استراتيجية الدعم الحكومي التنموي ورفع الدعم التقليدي. المستشار الدكتور أحمد الحموي

منذ أكثر من أربعة عقود تنفق غالبية الدول العربية على اختلاف نُظمها السياسية، عشرات المليارات من الدولارات لدعم السلع الاستهلاكية والخدمات الأساسية كالخبز والسكر والأرز والأدوية وخدمات الصحة والمياه والكهرباء والمحروقات، ويتم هذا الدعم من خلال بيعها للمستهلك النهائي بسعر أقل من سعر السوق، على أن تتحمل ميزانية الدولة الفرق بين السعرين. يلتهم الدعم المذكور مبالغ ضخمة من الموازنات والناتج الوطني.

ما هو الدعم الحكومي

الدعم هو شكل من أشكال المساعدات المالية أو الإعانات المقدمة إلى قطاع اقتصادي، أو مؤسسة، أو عمل تجاري، أو أفراد، بهدف تعزيز السياسات الاقتصادية والاجتماعية.

يهدف الدعم إلى تخفيف الأعباء المالية على المواطنين من خلال تقديم إعانات نقدية أو سلعية، بهدف تخفيض حدة التضخم وخفض أسعار السلع والخدمات.

بصيغة أبسط نقول: الدعم في مجال الاقتصاد هو تحمّل الحكومة جزءاً من ثمنِ مادةٍ معينة؛ وذلك لبيعها للمواطنين بسعرٍ مخفّض، وبالتالي يكون معنى “رفع الدعم” هو إلغاء مشاركة الحكومة في شراء هذه المادة وتركها تُباع بسعرها الحقيقي دون تخفيض.

مشكلة الدعم الحكومي

غير أنَّ مشكلة الدعم الحكومي للسلع الاستهلاكية لا تكمن فقط في الضغوط المالية على نفقات الدولة والأضرار التي يتم إلحاقها بقطاعات اقتصادية أخرى؛ بل أيضاً في كونها تنطوي على الكثير من الهدر في استهلاك تلك المواد؛ من مياه وخبزٍ وكهرباء والسلع الأخرى بسبب انخفاض أسعارها، حتى إنَّ هذا الوضع يترك تبعات مدمرة على المنتجين في العديد من القطاعات الزراعية والصناعية التي لا يمكنها المنافسة أمام السلع المستوردة والمدعومة، وهو الأمر الذي يدفع هؤلاء المنتجين لترك عملهم وأنشطتهم في هذه القطاعات إلى غير رجعة، وبالتالي هو عملية تدمير لبعض النشاطات الاقتصادية أو الزراعية.

وعلى صعيدٍ آخر فإنَّ تقديم الدعم لجميع المستهلِكين، ليس عادلاً كونه يُقدَّمُ للغني والفقير على حدٍّ سواء، ولن ننسى أنَّ سياسات الدعم تساعد على ظهور مافيات تجارية، تقوم بتهريب السلع المدعومة إلى البلدان المجاورة، كما تقوم بتخزينها واحتكارها لبيعها لاحقاً بأسعارٍ عاليةٍ عندما يقلُّ عرضها في الأسواق، وبالتالي فالدعم باب واسعٌ للفساد في الدولة.

أهمية قيام الدولة بتطبيق الدعم الاقتصادي

عندما تقوم الدول بتطبيق مفهوم الدعم الاقتصادي بشكله الصحيح، يكون الهدفُ تقليل وإصلاح الفجوة بين فئات الشعب وتقنين التباين بين المدخول لدعم النمو الاقتصادي وتقارب مستويات الدخل.

بالمقابل؛ تلجأ الدول إلى الدعم لأغراضٍ سياسية، فأغلب البرامج الانتخابية تتوعد بخفض أسعار السلع الأساسية لزيادة شعبيتها، ففي حالة وقوع أزمات سياسية أو ثورات تلجأ بعض الأنظمة لزيادة الدعم لبث الطمأنينة واستقرار الأوضاع، وفي بعض الأحيان يستهدف الدعم الحكومي تثبيت أسعار السلع لإبقائها في متناول المستهلك والمنتج.

الآثار المترتبة على سياسة الدعم الحكومي

يتسبب الدعم الحكومي على النحو المشار إليه في تحميل الموازنة العامة للدولة مبالغ مالية كبيرة، توجه إلى الدعم وذلك على حساب الإنفاق على التعليم والصحة والبنية التحتية والسياحة و الأبحاث العلمية والتطوير بأنواعه.

العجز في موازنة الدولة يزداد سنوياً بزيادة المبالغ المخصصة للدعم، الأمر الذي يحول دون تحقيق معدل النمو الاقتصادي المطلوب ورفع مستوى المعيشة.

