الدين الإبراهيمي الجديد في الشرق الأوسط. الكاتب والمُفكّر نبيل صالح

الدين الإبراهيمي الجديد في الشرق الأوسط. الكاتب والمُفكّر نبيل صالح. 24 أيلول 2021. مركز فيريل للدراسات، عدد القراءات 709816

الإبراهيمية؛ هي الدين السياسي الجديد في الشرق الأوسط، برعاية واشنطن وتل أبيب والأمم المتحدة والفاتيكان، وتعاون آلاف رجال الدّين ممن يعملون بالسياسة و”البزنس”. بالطبع ينقسمُ الناس حوله، فينكرُهُ المتشددون دينياً والعلمانيون والممانعون، ويدخلُ فيه دعاةُ السَّلام والمستثمرون والمنافقون وأنصافُ العلمانيين. 

الأديان الإبراهيمية

تذكر كتب التاريخ أنّ أتباع الديانات الإبراهيمية احتلوا مدينة القدس كل بدوره عدة مرات، وعانى المقدسيون طوال ثلاثة آلاف عام وصولاً إلى الاحتلال الإسرائيلي لها عام 1948، حيث خرَّبوا على العرب نموَّ العلمانية وبناء دولة المواطنة، إذ حرضت يهودية الدولة الإسرائيلية الإسلاموية العربية، وأعادت بلدان المنطقة إلى ما كانت عليه أيام الاحتلال العثماني، ليتطور الصراع من يهودي-إسلامي، إلى إسلامي إسلامي، بحيث تمكنت “إسرائيل من اختراق غالبية الدول العربية وتحويل الصراع ضد إيران بحجة مواجهة الخطر الشيعي؟! 

أما قصة إبراهيم الخليل جدِّ الأنبياء الموحدين، فلم يتمَّ تأكيدها علمياً حتى الآن، لتنشأ عند علماء التاريخ العديد من الأسئلة: فلو أنه جد العرب فكيف حدث وأنهم من بعده كانوا يعبدون الأصنام في كعبة إبراهيم محطم الأصنام الداعي إلى وحدانية الخالق! بل كيف يكون جد العرب وقد جاء من بلاد غير بلادهم (من حران شمال سورية)؟ وما الذي دفع إبراهيم للارتحال عكسياً مع عائلته من الفرات حيث الماء والكلأ إلى فلسطين فمصر فالحجاز حيث القحل وشحُّ الأمطار وانتفاء الأنهار والصراع بين القبائل على بقعة المرعى، القبائل العربية التي كانت ترحل دائماً نحو الشمال حيث الماء والكلأ؟! وكيف تلد امرأته العاقر هاجر بعدما تجاوزت الستين من عمرها بينما زوجها العجوز مشغول بجاريتها سارة؟! وهل يعقل أن شبه الجزيرة كانت فارغة خلال مليون عام مضت حتى مجيئه وبذر سلالته فيها؟ وأية لغة كان يتكلم: العربية أم العبرية أم الآرامية؟ بالطبع إن الله على كل شيء قدير، ولكن لماذا على الله أن يخالف القوانين الفيزيائية التي أرساها لينظم حركة الكون؟! هذه أسئلة تحتاج إلى أجوبة لكي نفهم كيف يمكن أن يكون العرب والعبرانيون والآراميون من جد واحد!؟ 

فوضى دينية وديانة جديدة

من رحم هذه الفوضى الدينية والمذهبية المشرقية، أطلَقَتْ الإمبرياليةُ الغربية الديانةَ الإبراهيمية الجديدة اعتماداً على المشتركات بين الأديان الثلاثة، وهي مشتركات إنسانية ما قبل إبراهيمية، تعتمد على جملة المحرمات الأخلاقية التي كان يعاقب مرتكبها في الشرائع القديمة (لا تكذب لا تقتل لا تسرق لا تزن لا تهزأ بإله غيرك..).

