدمشق على المجال اللوجستي. بعد تطور الأحداث ارتفع منسوب الدعم تدريجياً، ليصبحَ الصراع السياسي شرساً مع واشنطن في مجلس الأمن حيث استخدمت موسكو وبكين الفيتو عدة مرات وأسقطوا المخطط الأمريكي بغزو سوريا تحت البند السابع.

بعد أربع سنوات، عندما تأكدت موسكو أنّ واشنطن لن تتراجع عن غزو سوريا بشكل مباشر أو غير مباشر، حصل التدخل العسكري وتغيّرت السياسة الروسية من مراقبٍ بدعم لوجستي، إلى شريك مباشر في الحرب. السؤال لماذا سوريا؟

سوريا حليفٌ تاريخي موثوق لروسيا في الشرق الأوسط، ومن أوائل الدول التي اعترفت باستقلال سوريا وأقامت معها علاقاتٍ ديبلوماسية منذ عام 1944، وتطوّرت العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية عام 1950، ثم 1966 بمنح قرض سوفيتي لبناء سد الفرات، راجعوا بحث سد الفرات على موقع مركز فيريل لتتعرفوا على شروطه ومقارنتها بشروط الغرب. في عام 1970 باتت سوريا أهم حليف استراتيجي لروسيا في المنطقة.

سوريا لم تغدر يوماً بأصدقائها وحلفائها ومنهم الاتحاد السوفيتي والثقة بين الطرفين موجودة تاريخياً، ولمَن لا يعلم: في 8 تموز 1972 قام الرئيس المصري أنور السادات بطرد 20 ألف خبير عسكري واقتصادي سوفيتي من مصر، بدون أيّ سبب واضح. الطرد جاء بعد اتصالات مع واشنطن، رُغم أنّ الاتحاد السوفيتي هو الذي زوّد الجيش المصري بالسلاح الذي خاض فيه حرب تشرين 1973، وقدّم خبرات وتدريبات عسكرية يشهد لها قادة الجيش الذين بكوا عندما شاهدوا أصدقاءهم يرحلون دون سبب… هل اعترضت موسكو على هذا الطرد وهي القادرة؟ لا، انسحبت خلال أسبوع فقط، ماذا لو حصل هذا ضد الجيش الأميركي في أية دولة؟.

 
سوريا ذاتُ موقع جغرافي هام؛ حيث تحدها تركيا عضو الناتو، والعراق الذي تحتله الولايات المتحدة، والأردن القاعدة الأميركية، ولبنان المرشح الجديد وفلسطين، وهي قريبة من الخليج ومصر حيث القواعد الأمريكية الكبيرة. أيضاً؛ سوريا تُطلُّ على الساحل الشرقي للبحر المتوسط المواجه للناتو، وبهذا ستتمكن موسكو من مشاغلة أعدائها في مركز سطوتهم بالشرق الأوسط قبل الوصول إلى حدودها الجنوبية.


موقع سوريا هذا وإقامة قاعدتين عسكريتين فيها، يُمكنها من حشد أساطيلها البحرية وطائراتها الحربية وتأمين دعم لها دون أن يتمّ حصارها في البحر الأسود.

سوريا معبر لأنابيب الطاقة القادمة من العراق وإيران وقطر، وبدونها لا يمكن تمديدها، كما أنّها تمتلكُ ثروات باطنية لم يتم التصريحُ بها حتى الآن. كلّ هذا يدخل ضمن حرب السيطرة على مصادر الطاقة في الشرق الأوسط الأغنى عالمياً.  


سوريا تؤمّنُ لروسيا، بتواجدها القوي الدائم فيها، دوراً حيويّاً يردّ لموسكو تأثيرها في القرار العالمي، فالمُسيطر على الاقتصاد هو المُسيطر على السياسة، وحربُ الغاز تشتعل أكثر وأكثر، خاصة وأنّ روسيا أكبر مُصدريه، والمزيد منه يعني المزيد من القوة.

التواجدُ الروسي القوي في سوريا، يجعلها تُمسك مع واشنطن بقضايا المنطقة. دمشق مازالت تمتلك المفتاح، وهنا ستصبح موسكو عنواناً أساسياً في معادلات الصراع، مما يؤدي لبروزها كقوة عالمية موازية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

بناءً على كل ماورد؛ تريدُ روسيا أن تكون سوريا، وهي الدولة التي ستؤمّن لها مفتاح العبور نحو العالمية، دولة مستقرةً موحّدة. لهذا تسعى لترميم علاقتها مع محيطها وإجراء تسوية سياسية تنهي الحرب وتسحبُ أسباب الصراع. لأنه ببساطة لا يمكن لموسكو أن تجني المكاسب الجيوسياسية والاقتصادية بالمنطقة، ومكان نفوذها الأساسي معرض للخطر والاختراق من أعدائها.