زيادة معدلات التضخم وارتفاع أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل العملة الوطنية، بسبب عجز الموازنة والاقتراض الداخلي والخارجي.

يتسبب الدعم أيضاً في سوء استخدام السلع والخدمات المدعومة والإسراف في استهلاكها كالمياه والكهرباء والخبز لانخفاض أسعارها، وقد تلاحظ مثلاً أن الخبز المدعوم يذهب إلى مزارع تربية الماشية والدواجن.

ثبت أن الدعم يستفيد منه الأغنياء والفقراء على حد سواء، فالبنزين والكهرباء مثلاً، يحصل عليهما القادرون بأسعار مخفضة رغم قدرتهم الشرائية المرتفعة، كما أنَّ أصحاب المصانع الكبيرة يتمتعون بما يُسمى «دعم المحروقات» الأمر الذي يترتب عليه إنفاق أموال الدعم في غير الأغراض المخصصة له.

لتدارك ذلك فإنه يلزم جهدٌ كبيرٌ لتحديد الذين يستحقون الدعم بالفعل وتنقية القوائم من غير المستحقين وفقاً للشروط المقررة، ومنحهم بطاقات إلكترونية، يستخدمونها عند شراء السلع المدعمة، وقد نجحت كل من البرازيل والهند في ذلك، إلا أنَّ ما يقف عقبةً في هذا الصدد في بعض الدول عدم توفر قواعد بيانات دقيقة يتم على أساسها تحديد المستحقين وفقاً لمستويات الدخول.

الدعم الحكومي والفساد

يضاف إلى ما تقدم أنَّ منظومة الدعم أدت إلى زيادة تفشي الفساد؛ من خلال ظهور فئة عمدت إلى التلاعب في المقررات المدعمة وقوائم المستحقين والاتجار فيها وتخزينها وبيعها في الأسواق بأسعار مرتفعة، وقد حققت هذه الفئة ثرواتٍ طائلة من أموال الدولة المخصصة لدعم الطبقات الفقيرة.

تقليص الدعم الحكومي

هناك خطوات إصلاحية تهدف إلى ترشيد الإنفاق عن طريق تقليص الدعم الحكومي لبعض السلع كالبنزين والمازوت والكهرباء وغيرها. جاءت هذه الخطوات بالدرجة الأولى استجابة للضغوط المتزايدة على الميزانية ولشروط صندوق النقد الدولي، إلا أنها وعلى أهميتها لم تحد كثيراً من عجز الموازنات الحكومية التي تسببها وبشكل كبير أموال الدعم المخصصة لدعم أسعار السلع الاستهلاكية، وإذا كانت دول الغنية كدول الخليج تسدُّ هذا العجز من عائدات النفط؛ فإنَّ الدول الأخرى تقوم بتمويله عن طريق الاقتراض أو زيادة الضرائب والرسوم التي تصيب أيضاً قطاعات إنتاجية ذات جدوى اقتصادية بالضرر، لاسيما عندما يؤثر رفع الضريبة على قدرتها التنافسية، ومما يعنيه ذلك أنَّ الدعم الحكومي المذكور يأتي أيضاً على حساب قطاعات اقتصادية رابحة يتم اقتطاع جزء من عوائدها، كان بالإمكان استثماره لرفع مستوى الإنتاجية والمنافسة.

تزداد المشاكل الاقتصادية والمالية والاجتماعية في العالم العربي تعقيداً على وقع اضطرابات ما عُرف بـ “الربيع العربي”، وتفرز هذه التطورات الجديدة تبعاتٍ سلبيةٍ تتمثل في تراجع الإنتاج والاستثمارات وارتفاع معدلات البطالة والفقر، كما أنَّ الأمر يصل في بعض الدول إلى حدِّ عدم القدرة على تحمّل العبء المادي لدعم الأسعار الاستهلاكية، وعلى ضوء ذلك يُفتَرض بهذه الدول المبادرة إلى القيام بإصلاحات عميقة جريئة تشمل تغيير سياسات الدعم الحكومي؛ بحيث يصل الدعم إلى الفقراء والمحتاجين فقط، (هذه الاستراتيجية الجديدة المقترحة هي لجميع المواطنيين كونهم متساوون بالدستور وستكون أنموذجاً لباقي الدول) ومما يتطلبه ذلك من رفع الدعم المباشر لأسعار السلع الاستهلاكية والتعويض عنه بشبكة ضمان اجتماعي محصورة بالفئات الفقيرة التي ينبغي أن تحصل على الحد الأدنى من متطلبات معيشتها اليومية، أما الفئات الغنية فينبغي تكليفها بدفع الضرائب حسب مستوى الدخل والقطاع الذي تنشط فيه.