أما بخصوص اليهود فكانت المشكلة معهم أنهم أقفلوا الدعوة الإبراهيميّة التوحيديّة عليهم، ورفضوا الدعوتين الجديدتين: المسيحيّة والإسلاميّة. فهم يرون أنه لا نبوة ولا كتاب إلّا ما قالوا به هم، وانتسب إليهم، بما في ذلك الانفراد بأنهم أولياء الله وأحباؤه. ثم وفي القرنين السابع والثامن للميلاد ظهر القراؤون الذين أرادوا استحداث تأويل جديدٍ للتوراة متأثرين في ذلك بما كان يحدث داخل المسيحيّة؛ بل وكانوا يرون أنّ الإسلام ليس إلّا انشقاقاً في المسيحيّة أو فرقة جديدة فيها. وأمّا المسيحيون بِفرَقهم الثلاث الرئيسة (الملكية واليعقوبية والنسطورية)، فإنهم أطلقوا على الإسلام اسم “الهاجرية، باعتباره انشقاقاً أو هرطقة قام بها الجنس العربي ليحولوا دون استمرار المسيحيّة في الانتشار بين العرب. وهناك الكثير من الروايات عن جدال وحواراتٍ بين المسيحيين والمسلمين في القرنين الأول والثاني للهجرة والثامن والتاسع للميلاد يذكرها عادل تيودور خوري في أُطروحته عن “الجدالات البيزنطية ضدّ الإسلام”: فعلى الرغم من العلاقات الإنسانيّة الطيبة بين الطرفين لم يخفّ أو يتضاءل الخلاف العَقَدي، بل تزايد في زمن القرآن والصحابة، حيث أراد المسلمون جمع أهل الديانات الثلاث تحت لواء الإبراهيمية التي حدد القرآن مبادئها في إعلان (الكلمة السواء). لكن المثقفين المسيحيين كانوا يخوضون في تفصيلاتٍ لا تنتهي عن أصول الإسلام، والتي تجعل من غير الممكن انتماؤه إلى الميراث الإبراهيمي. ومن ضمن تلك التفصيلات قَصص ورقة بن نوفل وبَحيرا الراهب والتناقُضات داخل النصّ الإسلامي.

رد المثقفون المسلمون عليهم كما في رسالة الجاحظ في الردّ على النصارى، ورسائل الكندي الفيلسوف والقاسم بن إبراهيم والطبري. ثم كتابات أبي عيسى الورّاق في الردّ على الفِرَق المسيحية الثلاث. يرجح السيد أنّ المعتزلة هم الذين بدؤوا هذه الردود، حيث تتضمن أربع موضوعات رئيسة: المسائل المتعلقة بطبيعة المسيح وأسرار تلك الطبيعة بحسب الفِرَق المسيحية المتصارعة حولها، والمسائل المتعلقة بالأقانيم وأنها ليست هي الصفات التي عرفها علم التوحيد الإسلامي. والمسائل المتعلقة برواية الكتب المقدّسة وبخاصةٍ الأناجيل. والمسائل المتعلقة بالحياة الدينية ونظام الكهنوت لدى المسيحيين. ففي نظر المسلمين كاتبي الردود؛ فإنّ ذلك كله يوحي بالخروج على الوحدانيّة، وعلى طبيعة الإنسان التي تأبى تلك الأسْطرة المعقدة بوصفها ديناً. ولم يقصر المفكرون المسيحيون في ردودهم على الدعاوى الإسلامية وانتقادهم لتعاليم القرآن وطرائق جمعه ونقله: فانتقدوا جبروت دولة الإسلام، واختلاط الدين بالسلطة في الشرعنة والتسويغ. وقد كانوا حذرين بشأن الوحي والنبوة؛ لكنّ أقصى ما كان أحدهم مستعداً للتنازل من خلاله للمسلمين هو القول: إنّ محمداً سار في طريق الأنبياء، فقد ظل الطابعُ الغالب على ردودهم الدفاعَ دون الهجوم. وعلى امتداد ثمانمائة عام لم يخبُ الجدال ولم يتراجع. وقد كان هؤلاء العلماء من الطرفين مؤدبين في التعامل بعضهم مع بعض في المجالس العلمية التي كانت تنعقد في القرنين الرابع والخامس للهجرة.في زمن الاستعمار الأوروبي غابت ثقافة الدفاع عن المشترك الإبراهيمي بين الطرفين، وكان كثيرٌ من مثقفي المسلمين بما فيهم العلمانيين يرون أن الاستعمار يحمل عِرقاً مسيحياً ظاهراً، ويشجع على التبشير.