ما هي مكاسب دمشق من روسيا؟

نُكرر لمن يتناسى، وجود خبراء عسكريين وجنود روس في سوريا ليس أمراً جديداً، الجديد هو أنه بسبب الحرب تضاعف العدد، والسوفيت مثلاً موجودون في طرطوس منذ عام 1971 ضمن اتفاقية بناء قاعدة عسكرية سوفيتية آنذاك.

تعتبرُ دمشق الوجود الروسي أمراً بغاية الأهمية، بسبب تشابك المصالح بقضايا المنطقة، كون العدو واحد وهو واشنطن التي تحارب النفوذ الروسي وتسعى لاحتلال سوريا… نُكرر؛ سعت وتسعى الولايات المتحدة لاحتلال سوريا.

سوريا دولة صغيرة الحجم، لا يمكنها الدفاع عن نفسها ضد دول كبيرة طامعة، لهذا هي بحاجة لدولة عظمى، روسيا هي الأفضل.

سوريا دولة نامية تعاني من حرب لسنوات طويلة، تحتاج لدولة متطورة تمدها بكافة الإمكانيات والخبرات ومستلزمات البناء الاقتصادي والعسكري، وتدعم مشاريعها بقروض مُيسرة بعيداً عن السيطرة والشروط المجحفة. تاريخُ روسيا وقبلها الاتحاد السوفيتي، شاهدٌ على الدعم بكافة المجالات.

الحضور العسكري الإيراني في سوريا، يُهدّدُ باندلاع مواجهة مع الكيان الصهيوني وأميركا والناتو، كما يُزيدُ من معاناة دمشق من العقوبات ويجعلها ساحة صراعات إقليمية مع محور السعودية، مما يُعرّض النفوذ الروسي للخطر.

ماذا نُسمي التواجد الروسي في سوريا؟

دعمت موسكو منذ عهد الاتحاد السوفيتي، الدول الموالية لها بقوة، كوبا وكوريا الشمالية وفنزويلا وسوريا وليبيا والعراق ومصر واليمن والجزائر ودول آسيا الوسطى وبعض دول إفريقيا… بحيث تكون قادرة على الدفاع عن نفسها، وكانت وفية بالتزاماتها دون تدخّل واضح بسياسة هذه الدول، ولم تجعلها تابعة لها. بالمقابل؛ دعمت واشنطن عشرات الدول الأخرى وأقامت فيها قواعد عسكرية، وكان التدخل الأميركي كبيراً في مفاصل الحكم في تلك الدول، بحيث باتت تابعة لها ومجرد حكومات كرتونية تأتيها الأوامر من واشنطن. هذه دول أميركا اللاتينية والوسطى ودول الخليج العربي وحتى الدول الأكبر والأقوى كاليابان وكوريا الجنوبية والفلبين… خير مثالٍ. هنا الفرق بين دعم واشنطن ودعم موسكو.

وجود قواعد عسكرية لروسيا في سوريا، أمر بغاية الأهمية لدمشق، فالصراع طويل الأمد مع الولايات المتحدة، وكما ذكرنا قبل أيام في مركز فيريل: “الولايات المتحدة لن تنكفأ ولم تتراجع في الشرق الأوسط، بل ازداد تدخلها وحضورها”،  لهذا على روسيا أن تحمي حليفتها دمشق لأنّ في ذلك مصلحة حيوية مشتركة للطرفين، فكانت الاتفاقات طويلة الأمد.

الحالم بنظرية “خلصت وفشلت” والذي يظنُّ أنّ واشنطن هُزمت في المنطقة عليه أن يبقى سابحاً في أحلامه. واشنطن لن تترك سوريا آمنة مستقرة، دون إثارة المشاكل لها وبكافة أشكالها. وكلما تعمّقت العلاقة مع موسكو ازدادت قوة دمشق، ووضعت روسيا ثقلها أكثر، إلى أن تصل لمرحلة الدفاع عن النفس وليس عن حليف فقط.


من السهل على المبتدئ بالسياسة أن يقول: “أليس من الأفضل لو انحازت سوريا إلى واشنطن وانتهينا”؟ وهل انتهت العراق من مشاكلها لأنها صديقة واشنطن؟

حاربت دمشق ومعها موسكو ولن تتراجعا قبل الوصول لمعادلة ردع بعيدة المدى. الحرب الباردة بدأت تدخل طور الاشتعال وشكل الحروب الناعمة وحروب الوكالة بالمنطقة، بملفات هامة ومعقدة وكثيرة تحتاج لتحضيرات واستعدادات قبلَ الانتقال لسيناريوهات أشمل وأخطر.

