المغامرة الأميركية والصِدام الكبير القادم. مركز فيريل للدراسات

لمركز فيريل للدراسات ـ برلين الكاتب سالم المرزوقي، تونس.

الأمريكي الذي يقود معسكر الحلف الصهيوأطلسي لا يعبث بالاستراتيجيات، ولا يقبل التنازل عن عرش الهيمنة على العالم، حتى لو اقتضى الأمر السير على حافة المغامرة في الصدام مع القوى الكبرى الصاعدة كروسيا والصين، فما بالنا بالصدامات الصغرى المشتعلة مع قوى المقاومة هنا وهناك، في أمريكا اللاتينية وأوروبا ومنطقتنا العربية، ما يعني حتماً مزيداً من الاشتعال والفوضى والتدمير وتوسيع رقعة الحروب لتشمل دولا ومناطق أخرى، إذا اقتضى الأمر لتغذية الصناعات العسكرية وترميم المشروع الاستعماري الذي بدأ يترنح بسياسة أوباما والديمقراطيين الناعمة، لكل هذا جيء بالفاشي دونالد ترامب للبيت الأبيض لإحداث الضوضاء المطلوبة، لخداع الرأي العام العالمي باسم الانكفاء نحو الداخل والايهام بالتراجع والتقوقع.

يتأتى الحديث عن الخداع والايهام من المنطق، فلا يمكن للإمبريالية المأزومة اقتصادياً والمفضوحة ثقافياً، أن تتراجع عن تحقيق أهدافها، إذاً وبناءً على هذا فالإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة مجبرة على التصعيد لا على الانكفاء في محاوله للبقاء وتثبيت مواقعها الاستعمارية على الأقل، لإنقاذ الداخل المتصدع موضوعياً.

الجولة التي قام بها ترامب في منطقتنا العربية وأوروبا، كانت ضربة البداية لما هندسَه الاستراتيجي الأمريكي كمتاريس نوعيه للذود عن مكانة النظام الرأسمالي، وترجمة بلغة جديده لمقولة وزير الدفاع السابق رامسفيلد عن أوروبا القديمة وديمقراطيتها البالية التي أدت الى ترنح وتصدع القلاع الرأسمالية وظهور قوى جديده بدأت ترفع صوتها بوقاحة في وجه العم سام وذويه.

لن نهتم في هذا المقال بما فعله ترامب في أوروبا، والإهانات التي ألحقها بزعمائها والطلبات التي وضعها على طاولة الحلف الأطلسي، لأن ثمة فرق بين تربية الحلفاء وسوق قطيع العملاء، وكذلك لعدم إلمامنا بخفاياه. سنتحدث عمّا فرضه في قمة الرياض أمام الخمسين المجمعين من العرب والمسلمين، والذي بدأت تتكشف خفاياه بسرعة في ظهور أزمات وصراعات وأولها أزمة قطر مع حاضنتها الخليجية.

القط السمين… السيسي، والفأر الصغير… تميم

في تقديرنا؛ جاءت أزمة قطر والإخوان مع الخليجيين، عرضاً وليست في لب الاستراتيجية الأمريكية، فالتضحية بفأر صغير كقطر والإخوان، لنيل قط سمين كمصر، هو عنوان الصفقة الرابحة لترامب وصانعي السياسة الأمريكية، والإطاحة بقطر والاخوان وحتى أردوغان، لا تداعيات لها ولا خطورة منها، بل فيها فائدة للتخلص من بشاعة ما أُقترف من إرهاب وخراب وجرائم في المنطقة، و مسحه في أدوات صغيره لا أهمية لها مثل قطر.

قلنا عرضاً… لأن مصر عبدالفتاح السيسي (القط السمين)، لا يمكنها الانخراط في المشروع الصهيوأطلسي بلا غطاء، حتى لو كان مرقعاً، لتصريفه لدى الشعب والجيش المصريين كإنجاز يستحق الانخراط، هذا الغطاء هو مقاومة الارهاب الذي يهدد مصر، وعنونته بعنوان وحيد هو “الإخوان المسلمون” وداعميهم قطر وتركيا. فإذا نجح السيسي في تمرير هذه الصفقة، فقد نجح في إعادة مصر لحضيرة كامب ديفيد، وتحذف نهائيا إمكانية عودة مصر لمعسكرها القديم مع سوريا والجزائر وفصائل المقاومة العربية، وهو ما بشّر به ترامب إبان حملته الانتخابية في إعادة النظم المستقرة. لكن الأمريكي الذي لا ينكفئ، يريد ثمن هذه السياسة، فمن أراد السلطة والاستقرار والحماية، عليه أن يدفع ثمنها وهذا ما حصل مع السعودية بضخ نصف تريليون دولار في الخزانة الأمريكية، وما سيحصل في أوروبا بدفع 2% من دخلهم الخام، لتمويل الحلف الأطلسي، أما مصر الفقيرة فالثمن أرض لا بل أراضي كما سنرى لاحقا ولإسرائيل تحديداً.