هنا لا بدَّ من التأكيد على أهمية دعم السلع الإنتاجية والخدمات الأساسية من أغذية وأدوية وألبسة ومواد تعليمية بشكل غير مباشر، عن طريق القروض الميسرة والضرائب والرسوم المنخفضة التي تساعد على توفير هذه السلع بالاعتماد على الموارد والخبرات المحلية بشكل أساسي.

إلغاء الدعم الحكومي يوفّر المليارات سنوياً

يمكن للدول وضع اللبنات الاقتصادية الأولى على طريق الوصول إلى مجتمعٍ كهذا، من خلال توفير عشرات مليارات الدولارات سنوياً جراء إلغاء هذا الدعم، واستثماره في مشاريع البينة التحتية والخدمات العامة وغيرها، ومن شأن هذا الاستثمار تشجيع المبادرات الفريدة؛ وإقامة مشاريع إنتاجية متنوعة؛ زراعية وصناعية وخدمية من قبل القطاع العام والخاص، الذي ينبغي تعزيز هكذا دور في الاقتصاد الوطني، كما ينبغي عليه تحمّل العبء الأساسي في خلق فرص العمل الجديدة للشباب الذين يعانون من تفاقم مشكلة البطالة في عموم الدول.

هل تخفيض أو إلغاء الدعم الحكومي هو قرار اقتصادي جيد؟

الجواب مشروط: نعم؛ ولكن بشرط ألا تكون الحلول تقليدية مُتبعة أمام إلغاء الدعم، وذلك بالابتعاد عن حلول آلية التقشف، الذي بات سلاحاً ذو حدين حيث أن ضررها أكثر من نفعها، فسلبيات آلية التقشف قد تكون أكبر بكثير من الفائدة، والسبب هو أنه وللوصول إلى مستوى منخفض من الديون؛ يجب رفع الضرائب التي تشوه السلوك الاقتصادي بشكل مؤقت، أو يجب خفض الإنفاق الإنتاجي أو كليهما.

قد تكون تكاليف الزيادات الضريبية أو تخفيضات الإنفاق المطلوبة لخفض الديون أكبر بكثير من مخاطر الأزمة الاقتصادية الناجمة عن ارتفاع الديون والعجز في الموازنة.

بالابتعاد عن السياسات التوسعية أو سياسات التيسير الكمي، وهي عكس السياسات التقشفية، إنما سياسة نقدية توسعية حيث يشتري البنك المركزي مبالغ محددة سلفاً من السندات الحكومية أو غيرها من الأصول المالية، من أجل تحفيز الاقتصاد وزيادة السيولة في الأسواق، وهذه أيضاً  لا تعطي حلولاً قطعية وطويلة الأمد؛ بل تقف عاجزة بعد فترة من الزمن لتراكم المشتريات وعدم الاستفادة منها الاستفادة التامة.

لذلك كانت الاستراتيجية المقترحة وهي استراتيجية التنمية المجتمعية، من خلال مشاركة كاملة ومطلقة للأفراد بمدخراتهم وأموالهم لبناء المدن التنموية الكاملة التي يعيش فيها الأفراد، دون الحاجة للتملك و دون الحاجة لتخزين الأموال و دون الحاجة إلى التهرب و الهروب من المسؤولية الملقاة على عاتقهم في بناء وطنهم.

سيكون ذكر هذه الاستراتيجية بوقته كتجربة أولى خالية المخاطر ، تقوم بها سوريا بإلغاء الدعم الحكومي وتحويل المقدرات والمدخرات والمواد على اختلافها وأنواعها إلى شيءٍ متداول بيدِ الجميع؛ كلٌّ على حسب ما يريد ويرغب بما يتناسب وإمكانياته.

إذا تم تطبيق هذه الاستراتيجية فيمكننا القول في هذه الحالة: إنَّ هناك أثراً إيجابياً متمثلاً بنمو الناتج المحلي الإجمالي، وإن رفع الدعم هو عملٌ إيجابي، وسيكون هناك عمل مؤسساتي حقيقي بتكاتف وتعاون كافة المؤسسات للبناء وتحقيق هذه الاستراتيجية، وحماية المواطنين والرقي بهم إلى رتبة أعلى و أسمى بالتعامل. وسنجد أننا حصلنا على مواطن غيور على وطنه محباً لعمله، و يسعى جاهداً للعمل الجاد، للحصول على متطلبات الحياة المتوفرة بسعر منافس و بمتناول يد جميع العاملين المخلصين. إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات. 11.08.2022