المبتدئ بالسياسة يريد أن تقول دمشق لموسكو: “شكر الله سعيكم، شاركتم وساعدتم في الحرب… حان الآن موعد الرحيل!”. هذا يحدث في باب الحارة وجلسات الأركيلة، وليس في صراع الجبابرة. مَن سيحمي سوريا في حروب الكبار ومن سيحمي ثرواتها وأرضها ضد الناتو و “الأشقاء” العرب؟ الجندي الروسي الذي قطع آلاف الأميال كي يقاتل في سوريا ملبياً أوامر قادته ومدافعاً عن روسيا وسوريا، لم يُفكر ماذا سيجني من وراء تضحيته بروحه… بينما حمل سوريّون السلاح ضد بلدهم من أجل تدميرها وتقديمها لواشنطن. روسيا التي قدمت مئات الضحايا و6 مليارات دولار كمصروفات الحرب، سيذهبُ عملها هباءً إن رحلت اليوم.

البعض يقول: “الاحتلال الروسي”، هؤلاء قسمان؛ كاره وحاقد على روسيا من المعارضة التي فشلت في قلب نظام الحكم، وآخر شُرّب بجرعة وطنية “مَرضية” مفاجئة يجلس في عاصمة ما أو في مقهى، ولم يحمل السلاح يوماً. يُسمّونَ الغزو العثماني الهمجي لسوريا “فتحاً” مُبيناً، والدفاع الروسي عن سوريا احتلالاً، أهو الحنين للدونية…

المبتدؤون الطارئون على السياسة لم يسمعوا بوجود مئات القواعد العسكرية للدول الكبرى حول العالم، حيث تمتلكُ فيها الولايات المتحدة عشرات القواعد! مَن يقولُ أنّ الوجود الروسي احتلال، عليه أن يقول أنّ الوجود الأميركي في هذه الدول: بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وأستراليا وبلجيكا والنرويج واليابان وكوريا الجنوبية… هو أيضاً احتلال.  

روسيا كغيرها من الدول لا تعملُ بالمجان لدى أحد، وعقدها لاتفاقيات طويلة الأمد مع سوريا يدل على أنها تعتبرُ هذه الدولة حليفاً قوياً دائماً، لن تسمحَ لدولة أخرى بالمساس بمصالحها فيها، وبالتالي حماية مصالح سوريا أيضاً. هو ردّ صريح على مدى تمسك موسكو بالقيادة السورية التي تُمثّلُ نظام حكم شرعي، لهذا لن نستغربَ إقامة المزيد من القواعد العسكرية الروسية وبدء حضور علني للصين.

تقوم واشنطن بترتيب صفوفها الخلفية في دول أميركا اللاتينية، استعداداً لخطوات أوسع في المناطق الأخرى حول العالم، وتحركات روسيا والصين هو لاستدراك ما تنوي واشنطن فعله في الشرق الأوسط وإفريقيا وشرقي أوروبا وبحر الصين. هذا هو المشهد الحقيقي الواسع، أما صاحب النظرة القاصرة فيقول: “على موسكو أن ترحل من سوريا”!

إيران دولة قوية ساهمت في الحرب بجانب سوريا، لكنها غير قادرة على تأمين حماية دولية وإقليمية لسوريا في مواجهة التحديات والدول الكبرى، وهي تقتربُ من حصار كامل قد تصبح بعده بحاجة لمن يحميها. كما أن هناك شكوك بجدوى تحالف طهران مع تركيا وقطر وكذلك بخصوص التوجه الديني في بناء منظومة العمل السياسي، والذي يؤثر بشكل سلبي على سوريا من حيث العداء مع المحيط، فالعقيدة الأيديولوجية لدمشق تختلف تماماً من حيث النظام السياسي عن إيران ذات نظام الحكم الديني. من عناوين المرحلة القادمة “الصراع بين دول الإسلام السياسي” إيران تركيا السعودية، وسوريا لا ناقة لها ولا جمل بهذا الصراع… لهذا كله، أكثر ما يربط دمشق بطهران هو الصراع مع العدو الصهيوني ودعم المقاومة، بالإضافة لروابط اقتصادية.

الوجود العسكري والاقتصادي الروسي جاء بطلب من الحكومة السورية، لهذا هو وجود شرعي لتحقيق مصالح مشتركة. استمرارهُ بل توسيعهُ ضروري على المدى المنظور استعداداً للمراحل والاستحقاقات الهامة القادمة. خبرتنا بالعقلية السوفيتية تؤكد أنهم لا يتدخلون بسياسة الدول ولا يفرضون عليها اتخاذ نهج معيّن كما تفعل واشنطن، استقلالية قرار حرب تشرين والتصدي للغزو الإسرائيلي للبنان شاهدٌ، نتوقع من فلاديمير بوتين أن يُحافظ على هذه العقلية. زيد م. هاشم. إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات. الدكتور جميل م. شاهين.