قِمة الحِسان البيض في الرياض

غطى الطابع الاستعراضي المكلل بالهدايا والمال والبيض الحسان، قمة الرياض وتعمّد الاعلام تغطيتها بشكل هزلي كاريكاتوري، ولم ينتبه حتى ضحاياها مثل قطر الحاضرة هناك لما يحاك في كواليسها، بل حتى كبار المحللين والمتابعين لم يدرك خفايا تلك القمه إلا في الأيام الأخيرة… أُطلِقت يد السيسي في ليبيا وأزمة قطر الخليجية ووقعة الاخوان في ليبيا، وحملة الباجي قايد السبسي ضد الفساد في تونس، وغيرها من إرهاصات قمة الرياض، رغم هذا لم يدرك المتابع حتى الذكي خطورتها إلا بعد أن طفت قضية الجزر المصرية صنافير وتيران، وتسليمها لمملكة آل سعود، هذه الجزر كشفت المستور الشيطاني ولاح طيف الصهيوني الذي كان حاضراً وفاعلا بقوة، وأنّ كل ما ظهر من أحداث ليس إلا مقدمات وتكتيكات عرضيه لتمرير المشروع الاستراتيجي لبناء الإمبراطورية الصهيونية وتثبيتها، بعد أن كانت محمية صغيره في فلسطين المحتلة وتشكل عبئا على منظومة الغرب.

استلام جزرتي تيران وصنافير المصريتان من طرف آل سعود، كان المفتاح المتأخر لفهم أعماق قمة الرياض التي تعني تسليم الجزر والمنافذ البحرية لسيطرة اسرائيل، باسم التعاون والاستثمار المشترك وقد سبق أن استولت الامارات على جزيرة سقطري اليمنية والعين على جزيرة أخرى لا تقل أهميه وهي جزيرة ميمون، ما يعني بسط النفوذ الاسرائيلي على البحر الأحمر وباب المندب، تمهيدا لحفر قناة من خليج العقبة حتى البحر المتوسط، تكون موازيه لقناة السويس التي ستتحول لخندق مائي ضحل لا قيمة لها، وسيجعل من سيناء صحراء قاحله معزولة لا تصلح إلا لإيواء مشردي فلسطين… حسب المخطط الصهيوني لقبر القضية الفلسطينية هناك، فمصر الفقيرة والتي ستزداد فقرا بفقدان قناة السويس وسيناء، ومياه النيل بسبب سد النهضة الأثيوبي، ستجبر كسلطة على الخضوع على الأقل لحقبة قادمة صعبة، بسبب تورطها في مشاكل معيشية، وخراباً إرهابيا يجعلها تحت الاستنزاف الدائم، وربما يؤدي لتقسيمها كدوله كبرى… أما الجيش والشعب فسيوضعان تحت سندان خطرين دائمين، إما التقسيم والقبول بفدرلة مفبركة على مقاس الحلف الصهيوأطلسي أو انهيار الدولة والسلطة على المنوال الصومالي والأفغاني…

المخطط الجهنمي بدأ تنفيذه

مخطط جهنمي مبرمج في غرف المخابرات الغربية، أتى بدونالد ترامب وماكرون وتيريزا ماي، وسيأتي بغيرهم في قادم الأيام… مخطط انتقل في أول خروج له من غرف المخابرات إلى الرياض، لصناعة أدوات وآليات جديده أكثر فعالية وأشد وطأه على شعوب ودول المنطقة، والتخلي عن الأدوات القديمة من أحزاب وتجمعات أثبتت فشلها وعدم انسجامها مع المشروع الإنقاذي لأزمة الرأسمالية العالمية الجشعة، وسليلتها الصهيونية، ونكاد نجزم أن هذه الموجه ستجرف حتى بعض الصهاينة كنتنياهو، الذين لم تعد عنجهيتهم الفارغة صالحه للمعارك القادمة مع حلف المقاومة بقيادة سوريا وإيران والكبار كالصين وروسيا، خاصة بعد أن عرّتهم المقاومة في فلسطين ولبنان، وكذلك صغار الملوك كعبدالله ومحمد السادس وقابوس، لأدوارهم السلبية في الصراع. إن هزيمة الجيش الأمريكي في العراق وصمود الجيش السوري وقيادته المتقنة لوحدة حلف المقاومة، واستعادته لزمام المبادرة على الأرض وفي السياسة والتحول الاستراتيجي الذي أحدثه هذا الحلف دولياً، جعلت الحلف الرأسمالي الغربي يخشى انهيار منظومة القانون الدولي، الناتج عن الحرب العالمية الثانية، فلم تعد انتصارات المقاومة اللبنانية على اسرائيل معزولة يمكن اختزالها في قرار أممي كما في السابق، ولم يعد العراق المحتل يخضع لدستور بريمر، ولا قادراً على احتواء القوه الإيرانية الصاعدة وأصبح للمقاومة الفلسطينية صداها الايجابي في عمق المجتمعات الغربية، وتحولت المعركة على أرض سوريا لحرب كونيه تتشابك فيها مصالح دول كبرى مثل دول البريكس الصاعدة، هذا هو التحول الاستراتيجي الذي صنعته المقاومات العربية والدول الوطنية المستهدفة في تحويل دول كروسيا من حليف نمطي كما في العهد السوفياتي، الى حليف نوعي منخرط في الصراع مباشرة، وكذلك الصين والهند التي تتحين فرصة تقويم القانون الدولي الأعرج على مستوى اقتصادي سياسي. كل ما ورد دفع الحلف الرأسمالي لرفع درجة الإنذار لدرء شبح الهزيمة في ظل اختلال ميزان القوى على الأرض.