عندما كانت الولايات المتحدة تتعامل مع قضايا السياسة الخارجية الخاصة بالشرق الأوسط، أدركت أنه إذا كانت القُـدس مُـجرّد قضية أرض متنازَع على مـلكيتها، لكان بإمكاننا حلّـها منذ سنوات طويلة، ولكن الواقع هو أن أطراف النِّـزاع يُـؤمنون بأنها أرض ومقدّسات أعطاها الله لهم، ولذلك، أصبح لقضية القُـدس أبعاد مختلفة تماماً، وهكذا اتَّـضح لي أكثر فأكثر أن كثيراً من الصراعات التي أعقبت الحرب الباردة، كانت لها علاقة بالدِّين، ولذلك أصبح يتعيّـن على المهتمِّـين بشؤون السياسة الخارجية أن يتفهّـموا دور الدِّين كقُـوة في قضايا السياسة الخارجية وكيفية استخدام البُعد الديني في العـثور على العناصر التي تجمّـع بين أطراف النزاع، وإذا درَس المرء الدّيانات الإبراهيمية الثلاث، سيجد فيها مفاهِـيم مُـشتركة عن السلام والعدل والخير”..

مع بداية الألفية الثالثة ازداد الانخراط بين الدبلوماسيّة والدّين في علاقات الولايات المتّحدة الأمريكيّة بالعالم الإسلامي. وتم تبني الدّعوة الأوروبية بخصوص الديانات الإبراهيمية، ولكن لأسباب غير دينية، بغية دعم مفاوضات السّلام الجديدة في الشرق الأوسط حيث يلعب القادة الروحيّون دوراً رائداً في مجتمعاتهم في تشكيل مواقف الأفراد من السياسات المحلية والدولية. في عام 2002 وباقتراح من الملك الأردني عبد الله بن الحسين قام معهد “بروكنغز” بإنشاء “مركز صبان” للأبحاث المتعمقة والبرامج المبتكرة لتعزيز أفضل إدراك للخيارات السياسية لصناع القرار الأمريكي في الشرق الأوسط.”. سمي المعهد على اسم اليهودي الثري حاييم صبان، أكبر متبرع للحملات الانتخابية في أمريكا للحزبين الديمقراطي والجمهوري وكذلك حزب العمل الإسرائيلي، حيث تبرع بمبلغ 13 مليون دولار لصالح تأسيس المركز وأكمل الباقي أمير قطر حمد بن خليفة.ويتوزع نشاط مركز حاييم صبان بين ثلاث مكاتب في واشنطن وتل أبيب والدوحة وأسسه اليهودي مارتن إندك سفير الولايات المتحدة في إسرائيل لمرتين، ونائب مدير أبحاث لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (آيپاك)، كما يذكر أنه كان متطوعاً في كيبوتس إسرائيلي أثناء حرب تشرين 1973، وقد ضم المركز نخبة من الباحثين اليهود والمسلمين الأمريكيين. ومنذ سنة 2004 يقيم المركز مؤتمرات سنوية حيث حضر مؤتمره الأول أكثر من 165 مشاركاً من الولايات المتحدة و37 دولة إسلامية من السنغال إلى إندونيسيا، من بينهم زعيم إخونج تونس راشد الغنوشي والإخونجي المصري يوسف القرضاوي والرئيس الأفغاني حميد كرزاي والأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامية الإخونجي التركي إكمال الدين إحسان أوغلو، والصادق المهدي زعيم حزب الأمة الإسلامي، وزعيم حزب العدالة الإخونجي رجب طيب أردوغان، وكبار شيوخ المؤسسة الوهابية السعودية، ووكيل الأزهر عباس شومان. ومنذ سنة 2005 يعزز المركز حواره مع الشخصيات الإخونجية الذين رحبوا بالاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاههم، ووجدوا أنفسهم مرة أخرى أمام خيار محاصرة الأنظمة العلمانية، والانخراط في لعبة المصالح الدولية، إلى أن نضجت خطة الربيع الإخونجي سنة 2008 أثناء انعقاد مؤتمر المركز السنوي في إسرائيل. وكان يفترض أن يحكم الإخونج المؤيدون للتوجه الإبراهيمي في بلدان الربيع العربي، وما زلنا نذكر فضيحة مراسلات الرئيس مرسي مع شمعون بيريز.جدير بالذكر أن معهد صبان قد استضاف في تموز ٢٠١٣، الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسيّة، وألقى الغنوشي خطابه في المركز محاطاً بترحيب حار، كما أقام المركز في العام ذاته في واشنطن حفلَ تكريم للشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطريّ السابق ومنسق أعمال الربيع العربي بين واشنطن والإخونج.كذلك يتم توظيف الدين في السياسة من قبل مدعي العلمانية عبر “مؤتمرات حوارات الأديان” حيث تستخدم القوى الناعمة في حسم الصراعات، وضمان أفضل النتائج من دون تكبد خسائر مادية ودفع فاتورة حروب باهظة الثمن. 

استخدم الأمريكان في ثمانينات القرن الماضي الديبلوماسية الدينية كجزء من خطة تفكيك الاتحاد السوفياتي، وهم يستخدمون هذه الديبلوماسية منذ بداية الألفية الثالثة لتفكيك القضية الفلسطينية، وتمييع الصراع على القدس، من خلال استغلال فكرة الفاتيكان الإبراهيمية التي كان يهدف منها إلى تفكيك الألغام الدينية التاريخية وتحقيق السلام، بينما تقوم ديبلوماسية واشنطن على النقيض منها. ومنذ سنة 2013 تم إنشاء فريق عمل حول الدين والسياسة في وزارة الخارجية بقرار من “هيلاري كلينتون”، يضم 100 عضو أغلبهم رجال دين من الديانات الثلاث يعملون إلى جانب الدبلوماسيين بالوزارة، ولا يزال هذا الفريق قائمًا حتى الآن.ومن أكثر الناشطين ضد المشروع الإبراهيمي الدكتورة المصرية هبة جمال الدين أستاذة العلوم السياسية والدراسات المستقبلية بمعهد التخطيط القومي وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، وإن غلب على نشاطها الإثارة الإعلامية التي تضعف الرؤية الموضوعية في استشراف الحدث، حيث تقول أن القادة الروحيين، وخصوصا الصوفيين، هم من الأدوات المهمة لقيام المشروع الإبراهيمي وجذب المريدين والمؤمنين بالفكرة، حيث يتم اختيارهم بناء على معايير كثيرة، أهمها تمتعهم بالتأثير الفعلي داخل مجتمعاتهم، حيث يتم نشر الأفكار والحوار بشأنها عبر تقديم خدمات تنموية على الأرض بهدف مكافحة الفقر في العالم وخلق دخلٍ للأسر الفقيرة لتصبح من أصدقاء السلام العالمي. وقد تم ربط هذه الفكرة بأهداف التنمية المستدامة باعتبارها تهدف أيضا لمكافحة الفقر العالمي عبر الحوار الخدمي، حيث تم تفعيل السياحة الدينية المشتركة، باعتبار أن دول المنطقة جميعها تضم مقدسات دينية تاريخية، وتعاني – في الوقت ذاته – من مشاكل اقتصادية تحتاج لتنشيط مصدر جديد يدر الدخل.

بالإضافة إلى مشروعات ريادة الأعمال التي تمثل مصدر دخل للأسر الفقيرة، وتحظى بقبول مجتمعي، بالنظر إلى مساهمتها في مكافحة الفقر. كما يتم التركيز على شريحة الشباب المسلم باعتبارهم أساس الحركة المجتمعية، حيث يتم تدريبهم مع غيرهم من أتباع الأديان الإبراهيمية لكسر جدار العزلة والوصول إلى طقوس دينية جديدة تدمج بين الأديان الثلاثة، ومن ثم يتم استخدامهم في التبشير بين مجتمعاتهم لإقناعهم بتطبيقها داخل دور العبادة.ويتوفر للمشروع الإبراهيمي عدد من الكيانات العلمية الداعمة للفكرة، كالجامعات الدولية، وفي مقدمتها جامعة هارفارد ومشروعها الذي يرصد رحلة النبي إبراهيم بين عشر دول ليرسخ الفكرة الإبراهيمية بين الدول المختلفة. بالإضافة إلى استغلال المحافل الدولية التي تمثل تطبيقاً عملياً، كالمؤتمر السنوي لمركز الصبان في قطر كما ذكرنا، ومؤتمر دافوس الذي تُعقد على هامشه لجنة المائة التي تهدف بدورها إلى الوصول للمشترك الإبراهيمي والتقارب بين القيادات الروحية والسياسية لتوفير كل سبل الدعم الممكن.وبالطبع فإن ذلك سوف يستدعي إعادة قراءة النصوص الدينية، واستخدامها بما يؤكد النهج السياسي للدول والمؤسسات الراعية للمشروع. وقد رأينا فيديوهات للعديد من المطبعين السعوديين والخليجيين يعيدون فيها استخدام “الإسرائيليات” الواردة في القرآن الكريم لتأكيد التطبيع، حيث يزخر القرآن الكريم بالحديث عن بني إسرائيل الذين فضلهم الرب على العالمين!! 

احتضان الدين الإبراهيمي الجديد