هل سينتهي الصراع بانتصار الجيش السوري؟

لن ينتهي الصراع؛ بانتصار الجيش السوري وحلفائه وتحرير الأرض السورية من الإرهاب… ولن تنتهي أزمة اليمن بتسوية مع الحلف الحوثي الصلب، ولا بتسوية للقضية الفلسطينية ولا بنجاح السيسي في تثبيت الدولة الليبية، ولا بتقسيم العراق…

نجزم أنه الآن سيبدأ الصدام الأكبر والحرب الأشرس على جميع المستويات، لأن أية من هذه النهايات التي ذكرناها تعني استسلام الإمبريالية وسقوطها، وهو ما يتناقض مع القوانين الموضوعية، فالإمبريالية مازالت قوه عظمى تمتلك امكانيات ضخمة، تمنعها من التفريط في مواقعها، كل هذا يدفعنا للقول أن الجبهة الجنوبية والبحر الأحمر ستكونان مجال اسرائيل العسكري، اسرائيل التي أصبحت عاجزه في الشمال وتبخرت أحلامها في إسقاط سوريا وتفتيتها وتحويل نهر الفرات وأنابيب الغاز لشعب الله المختار، اسرائيل ستوكل لها المهمة الأسهل، سحق التمرد في اليمن وتدميره والسيطرة على السعودية والسودان بالسياسة أو القوة، أما الولايات المتحدة والحلف الأطلسي، فسيضطران بعد انهيار الأدوات الإخوانية الإرهابية في سوريا والعراق لإحداث خرق بين العراق وسوريا، بل حتى المغامرة بإعادة احتلال العراق وفرض التقسيم ورسم خرائط جديده تحسن تموضعهم في التسويات مع الكبار، وتهيئ لاستنزاف سوريا وإيران معا وتطيل أمد الحروب أكثر ما يمكن، وسوف نتحدث في مركز فيريل لاحقاً عن المواقع القادمة للصراع الكبير بشكل أكثر تفصيلاً.

أخيراً…

 يمكننا القول أن الحلف الصهيوأطلسي قد ضاقت أمامه الخيارات وانتهى زمن المناورة، وقمة جدة وضعت السيناريوهات الصدامية واستبعدت التهدئة والانكفاء، ولأن الوقت أصبح في صالح الحلف المقاوم في سوريا والعراق واليمن، شاهدنا سرعة تسليم الجزر المصرية والتغيرات الفجائية في طرابلس وتونس، وأكيد قادم الأيام ستكشف من أي الجبهات ستنطلق شرارة الحرب الكبرى وأي الرؤوس ستطير قبل غيرها…

الكل مذعور؛ ملوك وزعامات ودول أصبح مصيرها مرتبط بما تخفيه الإدارة الأمريكية في أدراجها، ويظل السؤال عن دور تونس التي حظي رئيسها الباجي ببروتوكول أكبر من حجمه في قمة الرياض، وفي روما إبان قمة السبع الكبار، رغم أنه يحمي تحت جناحه أكبر العصابات الإخوانية ويرأس تونس ذات الموقع الجيوسياسي النوعي في شمال افريقيا، وعلى حدود الجزائر وليبيا الدولتان النفطيتان والحائزتان على مساحات هي الأوسع في افريقيا، لهذا لا أحد يصدق أن الرئيس التونسي حظي بكل ذاك الترحاب صدفة، ولم يطلب منه دور مّا في المشروع الصهيوأطلسي، ليس أقله تقليم أظافر الاخوان بشكل يسهل التحكم فيهم وادخارهم للانقضاض على دول تستحق أن تدمر على المنوال السوري والعراقي (الجزائر مثلاً)، وقرص من يتمرد من أوروبا بأعمال إرهابية.

ختاما نقول: لحلف المقاومة بقيادة سوريا وحلفاءها الايرانيين و الروس حساباتٌ تتجاوز المنطقة، ولن يفرّطوا في التضحيات و الانجازات الإستراتيجية التي تحققت، فمن الذي سيصرخ أولاً في المواجهة القادمة؟ لمركز فيريل للدراسات ـ برلين بقلم الكاتب سالم المرزوقي، تونس. 18.06.2017